إدوار الخراط - دخان معلق في الهواء...

قالت له: كنت قد جئت من سدمنت الجبل! فاكر! المهمة التي أوفدتني أنت إليها! من أسبوع! قضيت الليل بطوله في قطار الصعيد! كما تعرف! نصف نائمة نصف مكومة على مقعد الدرجة الثانية.. لا تسمح اللوائح بأكثر منها.

أومأ إليها دون أن يتكلم.
قالت: في أول ضوء للنهار! كأننا في عملية عسكرية! كان كل شيء على أهبة الاستعداد. كانت التوابيت الخشبية الثلاثة راقدة! في المقبرة! تحت ركام الهدر! واضح أنها منتهكة! ومنسية! هُجرت على عجل.

عندما أزاح العمال الصعايدة أكوام التراب والحجارة عن أول تابوت ـ تحت توجيهات المعلم سيد زهران! تعرفه حضرتك! أليس كذلك? ـ كان واضحا أن المومياء قد نُهبت! اختفى كل أثر لها! لكن النقوش الداخلية كانت لاتزال نضرة الألوان! ما أجملها. وجدنا ثلاثة أربعة تماثيل خشبية صغيرة! أهملها اللصوص القدامى! لا قيمة لها عندهم! طبعا. كان ينظر إليها فقط! دون أن يتكلم! أخذ سمته كرئيس! ومع أنهما كانا وحدهما! كانت تدعوه "حضرتك" وتجيد الدور بل تندمج فيه حتى لتكاد هي نفسها أن تنسى أنها تُخفي أسرار لياليهما معا.

قال: أعرفت من أية أسرة?
قالت! بكل جد وتقريرية: نعم يافندم. بداية الأسرة الثانية عشرة! بعد سقوط الدولة القديمة طبعا! يعني بعد انتهاء عصر الأهرامات! كما تعرف.
قال: اكتبي لي ميزانية تقريبية! وسأكتب المذكرة لاعتماد المبلغ اللازم لاستكمال الحفائر. هل تريدين أن تواصلي الإشراف على العملية?

قالت بلهفة وسرعة: لا! اعمل معروف! كفاية علينا جدا الكشف! وعلى ناس المنطقة الوسطى أن يكملوا الشغل. ثم استدركت: ألا ترى هذا أيضا! حضرتك?

رأى في عينيها الخضراوين الواسعتين تألقا حيره تحديده قليلا! هل فيه شيء من سخرية خفيفة! يعني! على سبيل المداعبة والمعرفة المكنونة بأن طلبها مجاب على أي حال! أم أن فيه توقد الرجاء حقا?

قال: عندما تُعلق كل شيء ـ أو الكثير جدا ـ على شخص آخر! على إنسان آخر! على امرأة أو رجل! في هذا النمط الغريب الحميم من علاقات الأنوثة والذكورة! عندئذ تتعرض للأذى والإحباط! لا مفر! عندئذ لا مناعة لك! لأن هذا الآخر ـ مهما كان قريبا إليك! مهما خيّل إليك أن الفواصل بينك وبينه قد سقطت! مهما عرفت معه نعمة أن تتخفف من وحدتك الأساسية! مهما كان كريما! ـ يظل مع ذلك آخر. أي يظل ضعيفا! وغير مكتمل. غير مستجيب! وربما غير عارف.

أليس مأثورا ومُجربا أننا نعيش في تلك الجزر الإنسانية الضيقة المشهورة التي تكلم عنها ـ ومنها ـ الكثيرون?

ماذا نعرف نحن عن أقرب الناس إلينا? في صميمهم أعني? ماذا نعرف عن الألم! والوحشة! والشوق! والغضب! والنفور! والبغضاء التي يحسها المحبوب ـ في وقت ما ـ ونحدسها عنده! ولكن لا نعرفها ـ يعني نعرفها ـ أبدا ـ معرفة حقيقية? هل نجرؤ ـ أو حتى نعرف كيف ـ أن نُسقط هذا القناع! هذه الدروع! هذا السور?

قالت: أما كفاك هذا الكلام الرث القديم الذي شبع تكرارا والذي لا تني تعيد فيه وتزيد! ـ مهما كان صحيحا! وجارح الصحة?

قال: الكلام ليس عليه جمرك.

ولا الحلم.
في 15 فبراير 1994! من نافذة مكتبه في "الخليفة"! وقد أصبح عمله الآن استشاريا بحتا! بعد سن المعاش بكثير! رأى أن قلعة صلاح الدين قد اقتُطعت من بين خاصرتيها! وحلّقت في الفضاء! منزوعة من جذورها! سبحت في سحاب ملوث بالزرقة الكامدة! كان طيرانها فوق القاهرة غير مرئي لأحد غيره! وهو ينظر إليها دون دهشة! بل بشيء من الملل.

كانت قد قالت له: أنت لم تتغير.. هواجسك القديمة التي لا معنى لها هي هي.

كان قد قال لها: أنا طبعا شيء إضافي في حياتك! أعرف هذا! ثانوي وربما جاء بالصدفة أو على سبيل التغيير مثلا! أو الإحسان مثلا! لابأس به مادام هناك على أي حال. لكن طبعا يمكن دائما الاستغناء عنه.

قال: أنت عندي ضرورة! وجوهر! وحتم.
قالت له: أنت لم تتغير.
قالت: السنوات لم تنلك بشيء! فلتتقدم بك السن! كما تشاء! على راحتك! تظل أنت كما أنت! كل شيء يتغير! ربما! الاستثناء الوحيد عندي هو أنت وبنتي لا ينال منكما العمر! ولا أي تغيير.
قال: يا ليت. أهذا! حقا! صحيح?
قالت: هل مازلت يحمر وجهك! كأنما يتضرج حياء! كما عرفتك من أول يوم! وأنت الرئيس! صارم الوجه وجاد جدا? أنا الوحيدة ـ ربما ـ التي عرفت كيف يتدفق الدم إلى وجهك في لحظات معينة. وصمتت.

زمان! في إسكندرية كانت السماء يسبح فيها سحاب سابغ الألسنة! ذيوله المنسابة تراب زعفران مشعشع مضرج! أحمر وأصفر! متوهجا بأشعة الغروب! وراء قلعة قايتباي العريقة! من ورائه شمس متقدة! قانية! قرصها كامل الدوران كامل اللهب! لا تُنال! لا يمكن القبض عليها! وكان هو يغوص! يندفن! كجمرة المغيب هذه! في مياه حنان عميق! عميق! لا ينتهي أبدا إلى قرار.

وكان كونشيرتو فرانسيس بولانج للأُرغن والوتريات والإيقاع يترامى إليه من الردهة ـ عن الوحش الموسيقي "الهاي في" بأزراره وأضوائه ومصابيحه الصغيرة الخضراء والحمراء تومض وتخبو! والأسهم التي تهتز على أوجه الأقراص المضيئة المرقمة كالساعات أو البوصلات! تحت نباتات الظل الوارفة السامقة! وكأنما تهدهد الخضرة الداكنة! صادرة عن الموسيقى أم عن النباتات! من غلواء لواعج الأرغن عميقة الصدى.

قال: الحب ليس هو ـ وحده ـ أبدا.

هو دائما شيء آخر. بل تتجسد فيه دائما أشياء كثيرة أخرى! ملتبسة! من معاني الحياة نفسها! بل الوجود. تركيبات داخلية مكنونة ـ طبعا ـ ولكن أيضا ميثولوجية! وثيولوجية.

هل الفيزيقية المباشرة الصريحة ـ كان لايني يتساءل ـ هل الجسدانية البحتة هي النقية الخالصة لذاتها! وبذاتها! من غير أن تتمثل شيئا آخر! من غير أن تسري فيها وتلوثها وتشوبها وتكثفها معان أخرى! من غير أن تعني شيئا آخر غير ذاتها?

أم أنها تظل تتحمل! بشكل أو بآخر! رواسب المعاني والدلالات المغايرة?

صحراوات الأحلام الفسيحة القاحلة! ماذا تخفي! ماذا تُكِن?

الغولة السحارة العاشقة ترقص الآن رقصتها التي لم تتم! تحت الهرم! حول مواقد نيران قد انطفأت! كانت قد أكلت عليها عشاقها! مازالت بقاياهم من العظم والدم وفلذات أحشائهم! لزجة متلوية على الرمل! تنتفض! كأنها مازالت تنبض! لها رائحة حريفة من طعم الرماد واحتراق اللحم ولذعته. على شفتيها المتلمظتين باللذة دم العشق والمقت معا.

كانت شمس أكتوبر! في صباح الصعيد! رقيقة ولكن قوية وراسخة. ولم يكن عليه إلا أن يرقب ما يجري! من بعيد! لا أن يمارس عملا محددا. ربما لجأوا إليه ـ فيما بعد ـ يستطلعون رأيه أو ـ يعني ـ يسترشدون بخبرته الطويلة. دار ببصره. كان العمل قد بدأ! منطقة هرم "ميدوم" تبدو قاحلة وصخرية! كابية الرمل! كيمان الحفريات تبدو كأنها تلال النمل الأبيض الدءوب ـ كما رأى صورها في المجلات ـ العمال الصعايدة! ناحلون وأشداء! يتحركون ببطء وثقة! والمعلم سيد زهران! مازال يمسك الدفة بحزم في هذا المركب الجاف الوعر! بدا له شيخا الآن! ولكنه عفي! أبوي! حان! مع أن وجهه صلب كأنه قاس! شاربه الأبيض كث! نازل على فمه! وصوته مازالت له سطوة: حاسب يابوي. دير بالك أنت هناك يا ولدي بجولك انت. وجف هناك دلوجيتي.. طيب.. على خيرة الله يا ولدي*..

كانت الشروخ الطويلة في الهرم تلوح خطرة إذ تتعرج داخل الكتل الحجرية وفي صلب جسمها تأملها ببطء.
بدا له مبنى الاستراحة غير بعيد عن الموقع! جناحاه منفصلان.

على العصاري كانت أم برهوم قد أعدت العشاء على وابور البوتاجاز النقالي الذي ينفع أيضا مصباحا إذا انقطع النور. سلقت دجاجة سمينة! بجوزة الهند والحبّهان والمستكة والفلفل الأسود وحمّرتها بالسمنة الصعيدي وعملت على شوربتها الكثيفة ملوخية! وعمرت طاجن رز باللبن في الفرن البلدي الذي بنته بيديها وكانت تخبز فيه العيش! وتشوي البيض! للعمال.

ذهبت إلى جناح الباشمهندسين! وتركت له منابه! على الترابيزة الصغيرة! جنب أوراق الرسم الملفوفة أسطوانات منسقة! إحداها فوق الأخرى! والكتب! والبلوك نوت! والمسطرة الحديد الطويلة التي صدئت قليلا.

وجاءت لها بمنابها في جناحها ـ غرفة نوم! وصالون فيه طقم كراسي خشب! ومائدة طويلة! التواليت الإفرنجي زي الفل ـ وهي تخطو بحرص على الكليم الأسيوطي.

قالت لها: تِسْلم إيديك يا خالة أم برهوم. هو أنا تايهة عن أكلك. زي الشهد. الواحدة تاكل صوابعها وراه. اتفضلي أنت بقى مع السلامة.

ووضعت في يدها الجافة المعروقة المتحركة بحياة خاصة! ورقة بجنيه! بحالها.
وقالت له! وهو يرقبها صامتا: هلكانة من السفر والشغل ونقحة الشمس. هنام الليلة بدري! الصباح رباح.
ثم همست له! تراضيه: يسعد مساك يا حبيبي.
وعندما طلبها في التليفون الداخلي! على وش الفجر! قالت له وصوتها مازال نائما كسولا ناعما:
ـ تعال زي ما أنت كده! تعال على طول! زي ما أنت كده.

سمع عواء الضباع! في الجبل! من بعيد! موحشا في طلعة الفجر المبهم.

كانت غبشة الفجر قد بدأت تنجاب قليلا! والعمال نائمون دون حراك على الرمل! غير بعيد! ملففون في الشيلان والأحرمة والتلافيح وبطاطين ناصلة وخيش الشوالات. رآهم من نافذة الممر المغلق المسقوف الضيق بين الجناحين! كأنه يحس بالاختناق فيه.

أدرك! فيما بعد بكثير! أنها كانت تريد! أن يأتيها مباشرة من نومه! لم يتيقظ عقله بعد! العقل الذي تكرهه ويجذبها معا! تريده أن يجيء إليها من عالم فطري! عالم الوحوش الأليفة والغاب الضارب في السماء! وبحيرات الماء الصغيرة كالمرايا! والنمور المبتسمة! والنساء النائمات بين سيقان المسوخ الوديعة! لا تغار منهن! لأنهن هي! متعددات ولكنهن هي! قال لنفسه عالم روسّو الجمركي مثلا! وكهف ديلاكروا الصحراوي معا! وابتسم ساخرا قليلا من المقارنة.

عاد فتمدد على سريره الخشن! ألواح الخشب صلبة تحت مرتبة قطن جافة! لكن الملاءات نظيفة جدا! قال لنفسه! كأنما يأخذ لنفسه صوتها! كالعادة: "تِسْلم إيديك يا خالة أم برهوم". ولبث يقظان متوتر اليقظة! نصف ساعة! ساعة! أو أكثر قليلا! ثم قام! بالقميص والبنطلون مازال! ونادى: عم سيد.. يا عم سيد يا زهران..يالله يا عم. لِمّْ رجّالتك! على خيرة الله يا بوي!

كانت له دالة على الرجل العجوز! حُكم العشرة الطويلة في الشغل! حُكم العيش والملح! مع أنه الآن لم يكن في موقع السلطة أو الرئاسة الفعلية! ولا يملك عمليا أن يأمر أو ينهي.

دبّت الحياة ـ كما يقال ـ في الموقع.
ـ بالطبع لابد من ترميم هذا الجزء ـ هناك ـ من كِساء الهرم الخارجي! واضح! لن يُحدث ذلك أي تأثير في جسم الهرم نفسه! وطبعا يُعاد استخدام كتل أحجار الكساء الخارجي الأصلية في أماكنها! بعد الترميم. ويا ليت تُرفع أكياس الأسمنت هذه وتُبعد بعيدا! عارف! عارف! طبعا لن يستخدمها أحد. لكن لا أكاد أطيق أن أراها هنا.

كان يرقب الدكتور طارق حسن! رئيس القطاع! وهو يصغي إليه بنصف أذن! وساورته فكرة بأنه مهموم لأن سلطته! باعتباره الرئيس الفعلي للقطاع! لابد أن تتأكد! أن يسلّم بها ويعرفها الجميع.

كانت ـ هي ـ تُقلِّب النظر إليهما! سأل نفسه: هل هذه الحيادية المعلنة! السافرة! حقيقية فعلا! أم ظاهرية? قال لنفسه: هي دائما تنحاز إلى الرئيس الفعلي! عن اقتناع يا ترى! أم عن تقية! ومراعاة للمظاهر! وتنحية للشبهات?

في ثوبها الإفريقي السابغ الفضفاض! خفيفا ولكن محتشما كما يتطلب الصعيد! يُخفي! ويفضح! طيات جسدها المليء بالحيوية! كأنها عَبرَتْ أزمة الفجر! الآن دخلت إلى النهار وروحها تتفزز بالنشاط والاقتحام! وجسمها صاح عارم اليقظة.

قالت! بذلاقة ودربة! وسعيا لاحتواء خلاف ـ أو صراع ـ تبدو نُذُره في الأفق:

ـ المشكلة الحقيقية يا دكتور! إذا سمحت لي أن أبدي رأيي المتواضع! هي أن الواجهة ستتعرض للتعرية! وعوامل الجو القاسية! أنت سيد العارفين والأمر بين يديك طبعا.

قال طارق حسن وقد رضي وتطامنت مخاوفه: نعم! طبعا! هذه مشكلة تُعالج! وأيضا إزالة الرديم من هناك! من الناحية الشمالية! نقوم به بسرعة! في الوقت نفسه. نجرب أولا حتى نرى هل يمكن بعد ذلك رفع الرديم من أمام باقي الواجهات! ونحن نجري الترميمات في الوقت نفسه.

قالت: اقتراحي واضح وعملي! نقيم مصدات للرياح على مسافة أربعة! ثلاثة كيلو مترات من جسم الهرم! ونحقن الشروخ ـ من غير أسمنت ـ وأن يقيم مهندس مرمم بصفة دائمة لا يبرح الموقع.

أومأ الدكتور طارق برأسه موافقا! كأنما على الرغم منه! وقال شيئا عن الميزانية اللازمة! وطريقة تدبيرها.

فأكملت: وأعتقد أنه لا مفر من نقل غرفة الكهرباء من أمام الجهة الشرقية للهرم إلى الموقع الجديد الذي أوصت اللجنة بإنشائه على أرضية منخفضة عن أرضية الهرم! وعلى بعد كاف. أما الاستراحة فلا بأس! ليست قريبة جدا ولا هي مصدر للذبذبات والارتجاج.

قال لنفسه: أهذا صحيح? أي نوع من الارتجاج والزلزلات?

قال لنفسه: ومع ذلك فإنني شديد الخجل من نفسي. لكنني لست خجلا من حبي بل فخور به ـ كما ينبغي أن يكون الأمر! أليس كذلك? الشيء الوحيد الذي أنا به فخور! من غير أدنى تحفظ.

قال: أما عملي! أشعاري التي أكتبها خفية عن كل أحد وأحتفظ بها في البلوك نوت الصغير القديم! تاريخ نضال ثوري قديم كدت الآن أُنسيه تماما! كأنه من تاريخ رجل آخر! كأنه أضغاث ذكريات! مع أنه ضارب في عمق نفسي! كامن هناك! كأنه ذئب! مثلا يا سيدي! مادمت تضرب الأمثال! ذئب في أحد جحور الجبل! وراء الهرم.

قال: أكل شيء موضع سؤال?
قال لنفسه: حبك إياها ليس موضع سؤال. نعم. أما هي! فإن ما قالت إنه حبها ـ هل قالت ذلك قط? ـ ما قالت إنه حبنا.. تساءلت هل يمكن أن نحوطه! أن نصونه! من سطوة الزمن?

"متاع قليل من حبيب مفارق" أليس كذلك?
ابتسم لنفسه ـ ساخرا أم مؤمنا? ـ إذ وجد نفسه! كأنما رغما عنه! يقول مع الرضا: "وإنما هواك ضجيع القلب! وحلمه".

أذلك ذئب آخر ـ مثلا ـ كامن في كهف أعمق! ولعله أكثف عتمة! وأغور كنا?

قال: نحن نظل ذئابا لأحدنا الآخر! مازال القول المأثور صحيحا.

قتالة? ذئبة هي? نعم. بلا شك! قتالة! دم ضحاياها يقطر من يدين ناعمتين بضتين! أظفارها معني بها! مصقولة بالمانيكير اللؤلؤي الفاتح له أثر فعال على أصابعها السمراء المدملجة! لكنه دمها أيضا.

أذئب أنا?
لم يقل ما كانت تعرفه تماما: أنه يبكي الآن! توقعا لأحزان سوف تحملها إليه أيام وشهور وسنوات طويلة قادمة قاحلة! يفتقدها فيها ويجد أنه قد انقطعت به السبل إليها.

في "ميدوم" صوت خبطات صغيرة حريصة على الباب الخشبي المغلق عليهما. كانت هي نائمة تقريبا! والملاءة البيضاء قد سقطت على الكليم الأسيوطي! تحت قاعدة السرير.

كان يعرف ـ من خبطتها على الباب ـ أنها أم برهوم جاءت بالإفطار. قام وفتح لها الباب من غير أن يفكر! فدخلت وقالت: "يصبحكو بالخير. اسم النبي حارسكو. النهاردة الفطار جاهز فضلة خيركو: دحي مجلي! وعسل نحل! وعصيدة بالسمنة الصعيدي! والحليب طازة سخن من بز البجرة".

ـ أين كانت تخفي هذه البقرة? والفراخ البياضة? هل تبيع البيض! واللبن الطازج للعمال? أو تصنع منه جبنا! وتمخضه زبدا?

هل كانت لها عشة! وزريبة! ومبيت في الوقت نفسه! وراء مبنى غرفة الكهرباء! معمولة بالبوص والخيش وألواح الخشب?

كان الطبق المفلطح الواسع ـ صيني به نقوش زرقاء! على حافته شطوف قديمة وكسور رقيقة تثلمت بفعل القدم وبهت لونها! ماركة قديمة! سيفر يمكن! من مخلفات عز قديم! من أيام الاستراحة عندما كان مفتش الآثارإنجليزيا! ربما ـ به ست بيضات مقلية مشرقة! شموس صفراء بيضاء صغيرة عائمة على بحيرة من السمن الشفاف! وطبق أصغر من نفس الماركة! سليم يكاد يكون جديدا! به عسل نحل تتربع في قلبه قطعة شهد شمعية يسيل منها الرحيق متماسك القوام! شهيا! والعصيدة في سلطانية فخار سوداء عميقة! تتصاعد أنفاسها الحارة! مغوية.

وضعت الصينية النحاسية الكبيرة على المائدة المدورة غير ثابتة السيقان! جنب السرير.

لم تلحق رامة أن ترفع إليها ملاءة السرير من على الأرض.

كانت أم برهوم عجوزا مخددة الوجه نحيفة وكلها نشاط وخفة حركة! تلف شعرها الأملح بطرحة سوداء متربة الأطراف دائما! وعلى كتفيها شال قطيفة قديم قلاب الألوان! بنفسجي أحمر أزرق في تقلب النور واهتزاز أهداب القطيفة الناعمة! عيناها غائرتان في محجريهما! صغيرتان جدا وثاقبتان! لامعتان باستمرار من غورهما الداخلي. وكان على صدر جلابيتها السوداء عقد كهرمان! طاف بذهنه أنه مسروق من إحدى المومياوات! حبّاته الكبيرة الصفراء المحمرة كأنها مشعة من الداخل! وفيها نفحة غامضة! أو هكذا تصور. وكانت كتوما! ورءوما! وصامتة المحبة والرعاية.

قالت أم برهوم! تتمتم تقريبا وهي تغطي فمها وأسفل وجهها بطرف من الطرحة! كأنما هي التي خجلت من نوم حضرة المفتشة: "ربنا يهدي سركو! ويهنيكو ببعض يا رب! ويكتب لكو في كل خطوة سلامة".
وخرجت! وردّت الباب وراءها بحرص.
قالت له في التليفون:
ـ تعال! سوف أسمعك كلاسيك ـ (باخ) الذي تحبه! وسوف تراني. ماذا تريد أكثر من ذلك? تريد أن تنهب! ولا يعني تنهب.

فرحة التشوف إلى لقائها كأنها تفوق فرحة اللقاء نفسها.
يقظة الجسم! اهتزاز الروح بالشوق! خفة في الإقبال على الحركة! بل على الحياة. لم تأته هذه الفرحة منذ متى? كأنها من سنين! والتاكسي يشق به شوارع الخليفة والقلعة! عند العصاري.

عندما فتحت له الباب! صدمه جمالها وأنوثتها ـ دائما يصدمه! كل مرة! كأنها أول مرة! وسواء بعد العهد بها أم كان منذ برهة وجيزة.

وكان في ابتسامتها له حفاوة! وتواطؤ! وفي لمعة عينيها الخضراوين الداكنتين الآن في أول الليل مايشي بسرور ترحيب حقيقي! سرور فيزيقي أيضا يعرفه الجسم وحده.

واجهة هرم "ميدرم" الشامخة تصعد من طيات رمل الوادي إلى السماء. قضاء إلهي ورحمة إلهية.

لم يكن قد رآها من أيام رحلة التفتيش! ومن يوم اليقظة في الاستراحة أمام الهرم المشروخ. وتردد في مسمعه صوت أم برهوم: ربنا يكتب لكو في كل خطوة سلامة! فابتسم! ونظرت إليه متسائلة بابتسامة مستجيبة! قال لها: فاكرة أم برهوم? وضحكا في انطلاق كأنهما صبيان بعد في غرارة الشباب الأول! وهي دي حاجة تتنسي? وهي دي ست تتنسي? وشرّق الكلام وغرّب! وإيقاعات سوناتا الفلاوت والهابسيكورد مقام سي صغير! مصنف 1030! تتردد أصداؤها مترقرقة.

قالت له: دعنا نجلس عاقلين الآن. ألا نستطيع?
لم يرد.


إدوار الخراط


1717818973237.png

===============
ولد في 16 مارس 1926 في الإسكندرية.
روائي وكاتب قصة قصيرة، أشتغل بالنقد الأدبي والتشكيلي.
حصل على ليسانس الحقوق في 1946 من جامعة الإسكندرية (جامعة فاروق الأول).
عمل أثناء الدارسة عام 1943 في مخازن البحرية البريطانية في القباري بالإسكندرية، ثم موظفاً في البنك الأهلي بالإسكندرية حتى 1948.
عمل بعد ذلك في شركة التأمين الأهلية المصرية.
في 1959 عمل في منظمة تضامن الشعوب الإفريقية الأسيوية ثم في اتحاد الكتاب الأفريقيين الآسيويين حتى عام 1983 واستقال منها بعد وصوله إلى منصب السكرتير العام المساعد في المنظمتين.
عمل بعض الوقت مستشاراً لرئيس منظمة تضامن الشعوب الأفريقية الآسيوية وللأمانة العامة لاتحاد الكتاب الأفريقيين الآسيويين.
شارك في إصدار وتحرير مجلة “لوتس” للأدب الأفريقي الآسيوي ، ومجلة “جاليري68” الطليعية.
نشرت له عدد كبير من الدراسات والمقالات والترجمات والأحاديث في المجلات الأدبية المصرية والعربية.
دعي أستاذاً زائراً في كلية سانت أنطوني بأكسفورد خلال فصل الربيع عام 1979 وألقى عدة محاضرات.
قررت روايته “رامة والتنين” في جامعة باريس عامي 1984-1986.
حصل على جائزة الدولة للقصة عام 1973، وعلى جائزة الصداقة الفرنسية العربية من فرنسا عام 1991.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى