يتمتع شهر رمضان المبارك بمنزلة طيبة في نفوس الكثرة الغالبة من المسلمين، فأنت تراه ضيفا محبوبا يُستقبَل حين قدومه بشتى مظاهر المحبة والابتهاج، ويُودَّع حين رحيله بدموع الحسرة والالتياع، وإذا كنا نسمع في أخبار الماضين من رجال السلف الصالح -رضي الله عنهم- أنهم كانوا يعزون أنفسهم في الليالي الأخيرة من رمضان، فإننا لا نزال نرى بأعيننا الفسقة والعصاة من المؤمنين يجترحون السيئات ويقترفون الموبقات، حتى إذا وجدوا أنفسهم في حرم رمضان ضجَّت ألسنتهم بالتهليل والتكبير، وارتعدت فرائصهم من خشية الله، ولزموا حلقات الدروس في المسجد يستنشقون روائح الجنة من نسمات هذا الشهر المبارك.
لكن فريقا من الأدباء -عفا الله عنهم- قد أخذوا يغازلون شهر الصيام مغازلة شكا منها إلى ربه، ثم تحولت المغازلة على مرّ الأيام إلى عداء مُستحكم، فبعد أن كان الشاعر لا يزيد على قوله:
نُبِّئتُ أن فتاة جئتُ أخطبها*** عرقوبها مثل شهر الصوم في الطولِ
أو قوله:
أتأمرني بالصوم لا دَرَّ دَرُّها*** وفي القبر صوم يا أميم طويلُ
بعد أن كان لا يزيد على ذلك وجدنا الأمر قد استحال فجأة إلى هجو لاذع، وسبّ مبرح، لا نظن إلا أن الله -عز وجل- سينتقم للظالم فيه من المظلوم يوم يقوم الناس لرب العالمين.
وأول من أعلن هذه الحرب الظالمة -فيما نعلم- هو هذا الأعرابي الفَذْم الذي يروى ابن قتيبة في عيون الأخبار قصته فيقول:
"قدم أعرابي على ابن عم له بالحَضَر، فأدركه شهر رمضان، فقيل له: يا أبا عمرو، لقد أتاك شهر رمضان، قال: وما شهر رمضان؟ قالوا: الإمساك عن الطعام، قال: أبالليل أم بالنهار؟ قالوا: بل بالنهار، قال: أفيرضون بدلا من الشهر؟ قالوا: لا، قال: فإن لم أصُمْ فعلوا ماذا؟ قالوا: تُضرب وتُحبس، فصام أياما فلم يصبر، فارتحل عنهم إلى غيره وجعل ينشد:
يقول بنو عمّي وقد زرتُ مِصْرَهم*** تهيَّأْ أبا عمرٍو لشهر صيامِ
فقلتُ لهم: هاتوا جِرابي ومِزْوَدي*** سلام عليكم فاذهبوا بسلامِ
فبادرتُ أرضًا ليس فيها مسيطرٌ*** عليَّ ولا مَنَّاع أكل طعامِ
كانت هذه القصة بذرة سيئة تولّدت منها تلك الحملة الطائشة التي شنها الأدباء على رمضان، ومهما يكن من شيء، فقد حرَّكت ما سكَن في النفوس، وأطلقتْ ما حُبس في الصدور، فخرج الأدب بصفقة رابحة كان ضحيّتها رمضان المسكين، ولعل عزاءه في ذلك قول الله -عز وجل-: {والشعراء يتبعهم الغاوون}.
على أن كثيرا من الأدباء كانوا أقدر على ضبط ألسنتهم من إخوانهم الذين تورطوا في معاداة هذا الشهر العظيم، فنحن نقرأ في تاريخ البحتري -مثلا- أنه كان ضائق الصدر برمضان، متبرِّم النفس بطوله، ونتلمَّس ذلك في شعره، فلا نجد إلا متفرقات يسيرة لا تطفئ أُوامًا، ولا تَبُلُّ غليلا، كأن يقول:
فَتَرَوَّ مِنْ شعبان إنَّ وراءه*** شهرا سيمنَعُك الرّحيقَ السَّلْسَلَا
ثم يكرر هذا المعنى مرة ثانية وثالثة، فإذا هاج صبره بعد مرور سبعة وعشرين من عمر رمضان، لم يزد على أن يطلب من الله -عز وجل- أن يجعل الشهر كله ليلا حتى لا يجد النهار الذي يصوم فيه عن الطعام والشراب، وفي ذلك يقول:
قد مضتْ سبعة وعشر وعشر*** ما نذوق اللذاتِ إلا لِماما
ما على الليل لو أقام علينا*** أو يرانا من الصّيام صيامَا
أما ابن الرومي فقد أطلق العنان لقريحته الوقَّادة، وانهال على رمضان بسياطه المحرقة حتى مزَّق جلده، وشوَّه أديمَه، وتعليل ذلك واضح يسير، فالبحتري على رغم ما له مِنْ جاهٍ عريض لدى الخلفاء والرؤساء، كان نِكْسا رعديدا يقول الهجاء، فيقبض بيده على قلبه، ويرسل وراء شعره العيون والأرصاد يتجسَّسون لدى المهجوّ، ويخبرونه بموقع هجائه من نفسه، فإن لم يُلقِ له بالاً حمد الله على السلامة، وإن كانت الأخرى أخذ يتزلَّف ويتوسل ويُحبّر النابغيَّات الطويلة في الاعتذار، وحسبك أن تعلم أنه قال في قصيدة القافية:
ولم أر كالدنيا حليلة صاحب*** مُحبٍّ متى تَحْسُنْ بِعَينيْهِ تَطْلُقِ
تراها عِيانا وهي صنْعة واحدٍ*** فتحسبُها صُنْعَيْ حكيمٍ وأخْرَقِ
حين قال ذلك شنع عليه أحد العامة بأنه ثَنَوِي، فخاف على نفسه وقال لابنه أبي الغوث: قم بنا نخرج من بغداد خروجا نأمن على أنفسنا فيه، ثم خرج ولم يعد، فشخص نفسيته ضعيفة خائرة كالبحتري لا يجد الشجاعة الكافية التي يذم بها رمضان على رؤوس الأشهاد، ولا كذلك ابن الرومي، فقد كان جسور القلب حاد اللسان يسوق الهجاء في الوزراء وذوي الشأن في الدولة، ثم يتزايد ويتسع فيه دون مبالاة أو اكتراث، مما أدى إلى حتفه في النهاية، فمات ولم يستمتع بخاطره، ولم ينزح رَكِيَّة فِكْرِه -كما قال الصولي- فإذا كان هذا شأنه، فغير كثير عليه أن يسلط لسانه على رمضان معبرا عما يختلج في نفسه أصدق تعبير، والحق أن هذه ميزة ابن الرومي يصدر عن طبعه، وينقل عن خاطره، مهما جلب عليه ذلك من الشرور والويلات، والجنون فنون.
بدأ أبن الرومي حملته بتأدب ملموس، فلم يشأ أن يهجم بادئ ذي بدء بما هجم به أخيرا من الذم والقدح، بل اكتفى بإعلان تبرُّمه بطُوله الممتد، وودَّ لو مر كالسحاب، وكان جميعه كيوم أو بعض يوم، وقُصارَى حيلته أن يدعو عليه، وأن يرحب بأيام الفطر اللذيذة فيقول:
إذا برّكتَ في صوم لقوم*** دعوتَ لهم بتطويل العذابِ
وما التبريكُ في شهر طويل*** يطاول يومه يوم الحسابِ
فليت الشهر فيه كان يوما*** ومر نهاره مر السحاب
فلا أهلا بمانع كلّ خير*** وأهلا بالطعام وبالشراب
ويظهر أن ابن الرومي قد وجد أبياته صادفت رواجا محمودا لدى من يشاركونه عواطفه وميوله -وكثير ما هم- فهجم على شهر الصيام مرة أخرى ولكن بلسان أحدّ، ولهجة أعنف، وقسوة أشدّ، فود بجدع الأنف لو انتهى قبل أن يبدأ، وأعلن أن بركة هذا الشهر في طوله لا في خيره، وزاد بل تنازل عن الأجر الذي أعده الله له جزاء صومه، فهو يقول:
شهر الصيام مبارك لكنَّما*** جُعِلَتْ لنا بركاتُه في طولِهِ
من كان يألفه فليت خروجه*** مني -بجدع الأنف- قبل دخولِهِ
إني ليعجبني تمام هلاله*** وأُسَرُّ بعد تمامه بنحُولِهِ
لا أسْتَثِيبُ على قَبول صيامه*** حسبي تصرُّمه ثوابَ قبولِهِ
وجائز جدا أن يكون ابن الرومي قد عانى صوم رمضان في أوقات تلفحها حرارة الصيف كما نعانيه في أوقاتنا هذه، فهو لا يكتفي بما قدمنا بل يعيد الهجوم ثالثة ورابعة، غير تارك بعده مجالا لقائل، وليت شعري ماذا ننتظر منه بعد أن يقول:
شهر الصيام وإن عظّمتُ حرمته*** شهر طويل ثقيل الظل والحركَهْ
أذمُّه غير وقت فيه أحمدهُ*** منذ العشاء إلى أن تصدح الديكة
وكيف أحمد أوقاتا مذمَّمة*** بين الدُّؤًوب وبين الجوع مشتركهْ
يا صدق من قال أيام مباركة*** إن كان يعني عنِ اسم الطول بالبركهْ
شهر كأن وقوعي فيه من قلقي*** وسوء حالي وقوع الحوت في الشبكهْ
لو كان مولىً وكنا كالعبيد له*** لكان مولى بخيلا سيئ المَلَكَهْ
قد كاد لولا دفاع الله يُسلمنا*** إلى الردى ويؤدينا إلى الهَلَكَهْ
على أن من التناقض الظاهر أن نرى ابن الرومي في موضع آخر من ديوانه يهنئ أحد الرؤساء بشهر الصيام، فيُنحي باللائمة على المستهترين به، وما درى أنه بشعره هذا قد فتح الباب لمن جاء بعده، ومهما يكن من شيء فقد ظهرت خفة روحه ظهورا أكسبه ملاحة وظرفا عند من يقدرون الأدب لذاته، فهو على نقيض أبي العتاهية المسكين، فقد أوقعه حبه رمضان وتعظيمه إياه في مأزق مضحك، قال ابن رشيق في الجزء الثاني من العمدة: لما مات المهدي قام أبو العتاهية يرثيه على ملأ من الناس فقال: مات الخليفة أيها الثقلان، فرفع الحاضرون رؤوسهم، وفتحوا أعينهم وقالوا: نعاه إلى الإنس والجن ثم أدركه اللين والفترة فقال: فكأنني أفطرت في رمضان.
يريد أني بمجاهرتي بهذا القول كأنما جاهرت بالإفطار نهارا في رمضان، وهذا معنى جيد غريب في لفظ رديء غير معرب عما في النفس، ونحن نخالف صاحب العمدة فيما ذهب إليه من جودة هذا المعنى، ولو كان كما قال ما قابله الجمهور بالسخرية والاستهزاء.
وإذا كانت كتب الأدب تروى عن أبي نواس أنه قد حج حجا غير مبرو،ر حين جد في طلب (جنان) فلم يظفر بطائل، ثم علم أخيرا أنها ذهبت إلى مكة فسار وراءها متظاهرا بالخشوع والنسك، وفي ذلك يقول:
ولما أن عييت وضاق صدري*** بمطلبها ومطلبها عسيرُ
حججْت وقلتُ قد حجَّتْ جنان*** فيجمعني وإياها المسيرُ
إذا كانت كتب الأدب تروى ذلك، فإنها تروي عن ابن الراوندي أنه قد صام صوما غير مبرور -لو صح هذا التعبير- وذلك أنه كان سمينا بطينا، فقالت له إحدى صواحبه: إن وراءك شهرا ثقيلا فصُمه ليذهب عنك هذا السِمَن، فأطاعها تلبية لرغبتها لا امتثالا لأمر ربه، وهو يعلن هذا على العامة والخاصة فيقول في تبجح وعناد:
وقائلة وقد جلست جواري*** سمنتَ وكنت قبلئذٍ نحيفا
وراءك في غد شهر ثقيل*** فصُمْه لكيْ تكون فتى نحيفَا
لوجهك لا لوجه الله صومي*** ولو أنّي لقيتُ به الحُتُوفَا
وغير غريب من ابن الراوندي أن يقول ذلك، فقد كان خبيث العقيدة سيئ الطويّة، يعترض على كل شيء حتى على ربه، فيعجب من مجرى الرزق في أسلوب وقح، ويهاجم الأديان في تمرد سافل، فكيف تستكثر عليه ما قاله في رمضان؟.
إننا نستكثر ذلك على رئيس فاضل كابن العميد مثلا، فقد كان جليل الخطر في عصره، مطاع الكلمة في دولته، ثاقب العقل، وضيء التفكير، ومع ذلك فقد تورط فيما تورط فيه غيره حين هاجم هذا الشهر مهاجمة نكتفي بأن ننقل منها هذه الفقرات: "اسأل الله أن يقرب على الفلك دوره، ويقصر سيره، ويخفف حركته، ويزيل بركة الطول عن ساعاته، ويرد على غُرَّة شوال، فهي أسنى الغرر عندي، وأقرها لعيني، ويطلع بدره، ويسمعني النعي لشهر رمضان، ويعرض على هلاله أخفى من السِّحْر، وأظلم من الكفر، وأنحف من مجنون بني عامر" إلى آخر ما جاء في الجزء الثاني من زهر الآداب.
وكيفما كان الحال فقد فتح ابن العميد بذلك على رمضان ثغرة واسعة، جعلته يستمع هجاءه شعرا ونثرا بعد أن كان يأمن على نفسه من ناحية النثر، ويجيء بديع الزمان الهمذاني بعد ابن العميد وهو -كما نعلم- مولع بتقليده، مقتفٍ أثره، فلا يفوته أن يهجو رمضان، فيكتب إلى أحد رؤسائه قائلا: "خصك الله بتقصير أيامه، فهو وإن عظمت بركته، ثقيلة حركته، وإنْ جلّ قدره، بعيد قعره، فإنْ حَسُن وجهه فسوف يقبح قفاه، وما أحسنه في القَذَال وأشبه إدباره بالإقبال، جعل الله قدومه سبب ترحاله، وبدره فداء هلاله، وأمدّ فلكه تحريكا، بتقضِّي مدته وشيكا، وأظهر هلاله نحيفا، لنُزفَّ إلى اللذات زفيفا"
ونحن لا نستنكر ذلك من الهمذاني كما استنكرناه من ابن العميد، فقد كان بديع الزمان طويل اللسان، حاد القذف، متطاولا على غيره جاحدا حقوق أولي العلم والفضل، فكيف يعترف بشهر رمضان وقد فتح له ابن العميد الباب على مصراعيه فقال ما قال.
وإذا كنا نستثقل الآن صوم رمضان في وقدة القيظ وحرارة الصيف، فقد وجدنا ابن عون الكاتب يستثقله في فصل الربيع إذ يرى أنه زمان البهجة، وأوان المتعة واللذاذة، فلا ينبغي أن يكدَّر بالصوم وفي ذلك يقول:
جاءنا الصوم في الربيع فهلا*** اختار ربعاً من سائر الأرباعِ
وكأن الربيع في الصوم عِقد*** فوق نحر غطَّاه فضل قِناعِ
وإذن فالصوم عنده في الربيع قناع أسدل على نحر مضيء، فمنع إشراقه وحجب التمتع برؤيته.
أما القاضي الفاضل، وهو من المولعين أيضا بمحاكاة ابن العميد، فقد نظم قصيدة خمرية طويلة جرى فيها مع اللذات إلى أبعد شوط، وقد حرص على أن يهاجم في مبدئها شهر رمضان، تقليدا لأستاذه، فقال:
قضى نحبه الشهر بعد المَطالِ*** وأطلق من قيد فتر الهلالِ
وروَّضَ كاتب جنبي اليمين*** وأَتْعب كاتبَ جنبي الشمالِ
فدع ضِيقه مثل شدّ الإسار*** إلى فُرجةٍ مثل حلّ العقالِ
وهو بذلك قد وجه نظر أمير الشعراء رحمه الله إلى هذا المعنى بذاته، فقال ولكن في أسلوب أروع ونسج أحكم:
رمضان ولَّى هاتها يا ساقي*** مشتاقة تسعى إلى مشتاقِ
ما كان أكثره على أُلَّافها*** وأقلّه في طاعة الخلَّاقِ
بالأمس قد كنا سجينَيْ طاعة*** واليوم منَّ العيدُ بالإطلاقِ
ولا أدري كيف وقع شوقي بهذا، وهو الذي باهي بنسكه وتبتله حين قال:
وأشهد ما آذيتُ نفساً ولم أضِرْ*** ولم أبْغِ في جَهْري وفِي خَطَرَاتِي
ولا بِتُّ إلا كابن مريم مشفقاً*** على حسدي مستغفراً لعِدَاتِي
وعلى كل فإن هذه الحملة الظالمة التي قام بها الأدباء على رمضان، لم تستطع أن تزحزح مكانته -ولو قليلا- في النفوس، بل زادتها رسوخا وثباتا، وخرج المجانين من المعركة يجرُّون أذيال الخيبة والهزيمة، وكل امرئ بما كسب رهين.
وبعد فما أردت بهذا العرض الموجز أن أتزيَّد على رمضان، فيعلم الله أني أول الناس تفانيا في محبته وإجلاله، ولكني قصدت الترفيه عن القراء في وقت اندلعت فيه السنة الهجير فأحرقت الأفئدة وألهبت الجلود، ومن يدري لعل هؤلاء الأدباء يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، فرب متظاهر بالصوم والعبادة وبين جنبيه قلب مدنس بالمعاصي مثقل بالآثام، ومن عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها.
خليليَّ، قُطَّاع الفيافي إلى الحمى*** كثير وإن الواصلين قليلُ
لكن فريقا من الأدباء -عفا الله عنهم- قد أخذوا يغازلون شهر الصيام مغازلة شكا منها إلى ربه، ثم تحولت المغازلة على مرّ الأيام إلى عداء مُستحكم، فبعد أن كان الشاعر لا يزيد على قوله:
نُبِّئتُ أن فتاة جئتُ أخطبها*** عرقوبها مثل شهر الصوم في الطولِ
أو قوله:
أتأمرني بالصوم لا دَرَّ دَرُّها*** وفي القبر صوم يا أميم طويلُ
بعد أن كان لا يزيد على ذلك وجدنا الأمر قد استحال فجأة إلى هجو لاذع، وسبّ مبرح، لا نظن إلا أن الله -عز وجل- سينتقم للظالم فيه من المظلوم يوم يقوم الناس لرب العالمين.
وأول من أعلن هذه الحرب الظالمة -فيما نعلم- هو هذا الأعرابي الفَذْم الذي يروى ابن قتيبة في عيون الأخبار قصته فيقول:
"قدم أعرابي على ابن عم له بالحَضَر، فأدركه شهر رمضان، فقيل له: يا أبا عمرو، لقد أتاك شهر رمضان، قال: وما شهر رمضان؟ قالوا: الإمساك عن الطعام، قال: أبالليل أم بالنهار؟ قالوا: بل بالنهار، قال: أفيرضون بدلا من الشهر؟ قالوا: لا، قال: فإن لم أصُمْ فعلوا ماذا؟ قالوا: تُضرب وتُحبس، فصام أياما فلم يصبر، فارتحل عنهم إلى غيره وجعل ينشد:
يقول بنو عمّي وقد زرتُ مِصْرَهم*** تهيَّأْ أبا عمرٍو لشهر صيامِ
فقلتُ لهم: هاتوا جِرابي ومِزْوَدي*** سلام عليكم فاذهبوا بسلامِ
فبادرتُ أرضًا ليس فيها مسيطرٌ*** عليَّ ولا مَنَّاع أكل طعامِ
كانت هذه القصة بذرة سيئة تولّدت منها تلك الحملة الطائشة التي شنها الأدباء على رمضان، ومهما يكن من شيء، فقد حرَّكت ما سكَن في النفوس، وأطلقتْ ما حُبس في الصدور، فخرج الأدب بصفقة رابحة كان ضحيّتها رمضان المسكين، ولعل عزاءه في ذلك قول الله -عز وجل-: {والشعراء يتبعهم الغاوون}.
على أن كثيرا من الأدباء كانوا أقدر على ضبط ألسنتهم من إخوانهم الذين تورطوا في معاداة هذا الشهر العظيم، فنحن نقرأ في تاريخ البحتري -مثلا- أنه كان ضائق الصدر برمضان، متبرِّم النفس بطوله، ونتلمَّس ذلك في شعره، فلا نجد إلا متفرقات يسيرة لا تطفئ أُوامًا، ولا تَبُلُّ غليلا، كأن يقول:
فَتَرَوَّ مِنْ شعبان إنَّ وراءه*** شهرا سيمنَعُك الرّحيقَ السَّلْسَلَا
ثم يكرر هذا المعنى مرة ثانية وثالثة، فإذا هاج صبره بعد مرور سبعة وعشرين من عمر رمضان، لم يزد على أن يطلب من الله -عز وجل- أن يجعل الشهر كله ليلا حتى لا يجد النهار الذي يصوم فيه عن الطعام والشراب، وفي ذلك يقول:
قد مضتْ سبعة وعشر وعشر*** ما نذوق اللذاتِ إلا لِماما
ما على الليل لو أقام علينا*** أو يرانا من الصّيام صيامَا
أما ابن الرومي فقد أطلق العنان لقريحته الوقَّادة، وانهال على رمضان بسياطه المحرقة حتى مزَّق جلده، وشوَّه أديمَه، وتعليل ذلك واضح يسير، فالبحتري على رغم ما له مِنْ جاهٍ عريض لدى الخلفاء والرؤساء، كان نِكْسا رعديدا يقول الهجاء، فيقبض بيده على قلبه، ويرسل وراء شعره العيون والأرصاد يتجسَّسون لدى المهجوّ، ويخبرونه بموقع هجائه من نفسه، فإن لم يُلقِ له بالاً حمد الله على السلامة، وإن كانت الأخرى أخذ يتزلَّف ويتوسل ويُحبّر النابغيَّات الطويلة في الاعتذار، وحسبك أن تعلم أنه قال في قصيدة القافية:
ولم أر كالدنيا حليلة صاحب*** مُحبٍّ متى تَحْسُنْ بِعَينيْهِ تَطْلُقِ
تراها عِيانا وهي صنْعة واحدٍ*** فتحسبُها صُنْعَيْ حكيمٍ وأخْرَقِ
حين قال ذلك شنع عليه أحد العامة بأنه ثَنَوِي، فخاف على نفسه وقال لابنه أبي الغوث: قم بنا نخرج من بغداد خروجا نأمن على أنفسنا فيه، ثم خرج ولم يعد، فشخص نفسيته ضعيفة خائرة كالبحتري لا يجد الشجاعة الكافية التي يذم بها رمضان على رؤوس الأشهاد، ولا كذلك ابن الرومي، فقد كان جسور القلب حاد اللسان يسوق الهجاء في الوزراء وذوي الشأن في الدولة، ثم يتزايد ويتسع فيه دون مبالاة أو اكتراث، مما أدى إلى حتفه في النهاية، فمات ولم يستمتع بخاطره، ولم ينزح رَكِيَّة فِكْرِه -كما قال الصولي- فإذا كان هذا شأنه، فغير كثير عليه أن يسلط لسانه على رمضان معبرا عما يختلج في نفسه أصدق تعبير، والحق أن هذه ميزة ابن الرومي يصدر عن طبعه، وينقل عن خاطره، مهما جلب عليه ذلك من الشرور والويلات، والجنون فنون.
بدأ أبن الرومي حملته بتأدب ملموس، فلم يشأ أن يهجم بادئ ذي بدء بما هجم به أخيرا من الذم والقدح، بل اكتفى بإعلان تبرُّمه بطُوله الممتد، وودَّ لو مر كالسحاب، وكان جميعه كيوم أو بعض يوم، وقُصارَى حيلته أن يدعو عليه، وأن يرحب بأيام الفطر اللذيذة فيقول:
إذا برّكتَ في صوم لقوم*** دعوتَ لهم بتطويل العذابِ
وما التبريكُ في شهر طويل*** يطاول يومه يوم الحسابِ
فليت الشهر فيه كان يوما*** ومر نهاره مر السحاب
فلا أهلا بمانع كلّ خير*** وأهلا بالطعام وبالشراب
ويظهر أن ابن الرومي قد وجد أبياته صادفت رواجا محمودا لدى من يشاركونه عواطفه وميوله -وكثير ما هم- فهجم على شهر الصيام مرة أخرى ولكن بلسان أحدّ، ولهجة أعنف، وقسوة أشدّ، فود بجدع الأنف لو انتهى قبل أن يبدأ، وأعلن أن بركة هذا الشهر في طوله لا في خيره، وزاد بل تنازل عن الأجر الذي أعده الله له جزاء صومه، فهو يقول:
شهر الصيام مبارك لكنَّما*** جُعِلَتْ لنا بركاتُه في طولِهِ
من كان يألفه فليت خروجه*** مني -بجدع الأنف- قبل دخولِهِ
إني ليعجبني تمام هلاله*** وأُسَرُّ بعد تمامه بنحُولِهِ
لا أسْتَثِيبُ على قَبول صيامه*** حسبي تصرُّمه ثوابَ قبولِهِ
وجائز جدا أن يكون ابن الرومي قد عانى صوم رمضان في أوقات تلفحها حرارة الصيف كما نعانيه في أوقاتنا هذه، فهو لا يكتفي بما قدمنا بل يعيد الهجوم ثالثة ورابعة، غير تارك بعده مجالا لقائل، وليت شعري ماذا ننتظر منه بعد أن يقول:
شهر الصيام وإن عظّمتُ حرمته*** شهر طويل ثقيل الظل والحركَهْ
أذمُّه غير وقت فيه أحمدهُ*** منذ العشاء إلى أن تصدح الديكة
وكيف أحمد أوقاتا مذمَّمة*** بين الدُّؤًوب وبين الجوع مشتركهْ
يا صدق من قال أيام مباركة*** إن كان يعني عنِ اسم الطول بالبركهْ
شهر كأن وقوعي فيه من قلقي*** وسوء حالي وقوع الحوت في الشبكهْ
لو كان مولىً وكنا كالعبيد له*** لكان مولى بخيلا سيئ المَلَكَهْ
قد كاد لولا دفاع الله يُسلمنا*** إلى الردى ويؤدينا إلى الهَلَكَهْ
على أن من التناقض الظاهر أن نرى ابن الرومي في موضع آخر من ديوانه يهنئ أحد الرؤساء بشهر الصيام، فيُنحي باللائمة على المستهترين به، وما درى أنه بشعره هذا قد فتح الباب لمن جاء بعده، ومهما يكن من شيء فقد ظهرت خفة روحه ظهورا أكسبه ملاحة وظرفا عند من يقدرون الأدب لذاته، فهو على نقيض أبي العتاهية المسكين، فقد أوقعه حبه رمضان وتعظيمه إياه في مأزق مضحك، قال ابن رشيق في الجزء الثاني من العمدة: لما مات المهدي قام أبو العتاهية يرثيه على ملأ من الناس فقال: مات الخليفة أيها الثقلان، فرفع الحاضرون رؤوسهم، وفتحوا أعينهم وقالوا: نعاه إلى الإنس والجن ثم أدركه اللين والفترة فقال: فكأنني أفطرت في رمضان.
يريد أني بمجاهرتي بهذا القول كأنما جاهرت بالإفطار نهارا في رمضان، وهذا معنى جيد غريب في لفظ رديء غير معرب عما في النفس، ونحن نخالف صاحب العمدة فيما ذهب إليه من جودة هذا المعنى، ولو كان كما قال ما قابله الجمهور بالسخرية والاستهزاء.
وإذا كانت كتب الأدب تروى عن أبي نواس أنه قد حج حجا غير مبرو،ر حين جد في طلب (جنان) فلم يظفر بطائل، ثم علم أخيرا أنها ذهبت إلى مكة فسار وراءها متظاهرا بالخشوع والنسك، وفي ذلك يقول:
ولما أن عييت وضاق صدري*** بمطلبها ومطلبها عسيرُ
حججْت وقلتُ قد حجَّتْ جنان*** فيجمعني وإياها المسيرُ
إذا كانت كتب الأدب تروى ذلك، فإنها تروي عن ابن الراوندي أنه قد صام صوما غير مبرور -لو صح هذا التعبير- وذلك أنه كان سمينا بطينا، فقالت له إحدى صواحبه: إن وراءك شهرا ثقيلا فصُمه ليذهب عنك هذا السِمَن، فأطاعها تلبية لرغبتها لا امتثالا لأمر ربه، وهو يعلن هذا على العامة والخاصة فيقول في تبجح وعناد:
وقائلة وقد جلست جواري*** سمنتَ وكنت قبلئذٍ نحيفا
وراءك في غد شهر ثقيل*** فصُمْه لكيْ تكون فتى نحيفَا
لوجهك لا لوجه الله صومي*** ولو أنّي لقيتُ به الحُتُوفَا
وغير غريب من ابن الراوندي أن يقول ذلك، فقد كان خبيث العقيدة سيئ الطويّة، يعترض على كل شيء حتى على ربه، فيعجب من مجرى الرزق في أسلوب وقح، ويهاجم الأديان في تمرد سافل، فكيف تستكثر عليه ما قاله في رمضان؟.
إننا نستكثر ذلك على رئيس فاضل كابن العميد مثلا، فقد كان جليل الخطر في عصره، مطاع الكلمة في دولته، ثاقب العقل، وضيء التفكير، ومع ذلك فقد تورط فيما تورط فيه غيره حين هاجم هذا الشهر مهاجمة نكتفي بأن ننقل منها هذه الفقرات: "اسأل الله أن يقرب على الفلك دوره، ويقصر سيره، ويخفف حركته، ويزيل بركة الطول عن ساعاته، ويرد على غُرَّة شوال، فهي أسنى الغرر عندي، وأقرها لعيني، ويطلع بدره، ويسمعني النعي لشهر رمضان، ويعرض على هلاله أخفى من السِّحْر، وأظلم من الكفر، وأنحف من مجنون بني عامر" إلى آخر ما جاء في الجزء الثاني من زهر الآداب.
وكيفما كان الحال فقد فتح ابن العميد بذلك على رمضان ثغرة واسعة، جعلته يستمع هجاءه شعرا ونثرا بعد أن كان يأمن على نفسه من ناحية النثر، ويجيء بديع الزمان الهمذاني بعد ابن العميد وهو -كما نعلم- مولع بتقليده، مقتفٍ أثره، فلا يفوته أن يهجو رمضان، فيكتب إلى أحد رؤسائه قائلا: "خصك الله بتقصير أيامه، فهو وإن عظمت بركته، ثقيلة حركته، وإنْ جلّ قدره، بعيد قعره، فإنْ حَسُن وجهه فسوف يقبح قفاه، وما أحسنه في القَذَال وأشبه إدباره بالإقبال، جعل الله قدومه سبب ترحاله، وبدره فداء هلاله، وأمدّ فلكه تحريكا، بتقضِّي مدته وشيكا، وأظهر هلاله نحيفا، لنُزفَّ إلى اللذات زفيفا"
ونحن لا نستنكر ذلك من الهمذاني كما استنكرناه من ابن العميد، فقد كان بديع الزمان طويل اللسان، حاد القذف، متطاولا على غيره جاحدا حقوق أولي العلم والفضل، فكيف يعترف بشهر رمضان وقد فتح له ابن العميد الباب على مصراعيه فقال ما قال.
وإذا كنا نستثقل الآن صوم رمضان في وقدة القيظ وحرارة الصيف، فقد وجدنا ابن عون الكاتب يستثقله في فصل الربيع إذ يرى أنه زمان البهجة، وأوان المتعة واللذاذة، فلا ينبغي أن يكدَّر بالصوم وفي ذلك يقول:
جاءنا الصوم في الربيع فهلا*** اختار ربعاً من سائر الأرباعِ
وكأن الربيع في الصوم عِقد*** فوق نحر غطَّاه فضل قِناعِ
وإذن فالصوم عنده في الربيع قناع أسدل على نحر مضيء، فمنع إشراقه وحجب التمتع برؤيته.
أما القاضي الفاضل، وهو من المولعين أيضا بمحاكاة ابن العميد، فقد نظم قصيدة خمرية طويلة جرى فيها مع اللذات إلى أبعد شوط، وقد حرص على أن يهاجم في مبدئها شهر رمضان، تقليدا لأستاذه، فقال:
قضى نحبه الشهر بعد المَطالِ*** وأطلق من قيد فتر الهلالِ
وروَّضَ كاتب جنبي اليمين*** وأَتْعب كاتبَ جنبي الشمالِ
فدع ضِيقه مثل شدّ الإسار*** إلى فُرجةٍ مثل حلّ العقالِ
وهو بذلك قد وجه نظر أمير الشعراء رحمه الله إلى هذا المعنى بذاته، فقال ولكن في أسلوب أروع ونسج أحكم:
رمضان ولَّى هاتها يا ساقي*** مشتاقة تسعى إلى مشتاقِ
ما كان أكثره على أُلَّافها*** وأقلّه في طاعة الخلَّاقِ
بالأمس قد كنا سجينَيْ طاعة*** واليوم منَّ العيدُ بالإطلاقِ
ولا أدري كيف وقع شوقي بهذا، وهو الذي باهي بنسكه وتبتله حين قال:
وأشهد ما آذيتُ نفساً ولم أضِرْ*** ولم أبْغِ في جَهْري وفِي خَطَرَاتِي
ولا بِتُّ إلا كابن مريم مشفقاً*** على حسدي مستغفراً لعِدَاتِي
وعلى كل فإن هذه الحملة الظالمة التي قام بها الأدباء على رمضان، لم تستطع أن تزحزح مكانته -ولو قليلا- في النفوس، بل زادتها رسوخا وثباتا، وخرج المجانين من المعركة يجرُّون أذيال الخيبة والهزيمة، وكل امرئ بما كسب رهين.
وبعد فما أردت بهذا العرض الموجز أن أتزيَّد على رمضان، فيعلم الله أني أول الناس تفانيا في محبته وإجلاله، ولكني قصدت الترفيه عن القراء في وقت اندلعت فيه السنة الهجير فأحرقت الأفئدة وألهبت الجلود، ومن يدري لعل هؤلاء الأدباء يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، فرب متظاهر بالصوم والعبادة وبين جنبيه قلب مدنس بالمعاصي مثقل بالآثام، ومن عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها.
خليليَّ، قُطَّاع الفيافي إلى الحمى*** كثير وإن الواصلين قليلُ