ياسر انور - النسخ في القرآن والدساتير ظاهرة حضارية...

كانت قضية الناسخ والمنسوخNaskh أوAbrogation في القرآن والسنة من القضايا الشائكة التي أثارت جدلا كبيرا سواء في الداخل الإسلامي أو من خارجه قديما وحديثا وخاصة من قبل بعض المستشرقين الذين ربما كان لديهم بعض العذر في الهجوم على( نظرية) النسخ بناء على طرح القدماء ، وكان أهون نقد استشراقي يوجه ضد فكرة النسخ هو أنه نوع من (التناقض)، أما غلاة المستشرقين ، فقد كان لهم مواقف أكثر عنفا وتهكما مثل ما قاله ريتشارد بيل Richard Bell في كتاب مدخل إلى القرآن Introduction to the Qur’an . وقد أصبح النسخ يمثل وفقا الملاحدة الجدد نقطة ضعف تلومها السنتهم دون إدراك لما يمثله النسخ من قيم حضارية واجتماعية، فالنسخ ليس قصورا في التشريع بل هو استجابة ضرورية لحتمية التحولات الاجتماعية في معظم دول العالم، حتى يمكن أن نقول إنه لا توجد دولة لم تغير دستورها عدة مرات خلال خمسين سنة مثلا. لكن النسخ ت ذلك المظهر الحضاري) تحول إلى أزمة نتيجة لطريقة الطرح الذي قدمه المنطرون القدامى. لقد تناولت الكتابات القديمة مسألة النسخ من منظور لغوي ووصفي ، لا تحليلي ، وكان منهجهم في ذلك البدء في تعريف كلمة النسخ والتي كانت تدور حول المحو و النقل والإزالة ، ثم بعد ذلك تقسيم النسخ إلى أنواع منها المنسوخ حكما وتلاوة ، والمنسوخ تلاوة لا حكما ، والمنسوخ حكما لا تلاوة ، وغير ذلك . وقد قدموا أدلتهم على وقوع النسخ وبيان تلك الأنواع سواء كان ذلك في القرآن أو السنة . وظلت الكتابات تدور في ذلك الإطار مع تغيير يسير في طريقة التناول . لكننا نحاول في هذه الدراسة الموجزة أن نقرأ النسخ بمنهج التحولات المجتمعية وأثرها في تغيير القانون. فالقوانين والدساتير بشكل عام لا يمكن (كما أشرنا) أن تظل ثابتة في أي دولة أو مجتمع ، وذلك لتغير الأعراف و التقاليد والحاجات من وقت لآخر ، فالحياة في حركة مستمرة ، وكما تقول الحكمة القديمة : الإنسان لا يستطيع أن ينزل الماء الجاري مرتين"؛ وذلك لأنه (أي الماء) في حالة حركة مستمرة ، يذهب ماء ويحل محله ماء جديد. وإذا اكان هذا الأمر معروفا في القوانين والدساتير قديمها وحديثها، وداخل النسق الثقافي في نفس المجتمع ، فإن التحولات الاجتماعية والثقافية في العهد النبوي كانت أكثر دراماتيكية ودينامية من أي تحولات أخرى عرفتها البشرية. ذلك لأن القرآن جاء لهدم كل الأفكار القديمة البالية ، وإحلالها بأفكار أخرى أكثر حداثة وتطورا ، مع الإبقاء على القواسم الإنسانية المشتركة في كل المجتمعات. فالمجتمع الجديد يقوم على عقيدة جديدة هي عقيدة التوحيد، وهي تتطلب تشريعا إلهيااجتماعيا جديدا ومغايرا لكثير مما اعتادته الثقافة الجاهلية . لكن ما يميز هذا التشريع الإلهي الجديد أنه تشريع ينبع من مصالح المجتمعات ذاتها ، وليس مجرد قوانين جامدة دون حكمة أو علة، وتنفذ من منطلق التقديس فقط ، بل هي منهج يقدم (البديل التشريعي الأفضل) من مجموعة من (البدائل) ، ولذلك فنحن نقول دائما :" إن الشريعة الإسلامية لا تقدم البديل التشريعي الوحيد ، لكنها تقديم البديل التشريعي الأفضل. فهناك مجتمعات تنطلق من منهج تشريعي وضعي كالمجتمعات الغربية ، وتبدو بشكل حضاري جذاب ومقنع ، لكنها مع مرور الوقت تكتشف قصور بعض تلك التشريعات ، فمثلا حرية العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج ، تبدو فكرة مريحة ، لكنها تتسم بنزعة فردية ، فمع الوقت يقل عدد أبناء المجتمع الذين ينتمون إلى عرق واحد ، و وتزداد الحاجة إلى أعراق و أجناس أخرى ، وتبدأ مشاكل الهوية في الظهور ، وتثار قضايا من قبيل تحفيز عمليات الزواج والإنجاب ، وهكذا . فالتشريع الإلهي من هذا المنظور يقوم بعملية توازن بين حاجة الفرد وحاجة المجتمع. وبالعودة إلى قضية النسخ أو بالتعبير العصري تغيير القوانين، فإن النسخ في الإسلام أمر منطقي بل ضروري ، وذلك لتحول البنية المعرفية القديمة إلى بنية معرفية أخرى ، وهذا يحتاج إلى تعديل وتطوير منظومة القوانين الشرعية وفقا لطبيعة المرحلة. ومن هذا المنظور يفهم مثلا تحليل وتحريم زواج المتعة عدة مرات ، ويفهم أيضا الحكمة في التحول (التدريجي) في تحريم شرب الخمر ، وغير ذلك من الآيات التشريعية المعروفة . إن النسخ في القرآن هو أحد المظاهر الحضارية التي تثبت فكرة المرونة التشريعية في مواجهة التحولات الاجتماعية من حالة إلى حالة أو من مرحلة إلى أخرى، وتمارسه كل دول العالم من خلال أسماء أخرى منها تغيير الدستور أي النسخ. ويكفي ان نعرف ان النسخ قد حدث في الدستور الأمريكي حوالي ثلاثين مرة خلال مائتي عام.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى