جورج سلوم - رسائل بين أدباء الخيبة

كانت شاعرة وأديبة من أدباء الخيبة .. وما أكثرهم !

أولئك ممن يقبعون في الظلّ .. يكتبون لأنفسهم ويرصفون الكلمات ويسمّونها .. أدباً .. يصنّفونها قصصاً قصيرة .. أو خواطرَ سردية .. أو مقالاتٍ عشوائية .. أو يعجزون عن تصنيفها فيتركونها .. بدون تصنيف

ثم كرِهَتْ الكتابة .. عندما اكتشفت أنها غيرُ قادرةٍ على أن تأتي بجديد.. وأنها تجترّ أقوالها اجتراراً

فهجرتها وباعت أقلامها وقراطيسها ... وتحوّلت إلى قارئة .. وباحثة عن الحب بين السطور .. تمتطي الكلمات وتهيم بها في مضامير العشق .. وتلتحف المفردات فتلامس أنوثتها في سرير الوحدة .. وتغمض أجفانها على صورٍ بيانية .. وتشبيهاتٍ بليغة تحقق نشوتها .. ويلٌ لي من وحدتي (هكذا قالت لنفسها).

عندما قرأت مقالاته .. وكان يرسلها إلى موقع أدبي .. أعجبتها شعاراته .. وأثارتها كتاباته .. وجدت فيه ضالتها.. وعلمت أنه أيضاً من أدباء الخيبة .. مثلها تماماً.. أحست بأنها عثرت على حبيب يبادلها الحب .. وأديب يبادلها الكلمات

قررت أن تضمّه إلى عشها .. كطائرٍ لقيط .. شريدٍ ومشرّد .. هاربٍ من غابة الأدب حيث النسور الجارحة التي لا قِبَل له بمجاراتها .. وينشد الدخول إلى قفص يحتمي به.. يغني لصاحبته ويدغدغ عواطفها .. وهي ستغرّد له كعصفورين في قفص إذ أن الطيور على أشكالها تقع

فكتبت إليه :

- تعال إليّ .. أنتشلكَ من براثن نفسك ..

تعال إليّ كما تحبّ بشكل سرّي .. كاللص ..

اسْرِق أحلامكَ وأقلامك ..

وتعال إلى حضني

أعطيكَ أفكاراً متجدّدة .. ألهِمُكَ ينابيعَ ثرّة .. أملأ قلمك بالمداد الخصب.. أمنحك قلبي كصفحة بيضاء تكتب عليه .. وسبق أن قلت لنا أنّ الصفحات البيضاء .. أغلى وألذّ من الصفحات الممهورة بالأختام والمعروضة للبيع

تعال إليّ .. أقرأ مدوّناتك ودواوينك .. بيني وبينك فقط .. والحبّ ثالثنا

أحفظ أبياتك ومفرداتك .. أردّدها .. أتغنّى بها ..

أحفظها عن ظهر قلب .. وعن قلب ظهر

أطبَعُها لكَ على صدري .. ندققها معاً.. نصلح هفواتها .. تزرزر أزراري فوقها كغلافٍ تختار ألوانه على ذوقك

أنشُرُها لك كلّ مساء .. عندما تشقّ إزاري

مطبوعاتك على صدري .. أعطيها موافقة بالنشر مهما شذّت أقلامك .. وشطّت هوامشك.. ومهما خرجت عن النص ستكون مقبولاً

فلا رقيب عندي ولا حسيب

فأنا المُلهمة والقارئة والطابعة والناشرة ..

أنا من سيدفع لك ثمن مخطوطاتك .. فقط ابقَ عندي

واكتب لي .. واكتب عنّي .. وإن شئت فاكتب عليّ

لست أنتظر منك رداً كلامياً أو كتابياً.. بل آمل أن أراك يوماً على بابي

إن قرعت سأفتح لك

قرأ رسالتها مرات عديدة .. دخل بين السطور وبعثر الكلمات .. غربلها .. أعاد قولبتها وتشكيلها ليحاول ترتيب الحروف على هيئة امرأة يهواها ..

أيرسل الزمان له أخيراً امرأة أديبة وعاشقة ؟..

طالما حَلُم بامرأة تهواه كفنان .. كعازف يعزف لها على عوده .. فترقص له على الطاولة .. كالأفلام المصرية

ويعزف على أوتارها .. فتصدح بألحان غرائزية

يعيشان للحب فقط

أو امرأة تعشقه ككاتب .. تقدّس أوراقه .. ولا تلفّ بها الشطائر .. لا تمسح بها الموائد .. تفرشها على سرير الحب .. يعركانها عركاً .. فيضيع ترتيبها .. ثم يحاولان إعادة ترقيمها حسب تسلسل الأحداث .

تلك المرأة العاشقة لمجرد العشق لم تُخلق بعد ( حسب ظنه )..

فليبتعد إذن عن لقائها .. ولتبقَ خيالاً وردياً وحُلُماً جميلاً . يكتب لها وتكتب له .. ويتبادلان الحب والأدب مراسلة وليس ممارسة

وتُحسب رسائلهما من ضمن رسائل الأدباء والعاشقين .. إن حظيت بذلك التصنيف

فكتب إليها جواباً :

-مريضٌ أنا يا سيدتي .. ومرضي مُستعصٍ على العلاج

ضائعٌ .. تائه .. وأبحث عن عنوان

كأنني في صحراءَ خالية .. وأبحث عن سراب

ساقطٌ عن مهري بعد أن أثخنتني الجراح .. وأنتظر من يَدُكّ جروحي الراعفة .. يبلسمها .. يلعقها .. يضمّدها .. أو يعمّقها.. ويُدميها أيضاً وأيضاً فتنتهي آلامي صريعاً وسريعاً

أشعر بالبرد .. وأبحث عن امرأة تشتملني بعباءتها .. كالأم تضعني على صدرها .. أحتمي به إن شئت ..أرضعه .. أختفي بين كثبانه المتحركة مع كل نبضة من قلبها .. وكل شهقة من تنفسها

فأين أنتِ من ذلك؟

أجابت :

- هلمَّ إليّ .. الآن الآن وليس غداً .. (كما قالت فيروز) في نشيد العودة إلى القدس .. علاجُكَ عندي .. ومرضكَ غير مستعصٍ ومنوطٌ بحبي .. فأنا عاشقة للأدب ومؤمنة بالحب .. مستمعة جيدة لكل هرطقاتك .. وقارئة نهمة لكلّ كتاباتك ...

عندي .. لا قيود .. ولا حدود .. ولا محرّمات .. أنت في حِلّ من كل ارتباطاتك ..

عندي ستحلّ سيور حذائك أولاً وتبقيه خارجاً .. كمن يدخل محراباً مقدساً

تجعلني قِبلتك وتجثو بين قدميّ .. فتطلق العنان لقلمك يجود ويجود

سأملأ لك الفناجين مترعة من قهوتي .. وتغمس ريشتك مراراً في أحباري .. فالحب لا ينضب ولن يجفّ في صومعتي ..

عنقي يتطاول ويتمايل تحت قبلاتك إذ أثقله رأسي المخمور ... فلا تبخل عليه .. انزل إليه من عليائك جاثياً كالعبد يقبّل يد مولاه ويجللها بدموع الخيبة والتذلل .

تذلل بين يدي أيها العبد .. حتى يرقّ لك قلبي

شَعري.. نسيتَ أن تفكَّ جديلته في ليلة الأمس المستعجلة .. ساعدني أن نفكّها اليوم بهدوء .. لا تدعه ينسدل .. أدخل أصابعك في ثنياته كالمشط .. سرّح خصلات شعري .. حرّرها .. اجعلها فرقاً وأحزاباً.. خذ بعضها ميمنة وميسرة .. لفلفها على أصابعك الغليظة .. شدشدها .. اجعلني أحسّ بلذة الألم.. ثم انفخ ما تساقط منها أو علِقَ بأصابعك المتشنجة

وسادتي الصغيرة .. أحبّت أن تحمل رأسين في ليلة الأمس .. انظر كم أصبحت رقيقة .. مضغوطة ..

ذكّرني أن أشتري لك اليوم وسادة .. أم ستتوسّد صدري ثانية ؟

تعال إلي أيها الأديب الصغير .. أعلّمك الحب على أصوله .. فتصبح كبيراً

تعال نمارس الأدب ممارسة .. نساجله مساجلة ... نرتجله ولا ننتقي كلماته .. نقوله هكذا كما يخرج من القلب .. بلا تصحيح .. ولا نقد .. ولا عناوين

لنكتب كل يوم قصة قصيرة .. بدون مقدّمات ولتكن نهاياتها مفتوحة على كلّ الاحتمالات .. كقصة بوليسية مكشوفة .. فالضحية أنا والمجرم أنت .. والجريمة متعددة الأوجه .. متكررة يمارسانها كل يوم .. يمثلانها .. فيمثّل بها وتمثّل به .

احبكها جيداً ..

استخدم الرموز في مفردات جسدي .. ولا تكن فضّاحاً

عندي لك كل ما يحتاجه الأديب الفنان .. الطبيعة الصامتة .. والجبال والوديان .. والأزاهيروالألوان

وعندي - إن شئت – انفعالات وغيوم وأمطار وعواصف

وعندي لك مواقف وعواطف ومشاعر جيّاشة .. وأسرار وأغوار

عندي لك الماء والمرعى والوجه الحسن .. وكفاك فخراً

استعمل حروفي كلها .. أعطيها لك من الألف إلى الياء .. وأعطيك فتحاتي وكسراتي وضمّاتي .. وشدّاتي وسكناتي .

استعمل فعل الأمر معي واحذف حروف العلّة كما تشاء

وحتى الأفعال الناقصة مسموحة لك ..

كن أنت الفاعل .. وأنا من جملة المفاعيل .. في كل الظروف الزمانية والمكانية

فماذا تريد أكثر من ذلك يا شاعري ؟

ليكن ضميرك مرتاحاً .. فالأدب كعادة سرّية لا يفضح أحداً .. ولا تلاحقه دواوين الرّقابة .. ويجوز فيه للشاعر كلّ شيئ .. فلا خطوط حمراء .. ولا مديح كاذب .. ولا تصفيق من جماهير مأجورة

ما أحيلى قصصك القصيرة تملأ صدري أحباراً .. وإن طالت تكملها على ظهري .. لوّنتني بزرقة أحبارك يا هذا .

أقرأ قصصك المكتوبة على جسدي .. أقرؤها من اليسار إلى اليمين منعكسة على مرآة حمامي .. ثم أمحوها وأفركها بصابوني ... فتسيل مياهها زرقاء نيلية ... وتغدو بعدها مرتاحاً لأنك كتبتَ كلّ ما تريد

وعندما أغدو نظيفة كصفحة بيضاء .. أدعوك لتكتب عليّ ثانية .

أفلا تفعل .. أيها الفاعل ؟

***************************

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى