خليل السواحري - المختار...

مخطئ من يظن أن سالم الزرزور مجرد مختار تسلق على أكتاف هذه المهنة أباً عن جد، فقد كان سالم مختاراً على الأصول أو كما يقولون مختاراً بأربعة وعشرين قيراطاً، فأهل القرية ما زالوا يذكرون المعركة الحامية التي نشبت بينه وبين محمد الأزعر وعلي الفار على المخترة قبل ثلاث سنوات، فعندما استبدلت الحكومة محافظ القدس راح كل من محمد الأزعر وعلي الفار يجمع تواقيع رجالات القرية على طلحيات طويلة من الورق يطالبون فيها بتنحية سالم الزرزور عن المخترة ثم إنهما تواعدا من وراء ظهر سالم على الذهاب إلى المحافظ لتقديم العرائض ولكن بحجة المباركة للمحافظ بمنصبه الجديد، إلا أن سالم تشمم فيما يبدو رائحة هذه المؤامرة، فأسرع لزيارة المحافظ وأكد ولاءه وإخلاصه له وللحكومة بأن وجه دعوة باسم الأهالي للمحافظ لزيارة القرية وتناول طعام الغداء، ولم يكتف بذلك بل لفت انتباه المحافظ إلى أن بعض المرتزقة ممكن يكنون له العداء يحاولون تشويه سمعته لدى المحافظ حتى يقوم بعزله وتنصيب أحدهم مكانه.‏
ومنذ ذلك الحين ومحمد الأزعر وعلي الفار يحاولان التقرب من سالم الزرزور بعد الفشل الذريع الذي أصابهما وسواد الوجه الذي حل بهما أمام الناس بفضل فهلوة سالم ودهائه. إلا أن المختار ظل يحتفظ لهما بهذه الفعلة السوداء في سجلات ذاكرته الخبيثة، ذلك لأنه يعلم أن شهوة المخترة سوف تظل تراود كليهما.‏
وقد صدقت توقعات سالم فما إن جاء الاحتلال حتى ظن كل منهما أن الفرصة قد لاحت لامتطاء جواد المخترة والتربع فوق امتيازاتها العظيمة، ولكن أحدهما لم يفاتح الآخر في نواياه حول هذا الموضوع بل غافل كل منهما الآخر وذهب على انفراد لزيارة حاييم ديفيد الحاكم العسكري الجديد في بيت لحم.‏
وفي هذه المرة أيضاً كان سالم الزرزور أكثر حنكة ودهاء فهو لم يذهب إلى حاييم ديفيد ولكنه توجه بعد ثلاثة أسابيع من الاحتلال إلى مدينة القدس قاصداً مقهى الباشورة وطلب من المعلم أبو بلطة أن يصلِّح له نفساً من التنباك العجمي، فقال له المعلم أبو بلطة:‏
-سلامة تسلمك يا أبو الفهد، التنباك العجمي صار في علب العرايس!‏
وتساءل المختار: لماذا؟‏
قال المعلم:‏
-لو أنك برمت القدس كلها على كعب واحدة لما وجدت ورقة تنباك عجمي!‏
قال المختار:‏
-المهم صلِّح لي نفس تنباك!‏
وحين كان المعلم يضع شيشة التنباك إلى جانب كرسي المختار، ويصلِّح من وضع الجمر فوقها قال له المختار:‏
-كيف الشغل اليوم.. هل ما يزال المخاتير يأتون هنا؟‏
قال المعلم أبو بلطة:‏
-المخاتير اليوم في ورطة بعضهم سلَّم ختمه وأخذ ختماً إسرائيلياً جديداً وبعضهم رفض.‏
قل لي يا أبو الفهد هل سلمت ختمك؟‏
وذهل سالم الزرزور فهو يسمع لأول مرة أن الأختام تسلَّم وهو لا يدري عن كل هذه المسألة شيئاً فقال:‏
-لا والله لم أسلِّم، ولكن كيف يسلِّمون؟‏
-بسيطة، تذهب إلى رئيس بلدية أورشليم وتسلِّم ختمك وتأخذ ختماً جديداً وراتباً شهرياً مقداره ماية ليرة.‏
وكاد سالم الزرزور أن يصفِّر فرحاً واندهاشاً ولكنه كتم تصفيرته وقال:‏
-يا سلام!‏
قال أبو بلطة بخبث: يعني ناوي إن شاء الله؟!‏
قال المختار:‏
-لا. لا ولكن قل لي من هو رئيس البلدية؟‏
-يقولون أن اسمه تدي كوليك أو كويك والله لا أدري؟‏
-وهل تعتقد أن كثيرين قد سلموا أختامهم يا معلم؟‏
-لا، ولكن تسليم الختم العربي واستلام الختم الإسرائيلي خيانة واعتراف بالاحتلال!‏
-يا سلام، وهل تظن أن الاحتلال بحاجة إلى اعتراف أشكالنا يا معلم؟‏
-نعم.‏
-لا تنه عن خلق وتأتي مثله يا معلم! ما دمت وطنياً إلى هذا الحد فلماذا تستقبل الزبائن اليهود كل يوم بالمئات؟ أليس ذلك اعترافاً بهم؟‏
-هذه مسألة أخرى يا مختار فأنا أرفض مثلاً أن أبيع أي نوع من الكازوز هنا لأن كل أنواع الكازوز أصبحت من صنعهم رغم أن كل الزبائن اليهود لا يطلبون إلا (العسيس).‏
وانكسف المختار وحاول أن "يتجرع البهدلة" بهدوء مخفياً مظاهر الإحراج الذي غطس فيه حتى أذنيه إلا أنه تدارك قائلاً وهو ينفخ نفساً من التنباك:‏
-والله رجعت أيام العسيس يا معلم!!‏
وحين انتهى من نفس التنباك لفَّ أنبوب الأركيلة عليها وغادر المقهى دون أن يتلفظ بكلمة واحدة.‏
***‏
عادة ما كان محمد الأزعر وعلي الفار إذا خلا لهما مجلس يتندران على المختار وينهشان سمعته ببذاءة مفرطة، وفي كثير من الحالات كان الشيخ بهلول ينسحب من الجلسات حتى لا يتورط في عداوة المختار وكان يبرر انسحابه عادة إما بحلول موعد الصلاة أو بأنه يريد أن يقضي حاجة، إلا أن محمد الأزعر كان لا يأبه لانسحاب الشيخ بهلول أو بقائه وكان يبدأ حديثه دائماً بقوله:‏
-اسمه على جسمه.‏
وأحياناً كان يبدأ حديثه بإنشاد عجز بيت الشعر المعروف:‏
-وفي البزاة شموخ وهي تحتضر.‏
ويتحدى الشيخ بهلول بأن يذكر صدر البيت، وحين لا يجرؤ الشيخ بهلول على ذلك كان علي الفار يقول:‏
-وفي الزرازير جبن وهي طائرة.‏
وكان محمد الأزعر يسأل علي الفار:‏
-كم رطلاً من الشحم يحمل الزرزور على كرشه؟‏
فيجيب علي الفار:‏
-أظن أن ستار الشحم على كرش مولانا المختار يفرش عشرة فدادين.‏
وهكذا كانت تمضي الجلسات التي كان حظ المختار التعيس يشغله عن حضورها وإذا حدث أن جاء المختار فجأة إلى إحدى الجلسات، كان محمد الأزعر يقطع الحديث قائلاً:‏
-أين دسَّمت شاربك اليوم يا أبو الفهد؟‏
فيرد عليه المختار بالمثل المعروف:‏
-قعد ذيل فيك يا أزعر!!‏
وكان المختار يأخذ مكانه من الجلسة ويبدأ في إدارة الحديث غير مبال بتنكيشات محمد الأزعر التي كانت دائماً تجرح المختار وتنفخ أوداجه، وحين قال محمد الأزعر ذات يوم مناكداً:‏
-يا خسارة يا أبو الفهد، راحت أيام الفرسان!‏
أحس المختار بامتعاض حقيقي لم يستطع أن يخفيه، ولم يكن امتعاضه لشعوره بالحرج أمام الحاضرين ولكنه كان ألماً حقيقياً هذه المرة، فمنذ الاحتلال والمختار يحس أن كارثة لئيمة قد حلت به.‏
يقول لام الفهد بلوعة:‏
-صرنا والله مثل الدجاج.‏
فتقول زوجته:‏
-وهل تظن أن الماية ليرة بدون ثمن؟‏
إلا أن ذكر الماية ليرة لم يعد يبهج المختار كثيراً فهي مبلغ تافه حقير بالقياس إلى المبالغ الضخمة التي كان المختار "يتسلبط" عليها من وراء الطوشات، وكان يقول لنفسه:‏
-والله كان الواحد يأكل مناسف بماية ليرة وأكثر.‏
***‏
هذه الليلة لاحظت أم الفهد أنه قد حل بالمختار أرق حقيقي، وقد اعتادت طيلة حياتها أن تسهر على أرق أبو الفهد بالشاي والقهوة وتصليح نار الأرجيلة كلما انطفأت، وعادة ما كان أبو الفهد يعرف أسباب ما يحل به من أرق، ولذلك فهي تحرص على عدم إزعاجه والاستفسار عن أرقه، فهو إما أن يكون على موعد مهم صباح اليوم التالي في إحدى الجلسات لإجراء مفاوضات مصالحة أو دية أو عطوة طوشه أو التحكيم في قضية خلاف على أرض فيقضي ليلته وهو يحضر حججه ويهندس منطقه ويرتب أفكاره، إلا أنها لاحظت هذه المرة أن أرق المختار غير طبيعي، وأنه ينفخ بعصبية ويشتم بين الحين والحين ويلعن أحوال هذه الدنيا العاهرة التي أوصلته إلى هذا الحد من الحرمان والقناعة الجبرية، وسمعته وهو يتخطى الباب خارجاً لقضاء حاجته يقول في لهجة وعيد مكتومة:‏
-والله لأطحن دماغه وألعن أجداده إذا تطاول عليَّ!!‏
وهمَّت أم الفهد أن تسأله عن معنى هذا الكلام إلا أنها خافت من لطمة تشقلب رأسها كالعادة إذا كانت حديدة أبو الفهد حامية، فسكتت، وقالت:‏
-ربما تناقر المختار اليوم مع محمد الأزعر أو علي الفار.‏
والحقيقة أن المختار أحس اليوم وهو يغادر مقر الحاكم العسكري في بيت لحم أنه تورط في مسألة خطيرة يصعب ترقيعها وأن الأمر قد خرج من يده، وأن الكذب والتزوير من أجل البلصات غير مأمون العواقب دائماً، فحين أخذته سيارة الشرطة لمقابلة رئيس البلدية قبل أيام أكد له حاييم ديفيد بعد أن شرب فنجان القهوة أن أخباراً قد وصلته عن وجود أسلحة مع بعض الناس في القرية وأن عليه أن يقدم كشفاً بأسماء هؤلاء لاستدعائهم وحذره من أن المعلومات مؤكدة تماماً ووعده أن يدفع له ماية وخمسين ليرة عن كل قطعة سلاح تسلَّم له.‏
وقد وقع المختار في الفخ ولم يستطع أن يمنع لعابه من السيلان على الماية وخمسين ليرة عن كل قطعة سلاح يقدمها، وبادر الحاكم العسكري وهو يقول:‏
-أعتقد أن بعض أصحاب المواشي عندهم بعض المسدسات.‏
وراح يعدد للحاكم العسكري الأسماء فلان وفلان وفلان.. ولكنه أحس بمرارة العمل الذي تورط فيه..‏
وحين وصل القرية توجه من فوره إلى دار أبو مطحنة وأخبرهم أن عليهم أن يقدموا المسدس الذي عندهم. فصاح فيه علي أبو مطحنة قائلاً:‏
-ومن قال لك يا جاسوس أن عندنا مسدسات؟ والله إن تكلمت بشيء ليكون رأسك هو الثمن!‏
فرد عليه المختار:‏
-لا تكبِّر كلامك يا علي، إن الحاكم العسكري يعرف كل شيء وأنا لم أتكلم!‏
-العب غيرها يا أبو الفهد!‏
-والله إنه يعرف!‏
-والله لقد وشيت بنا يا نذل وسوف تدفع الثمن.‏
وانقطعت أنفاس المختار، وهجمت على رأسه الهواجس ودب في قلبه رعب شديد.‏
اقتربت منه أم الفهد وقالت:‏
-الدنيا صارت نصف ليل وأنت لم تذق إلا القهوة هل أحضر لك العشاء؟‏
صرخ فيها أبو الفهد:‏
-لا أريد شيئاً! اذهبي ونامي يا امرأة!‏
وقبل أن تتفوه بكلمة كان الباب يطرق بعنف:‏
هربت كل الدماء من أطراف المختار وتجمد في مكانه، كان خوفاً حقيقياً يتجول في أعماقه ويقرع صدره بعنف وأخيراً وجد لسانه يهمس لأم الفهد:‏
-اذهبي وانظري من الطارق!‏
وانطلق صوت علي أبو مطحنة يقول:‏
-يا أبو الفهد أريدك في كلمتين هل تسمح؟‏
وراودت المختار نفسه بعدم الخروج إلا أنه ظن أن علي ربما أحضر له المسدس ليسلمه تحت الليل فقال:‏
-تفضل ادخل يا علي!‏
ولم يرد عليه الرجل بل ظل ينتظر في الخارج.‏
كانت نار الأرجيلة قد خمدت تماماً فطوى أبو الفهد المصاصة على عنقها وبحث عن حذائه.‏
وحين ابتعد الرجلان عن البيت قليلاً قال المختار:‏
-مالك يا علي؟ كفى الله الشر!‏
قال علي:‏
-أما زلت مصراً يا أبو الفهد على أن عندي مسدساً؟ هل تريد يا مختار أن توقعنا في داهية لا نخرج منها؟ أو لا تعلم خطورة ما أقدمت عليه؟‏
-والله يا علي لم يكن الأمر بيدي لقد أجبروني! ثم لماذا تخاف؟ سلمني المسدس وأنا أتعهد بأن لا يحدث لك سوء!!‏
-أنت جبان كل ذلك من أجل أن تظل مختاراً وتقبض ثمن المخترة! كم دفع لك الحاكم العسكري حتى أخبرت عنا؟ لقد بعت نفسك للشيطان وتريد أن تبيعنا وتبيع حتى بلادك... خذ...‏
وانقضت يد علي تطعن المختار في صدره وأتبعها بطعنة أخرى في بطنه وثالثة في عنقه. وتكوم سالم الزرزور كالثور الذبيح دون أن يطلق حتى صرخة واحدة.‏
كان الهدوء الوخيم يتثاءب فوق بيوت القرية وأزقتها ومن بعيد كانت تتجاوب في الأرجاء أصداء نباح الكلاب، وكان بعض الرجال ما يزالون يتحلقون في بيوتهم حول أضواء خافتة يتحدثون بهمس عن المختار الذي ذهب اليوم لزيارة الحاكم العسكري.‏


1720172599805.png




============
خليل السواحري
(1940-2006)
كاتب فلسطيني من أصل أردني ولد في عام 1940 بقرية (السواحرة) الواقعة جنوب شرق مدينة القدس
درس المراحل التعليمية الثلاثة الأولى، الابتدائية، والإعدادية في مدرسة السواحرة ثم مدرسة أبوديس والثانوية في مدرسة الرشيدية في مسقط رأسه مدينة القدس، ثم بمعهد المعلمين في العروب، فحصل على الدبلوم عام 1960، وتابع تعليمه العالي وحصل على الدرجة الجامعية الأولى في جامعة دمشق حاملاً اجازة الدراسات الفلسفية والاجتماعية العام 1965، والثانية على الماجستير في الفلسفة من الجامعة اليسوعية في بيروت عام 1994.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى