ماجد أبو شرار - حكاية الرحيل.. قصة قصيرة

كانت لي مدينة لها بحر تنام فيه الشمس كل مساء .... كانت لها أبنية متواضعة تأخذ مكانها تحت السماء الزرقاء فلا تتطاول لتنطح السماء بحجارتها وأعمدتها .... حول مدينتي كانت مزارع , ومنذ الأزل , كانت تلال رمل لها لون أشقر ... حول مدينتي كانت تتناثر بيارات برتقال لثمارها مذاق منعش ولأزهارها رائحة عطرة , كان لنا في مدينتي بيت يقوم عن آخر انحدار للتل الرملي الأشقر الذي كان يحرس المدخل الشرقي لمدينتي ....

عمري تسعة وثلاثون عاما , وأنا الآن في مدينة لها بحر منه الشمس تولد كل صباح .... تلك كان لها بحر فيه الشمس تنام , وهذه لها بحر منه الشمس تولد .... كان هناك لي بيت وأرض , وهنا لي بيت بلا أرض , هناك كان لي ماض , وكنت أملك ناصية يومي .... كنت أزرع أحلاما تشرق بهية في غدي , وأنا هنا بلا ماض ... يومي بطاقة سوداء تسلمني بعناد ونزق إلى غد أشد سوادا .... هنا أنا بلا جذور ... بلا دعائم .... بلا أصل ....

_ أتأكل شيئا ... الجوع يكاد يفريني .

في كل صباح كانت أشعة الشمس تذيب حبات الندى المرشومة على ألواح زجاج غرفتي بعد أن تمسح آخر آثار الليل عن ذرات التل الرملي الأشقر

2

, فأفتح عيني وأدعكهما بدعة وأنهض نشيطا لأستقبل يوما جديدا من عمر كنت أحبه .... كان أبرز ما في يومي آنذاك ابتسامة رضى تطل من شفتي أمي .... كانت بسمتها برعم زهرة برتقال , فيه عطاء وله شذى طيب , كنت أتملى وجه أمي المجعد الشمعي اللامع فأرى فيه كل معاني الخير والحب والاخلاص .... كانت تحبنا وكنا نحبها , كانت في البدء تود أن تقبلني كل صباح كما تفعل مع شقيقاتي وشقيقي .... لكنني رفضت فقطبت جبينها ثم فردته وتنهدت , فهمست بحنو :

_ أماه .... بسمتك برعم زهرة برتقال , فيه عطاء وله شذى طيب وأنا لا أريد لهذا البرعم إلا أن يظل بكرا نضرا نديا .... لا أريد لآثار النوم التي تطبع وجهي كل صباح أن تذبل البرعم وتفقده نضارته .... أريده بكرا وبكرا دوما .

يزداد البرعم تفتحا ونضارة وتربت بكفها الطري على كتفي وتهمس بصدق وحرارة :

_ وفقك الله يا محمد ومنحك كل ما عنده من خير وهناء ....

كانت تجمعنا مأدبة الافطار التي كانت تكون في أيام الصيف تحت أغصان شجرة الجوافة الضخمة والتي كانت والدتي دوما تتحسس أغصانها بتمهل وتأمل وتهمس :

_ لقد زرعها المرحوم يوم نزلنا هذا المنزل ... كان كل ما يتمناه أن يملك بيتا , جد واجتهد وبنى البيت وزرع الحديقة ... لكنه يا حسرتي لم يأكل من ثمارها , تهمس " عطاف " أكبر شقيقاتي والتي كانت لها كل ملامح أمي :

_ زرعوا فأكلنا ... ونزرع فيأكلون .

وتعود والدتي لتهمس وحبات دمع تكاد تتسلل مجفلة مع شواطئ عينيها :

3

_ فيكم الخير يا ابنتي وأطال الله في أعماركم ...

وتنهض أختي " أمال " وتقطف حبات الجوافة المبللة بالندى وتضعها قي طبق فتتسارع إلى تناولها بنهم وتلذذ وعيونها تتحاشى أن تلتقي مع عيون الوالدة التي امتنعت عن تناول حبات الجوافة منذ أن حرم منها الذي غرسها وجعل منها أغصان عطاء وخير ... وينصرف كل فرد من عائلتي الى عمله " عطاف " تبقى في البيت و " أحمد " يركب دراجته متوجها إلى مدرسته و" أمال " من خلفه تصيح وترجوه أن يركبها خلفه فيقف قليلا ليوهمها بأنه ينتظرها حتى اذا ما كادت تدركه يتركها مبتعدا فتضرب الأرض بقدمها الصغيرة وتتوجه هي الاخرى الى المدرسة ....

كنت في تلك الأيام أعمل مدرسا في المدرسة الثانوية الوحيدة في المدينة وكان لي طلاب كنت أرى الأمل في الغد المرجو يتفتح في صفاء عيونهم بساتين دفء وحياة ... كنت أرى فيهم كلهم أخي " أحمد " فيزداد حبي لهم وتتضاعف جهودي من أجلهم ... كان كل ما حولك يعوك لأن تعمل وتعمل دون ابطاء أو تواكل , وكذلك كنت أطمع في غد مشرق وكنت أعلم أن هذا الغد لن يكون إلا اذا شاركني كل من حولي في بنائه , كنت سعيدا , سعادة عارمة قوية لا حدود لها .... شيء واحد كان يحاول أن يخدش صفاء سعادتي .... أمل عزيز كان يعز على أمي ألا تحققه قبل أن تغادرنا لتلحق بالذي زرع شجرة الجوافة ... قبل أن أنام وفي بعض الأمسيات كانت تجلس على طرف سريري وتطرق فأرى الأمل مشوبا بتهيب وخوف يسبح في صفاء عينيها فأستنتج سلفا ما الذي يدور في نفسها ويعذبها وانتظر حتى تهمس :

_ محمد... هل أنت سعيد ؟ أريد لسعادتي أن تكتمل ... أريد أن أرى لك زوجة .... ما الذي تريده الراعية ؟....

_ مهلا ....

_ متى تنتهي من هذه " المهلا "

4

_ حتى تتزوج " عطاف " وكذلك " أمال " وحتى يكمل " أحمد " دراسته الجامعية

كانت في البدء تستمر في مجادلتي , لكنها في الفترة الأخيرة أقلعت عن ذلك وصارت تتركني متعكرة مصدومة وأظل مع رؤى حلوة أرى فيها " عطاف " و " أمال " وقد ضمهما بيت زوجية سعيد ... وأرى " أحمد " محاميا كبيرا .... أرى " سلام " يحبو ويبتسم أنا أبوه و " فادية " أمه .... كنت أحب فادية حتى العظام , وكذلك كانت هي , لكن واقعي كان يؤجل دوما لقاءنا المعطاء , ويؤخر بالتالي اطلالة حلوة لابننا " سلام " كنت أعيش على أمل أن تكون ... فهل كان هذا اللقاء ؟.... كان ان ازداد الواقع تعقيدا .... واقع يغبشه دم , يخنقه دخان قنابل تهدم بيوت مدينتي , تمزق أجساد أبناء مدينتي , تنشر الدمار والموت في كل أجزاء مدينتي .... وكنت يا ئسا لكن بعناد ....واظبت على الذهاب الى المدرسة لأجد في النهاية أن ليس ثمة من طلاب بل مقاعد يعشعش الغبار في شقوقها ويكسبها لون تراب القبور , فعدت لأقبع في البيت ونظرات والدتي وشقيقاتي تلهبني في كل لحظة كنت أعيش ... كانوا يريدون أن يقولوا الكلمة .. لكنهم يعرفون ردي فما جرؤوا على التفوه بها ... وأخيرا وبعد أن نامت الشمس في بحر مدينتي قلتها .... قلتها وأنا اكاد أتمزق " لنغادر المدينة " .... وصعدت مع التل الرملي الأشقر وجلست على نعومته وتفرست الغرب .... كانت ثمة أعمدة دخان أزرق تنتصب ملتوية في فضاء مدينتي , وكانت الطلقات تعوي في أجواء مدينتي ... وكانت شمس مدينتي قد نامت في البحر مخلفة سوادا أخذ يفرش الكون من حولي ... صحوت على صوت أمي المشروخ ...

_ نحن جاهزون يا بني ....

كانت هناك تحت شجرة الجوافة متشبثة ببعض أغصانها .... انحدرت مع التل مخدرا ممزقا .... مررت بشجرة الجوافة .... كانت الراعية لا زالت

5

هناك ... شعرت بوحشة قاسية ... وددت أن أقول شيئا أي شيء , لكن لساني كان ملويا بقوة في فراغ فمي , وغصة مدمرة تكاد تخنقني .... تحركت وسحبت الراعية من يدها وحاولت أن أضمها الى صدري ولكنها سبقتني الى ذلك وطوقتني بذراعيها وصدرها يعلو ويهبط بنشيج حاولت أن تخفيه فما استطاعت , وتدلت يداها فأمسكت بيسراها بينما كانت يمناها مضمومة بإصرار على حزمة أوراق خضر خشنة , كانت من أوراق أغصان شجرة الجوافة ... كان هذا آخر عهدنا بالجوافة .... فمنذ أن غادرنا الغرب متجهين الى شرق متجهم يابس , حرمنا منها ... كان هناك شبه اتفاق بيننا على ألا نذوقها .... رائحتها الآن تغيظني وتفتت أعصابي ....:

_ لتأكل شيئا .... الجوع يكاد يفريني ...

_ لا رغبة لي في تناول الطعام .

_ لكنك لم تأكل شيئا منذ الصباح ؟!...

_ أي صباح ؟!....

_ صباح هذا اليوم .

_ هيه .... وهل لهذا اليوم صباح .... أنا لا أراه ... ولا أحس به ... لا أكاد أميزه عن أي شيء آخر .... الصبح يا أخي يغسل السواد ... يغسل كل شيء .... هذا الذي تسميه صباحا لا يفعل ذلك , بالله لا تنظر إلى ّ هكذا يا أخي .... نظراتك فيها شيء .... نظراتك تود أن تقول من أنا .... أنا أعرف من أنا ... أنا مجرد قرمة خشب ملقاة على قارعة طريق , تركلها كل حين قدم نزقة , تتحسسها يد معروقة هزيلة ثم تأكلها في النهاية نار ملعونة .... أنا لا أحب نظراتك .... لا أحبها .... يمكنك أن تتركني لتتناول طعامك , لكن مهلا .... مهلا .... علك تتوق لسماع بقية الحكاية , لا بأس .. لا بأس ....فالدنيا كلها حكاية .... حكاية تبتسم مرة وتعبس

6

أخرى .... في الشرق أقمنا بيتا لنا ..... كان كالبيت الذي كان لنا في المدينة التي كانت لنا .... جعلنا له حديقة .... زرعناها وردا ورياحين , وتركنا بقعة داكنة لا تزال تنتظر عرقا داكنا يغرس فيها ليصبح مع الايام شجرة جوافة .... هذا العرق لم يغرس حتى اليوم .... الراعية لا تزال ترعانا ... و" عطاف " الرائعة الحلوة ماتت فجأة بعد أن غادرنا الغرب بعامين " أمال " لها ابن اسمه " سلام " .... " أحمد " كما كنت أريد أن يكون .... محام أرجو له كل توفيق ونجاح وسعادة .... وأنا هنا لا زلت أروي كل يوم حكاية الغرب .. وأغصان شجرة الجوافة لا زالت حطبا يتقصف في كل لحظة في قلبي .... تلة الرمل الشقراء لا زالت تنهال على جسدي المحطم كل لحظة فتخنقني ... " عطاف " الميتة لم تزرع ما يؤكل .... وشمس مدينتي ما زالت نائمة في البحر ....



1716240081591.png



================
ماجد أبو شرار هو مُناضل وقيادي فلسطيني وُلد في دورا بالقرب من الخليل عام 1936 واغتيل في التاسع من تشرين الأول/أكتوبر 1981 في روما بعد تفجيرِ غرفته في أحد فنادق المدينة على يدِ عملاء الموساد.
الحياة المُبكّرة
وُلد ماجد في دورا قضاء الخليل عام 1936 وترعرعَ هناك ثم انتقل ليدرسَ المراحل الابتدائية والإعدادية في غزة حيث انضم والده لجيش الجهاد المقدس في الأربعينيات، ثم التحقَ فيما بعد بجامعة الاسكندرية ونال منها شهادةً في الحقوق عام 1958.
المسيرة المهنيّة
بدأَ ماجد أبو شرار مسيرته المهنيّة كمعلمٍ في مدرسة قضاء الكرك ثم أصبح مديرًا لها. التحقَ بحركة فتح عام 1962 إلى جانب عددٍ من القادة الذين كانوا في السعودية وعلى رأسهم عبد الفتاح الحمود وسعيد المزين وغيرهم. بحلول عام 1968؛ تفرَّغ ماجد للعمل في جهاز الإعلام التابع للحركة مع كمال عدوان كما تولى رئاسة تحرير صحيفة فتح اليومية، ودعم تأسيس مدرسة الكوادر الثورية في قوات العاصفة عام 1969. شَغِل موقع مسؤول الإعلام المركزي، ورئيس دائرة الإعلام المركزي ثم الإعلام الموحد. أصبحَ بعد عملية الفردان عضوًا في المجلس الوطني الفلسطيني.في الفترة ما بين 1973 و1978 تولى ماجد مهام مفوض سياسي عام لفتح وكان من بينِ الكوادر الثورية؛ حيث رسم خط سير الأهداف لحركة فتح وجهز الفدائيين الذين خاضوا معارك في عددٍ من المدن.اختِير أمينًا لسرِّ المجلس الثوري في المؤتمر الثالث لحركة فتح كما تم انتخابه في المؤتمر الرابع عام 1980 ليكون عضوًا في اللجنة المركزية، كذلك كان عضوًا في الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين منذ عام 1972. بالإضافةِ إلى نشاطه السياسي؛ كانَ ماجدُ قاصًا وأديبًا حيث صدرت له مجموعة قصصية باسم «الخُبْزِ المُرّ» كما كان يكتبُ زاوية ساخرة بعنوان «جدًا» بصحيفة فتح.
تيار اليسار الديمقراطي
أُعتبر ماجد أبو شرار أحد أبرز قياديي تيار اليسار الديمقراطي الذي ضم ناجي علوش، ومنير شفيق، حنا ميخائيل، ومرعي عبد الرحمن (أبو فارس)، وأبو نائل (عبد الفتاح القلقيلي)، نمر صالح، وأبو حاتم (محمد أبو ميزر) وأبو خالد الصين، وقدري (سميح أبو كويك) وأبو خالد العملة وإلياس شوفاني وغيرهم. نَتج عن هذا التيار تنظيمات وتشكيلات منها الكتيبة الطلابية.وقفَ إلى جانبِ البرنامج المرحلي بشرط عدم الصلح أو الاعتراف أو التفاوض مع إسرائيل، واتخذ موقفًا نقديًا من السياسة العامَّة للحركة. وقد أجرى مراجعة نقدية لموقفه السابق بخصوص البرنامج المرحلي، قبيل المؤتمر الرابع لحركة فتح عام 1980 في سياق محاولته رص صفوف هذا التيار وقيادته في تلك المعركة. وقد نجح ماجد في تلك المعركة، حيث أنتخب عضوا في اللجنة المركزية لحركة فتح، كما وصل عدد من رموز التيار إلى عضوية المجلس الثوري للحركة.
الاغتيال
جدارية ماجد أبو شرار في دورا

خلال فعاليات مؤتمر التضامن مع الشعب الفلسطيني والذي حضره روجيه غارودي وفانيسا رديغريف والمطران هيلاريون كابوتشي في روما في التاسع من تشرين الأول/أكتوبر 1981؛ قُتل ماجد أبو شرار إثر انفجارٍ في غرفته في فندق فلورا بسبب قنابل زرعها عملاء الموساد. دُفن ماجد في مقابر الشهداء في بيروت.
رثاه الشاعر محمود درويش في ديوان «في حضرة الغياب»، كما افتُتحت مؤسسة ماجد أبو شرار الإعلامية تخليدًا لاسمه وهي منظمة تعمل من أجلِ تمكين الشباب في المخيمات والتجمعات الفلسطينية في لبنان.في عام 2012، أنجز الفنان التشكيلي الفلسطيني يوسف كتلو لوحة جدارية بطول عشرة أمتار وعرض ثلاثة أمتار استوحى فيها شخصية ماجد أبو شرار ورموز وطنية، ووُضعت عند مدخل ملعب دورا الدولي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى