العلاقة بين فن الكتابة القصصية وفن الشعر، وبين القصيدة والقصة كنتاجين أدبيين قديمة منذ أيام الملاحم والأساطير العريقة في عدة حضارات، أما تجليات ذلك حديثا في الأدب العربي فيرصد مثلا في مدرسة الشعر الرومانسي كتعبير عن الأحاسيس الذاتية لكنه أيضا كان أسلوبا توسل به بعض شعراء المراثي، والفخر في تراثنا الأدبي.
أقدِّر أن الشاعر جعفر الديري استفاد من تجربته في الكتابة لأكثر من فن في قصيدته (في إثر وردة)، فحضور البناء القصصي فيها جدير بنسبتها للفنين لولا الإيقاع.
استعار الشاعر تقنية استرجاع الماضي مع بداية قصيدته، ليعيدنا بعد ذلك لسرد الحدث.
"لقد أرسلت شُهب المنايا شُواظها...
على حلمي حتّى تحطّمَ قاربي
فما تركت من جسمهِ غير هيكلٍ...
مفرّقة أجزاؤهُ كلّ جانب"
هذا المستهل مثل في بداية القصة/القصيدة افتتاحية تدعو القارئ للتساؤل عن ملابسات هذا الحطام النفسي، هي الرؤيا التي تنتظر التعبير والتفسير، هو المشهد الذي يأتيك في بداية فيلم ليخطفك باتجاه الحدث، ويجب أن تكون الصورة إذ ذاك حادة ومغروسة بأثرها في نفس المشاهد والقارئ، وهو ما سعى له الشاعر في تصوير الحالة النفسية: "تحطم قاربي"، "غير هيكل"، "مفرقة أجزاؤه" إنه يحملنا لأقصى درجات القنوط من نجاة الحلم حتى نصغي للحكاية.
ومع العودة لتقنيات القص فإن الراوي يبرع في اختيار المنظور السردي المناسب لقصته، إذ بينما كان في البداية قد لجأ لنمط السرد الذاتي نجده مع البيت...
"صحبت بها طفلا يشاكس ظله
جميل ابتسام العين حلو الذوائب"
ينتقل للسرد الموضوعي عن ضمير الغائب، منذ تبرعمت تلك العلاقة مع الوردة، وحتى يصل للعقدة في قوله:
"إلى أن توارى في رحيق جنانها
وخلّف لي شيخا ينوح بجانبي"
حتى كان "وحيدا ببيداء الهموم النواعب"
ورغم أن السرد الذاتي هو أكثر مصداقية في التعبير عن الذات المبدعة، وأكثر قربا لتعاطف القارئ وتفاعله إلا أن الانتقال هنا في السرد كان مؤشرا على ثقل الذكريات، وصعوبة استعادتها، فصار من الضروري أن يخرج الراوي كراوٍ عليم يعايش بدقة ذلك الحدث، وما يكشفه ذلك التجانس الكبير في الحالة الشعورية بين ضمير المتكلم، وضمير الغائب أننا أمام ذات واحدة، وإن تغير منظور الراوي.
يكثف الشاعر جعفر الديري الحديث عن الحالة الوجدانية في آخر قصيدته، فذلك ما تبقى من الحدث وهو القيمة التي تكمن في نصه، هي الحياة الجديدة لبطل قصته:
"وصيّر قلبي مُضغةً لنسوره...
وفرّق بيني والطيورِ النجائب
فمن أملً يهوي إلى حفرةِ العنا...
إلى ألمٍ يُحمى على نارِ نادب
ومن حرقةٍ لا تنتهي عن أُوارها...
إلى بارقٍ بادي السآمةِ خالب"
(أمل يهوي)، (العنا)، (الم)، (حرقة) يشتد أوارها، ولا تنتهي، بشكل يجعل الكتابة مع البطل ليست مجرد تنفيس وتخفيف للألم، بل توغل فيه، صب للملح على جرح لم يبرأ بعد.
(في إثر وردة) قصيدة ثرية في معجمها اللفظي وتعكس اطلاع الشاعر وثقافته، ليس على التراث الأدبي الشعري فقط، بل على فنون كتابة القصة، بل والسيناريو أيضا، فالقصيدة لها حبكة غير نمطية، ومشاهدها تتسلسل دراميا بحس سينمائي ماهر، أما التركيبات اللغوية فكلاسيكية في الأغلب، لكنها في مستوى أداء وظيفة الوصف تحقق غرضها برسم صورة تفاعلية للشخصيات والمكان والزمان وما يخالج البطل من مشاعر وأحاسيس، وعمدة ذلك استخدام الشاعر للمترادفات، والمتضادات، والتشبيهات بالصورة البسيطة غير المعقدة على غرار كلاسيكيات الشعر العربي، وخاصة شعر النهضة، بل ربما أضعف الشاعر قصيدته بتكرار بعض القوالب المستخدمة، ولولا التجربة الشعورية الصادقة التي تحمل وجعا إنسانيا ساخنا، والمعجم الثري، والتدفق الدرامي لكادت القصيدة تهوي في قيمتها الفنية بسبب تلك التكرارات، خذ مثلا تكرار: "إلى الله"، "إلى أن بدت"، "إلى أن توارى"، "إلى ألم"، "إلى بارق"، لكن الشاعر حصن قصيدته من السقوط بإعادة هندسة المعنى ببنائية جميلة تحث المتلقي على مواصلة الرحلة مع بطل قصته.
٢٦ يونيو ٢٠٢٠
----------------------------
في إثر وردة..
القصيدة الفائزة بالمركز الأول فئة الشعر في مسابقة جائزة كرزكان للشعر والقصة القصيرة 2020... كرزكان.. مملكة البحرين.
شعر - جعفر الديري:
أُسائل نفسي هلْ نبت بي مراكبي...
أم الخوفُ معقود على كلّ جانبِ
أسائل هل بعدَ التغرّبِ منية...
تلوحُ أم ان اليأس عُقبى التجاربِ
لقد أرسلت شُهب المنايا شُواظها...
على حلمي حتّى تحطّمَ قاربي
فما تركت من جسمهِ غير هيكلٍ...
مفرّقة أجزاؤهُ كلّ جانبِ
***
إلى الله أشكو كيفَ أنّ ملاعبا...
دخلت إليها والمُنى في ركائبي
وخلّفتها والحزن يكسو أدِيمها...
وقلبي كما صَمت الليالِ الغواربِ
صحبت بها طفلا يُشاكس ظلّه...
جميل ابتسامِ العين حُلو الذّوائبِ
مضى يقتفي في كلّ روضٍ أريجه...
يضَاحك زهرا أو يبشّ لعاشبِ
إلى أن بدتْ في زهوة العمرِ وردة...
تباهي على لِدّاتِها بالغرائبِ
فما زال مفتونا بها غيرَ عابيء...
بقول حكيمٍ أو نصيحةِ تائبِ
يراقبها صبحا ويبكي مع المسا...
ويسأل عنها كلّ نجمِ وغاربِ
إلى أن توارى في رحيقِ جَنانها...
وخلّف لي شيخا ينوحُ بجانبيِ
ثقيل الخُطى رهن الملامةِ والشقا...
ملِيء الحنايا بالظنونِ الكواذبِ
يخافُ من الأقدار ريحَ سمومِها...
متى عصفتْ نادت بشرّ الغياهبِ
إذا افترّ صبحٌ آذتِ الشمسُ حلمه...
وإن جنّ ليلٌ تاهَ بينَ الكواكبِ
فما بين أوجاع يعيش وطالع...
على البعد يبدو مؤذنا بالنوائبِ
تقلّبُ دنياهُ على جمرةِ الغضا...
وحيدا ببيداءِ الهموم النواعبِ
***
فالله عمرٌ بات في رونقِ الصبا...
شريدا كما فرّتْ غيومُ السحائبِ
كأنّ له من بؤسهِ وجهَ مقبل...
على الموتِ يمضي بين ماشٍ وراكبِ
سقاه الأسى كأسين كأسَ مرارة...
وآخرَ يغلي فيهِ سمّ العقاربِ
أبى الحظ أن يكسوه فضلَ رِدائه...
ولكن تردّى في خيوطِ العناكبِ
فأقبل مكسورَ الجناحِ معذّبا...
نِياطا تلظّى بالشجونِ اللواهبِ
وصيّر قلبي مُضغةً لنسوره...
وفرّق بيني والطيورِ النجائبِ
فمن أملً يهوي إلى حفرةِ العنا...
إلى ألمٍ يُحمى على نارِ نادبِ
ومن حرقةٍ لا تنتهي عن أُوارها...
إلى بارقٍ بادي السآمةِ خالبِ
أقدِّر أن الشاعر جعفر الديري استفاد من تجربته في الكتابة لأكثر من فن في قصيدته (في إثر وردة)، فحضور البناء القصصي فيها جدير بنسبتها للفنين لولا الإيقاع.
استعار الشاعر تقنية استرجاع الماضي مع بداية قصيدته، ليعيدنا بعد ذلك لسرد الحدث.
"لقد أرسلت شُهب المنايا شُواظها...
على حلمي حتّى تحطّمَ قاربي
فما تركت من جسمهِ غير هيكلٍ...
مفرّقة أجزاؤهُ كلّ جانب"
هذا المستهل مثل في بداية القصة/القصيدة افتتاحية تدعو القارئ للتساؤل عن ملابسات هذا الحطام النفسي، هي الرؤيا التي تنتظر التعبير والتفسير، هو المشهد الذي يأتيك في بداية فيلم ليخطفك باتجاه الحدث، ويجب أن تكون الصورة إذ ذاك حادة ومغروسة بأثرها في نفس المشاهد والقارئ، وهو ما سعى له الشاعر في تصوير الحالة النفسية: "تحطم قاربي"، "غير هيكل"، "مفرقة أجزاؤه" إنه يحملنا لأقصى درجات القنوط من نجاة الحلم حتى نصغي للحكاية.
ومع العودة لتقنيات القص فإن الراوي يبرع في اختيار المنظور السردي المناسب لقصته، إذ بينما كان في البداية قد لجأ لنمط السرد الذاتي نجده مع البيت...
"صحبت بها طفلا يشاكس ظله
جميل ابتسام العين حلو الذوائب"
ينتقل للسرد الموضوعي عن ضمير الغائب، منذ تبرعمت تلك العلاقة مع الوردة، وحتى يصل للعقدة في قوله:
"إلى أن توارى في رحيق جنانها
وخلّف لي شيخا ينوح بجانبي"
حتى كان "وحيدا ببيداء الهموم النواعب"
ورغم أن السرد الذاتي هو أكثر مصداقية في التعبير عن الذات المبدعة، وأكثر قربا لتعاطف القارئ وتفاعله إلا أن الانتقال هنا في السرد كان مؤشرا على ثقل الذكريات، وصعوبة استعادتها، فصار من الضروري أن يخرج الراوي كراوٍ عليم يعايش بدقة ذلك الحدث، وما يكشفه ذلك التجانس الكبير في الحالة الشعورية بين ضمير المتكلم، وضمير الغائب أننا أمام ذات واحدة، وإن تغير منظور الراوي.
يكثف الشاعر جعفر الديري الحديث عن الحالة الوجدانية في آخر قصيدته، فذلك ما تبقى من الحدث وهو القيمة التي تكمن في نصه، هي الحياة الجديدة لبطل قصته:
"وصيّر قلبي مُضغةً لنسوره...
وفرّق بيني والطيورِ النجائب
فمن أملً يهوي إلى حفرةِ العنا...
إلى ألمٍ يُحمى على نارِ نادب
ومن حرقةٍ لا تنتهي عن أُوارها...
إلى بارقٍ بادي السآمةِ خالب"
(أمل يهوي)، (العنا)، (الم)، (حرقة) يشتد أوارها، ولا تنتهي، بشكل يجعل الكتابة مع البطل ليست مجرد تنفيس وتخفيف للألم، بل توغل فيه، صب للملح على جرح لم يبرأ بعد.
(في إثر وردة) قصيدة ثرية في معجمها اللفظي وتعكس اطلاع الشاعر وثقافته، ليس على التراث الأدبي الشعري فقط، بل على فنون كتابة القصة، بل والسيناريو أيضا، فالقصيدة لها حبكة غير نمطية، ومشاهدها تتسلسل دراميا بحس سينمائي ماهر، أما التركيبات اللغوية فكلاسيكية في الأغلب، لكنها في مستوى أداء وظيفة الوصف تحقق غرضها برسم صورة تفاعلية للشخصيات والمكان والزمان وما يخالج البطل من مشاعر وأحاسيس، وعمدة ذلك استخدام الشاعر للمترادفات، والمتضادات، والتشبيهات بالصورة البسيطة غير المعقدة على غرار كلاسيكيات الشعر العربي، وخاصة شعر النهضة، بل ربما أضعف الشاعر قصيدته بتكرار بعض القوالب المستخدمة، ولولا التجربة الشعورية الصادقة التي تحمل وجعا إنسانيا ساخنا، والمعجم الثري، والتدفق الدرامي لكادت القصيدة تهوي في قيمتها الفنية بسبب تلك التكرارات، خذ مثلا تكرار: "إلى الله"، "إلى أن بدت"، "إلى أن توارى"، "إلى ألم"، "إلى بارق"، لكن الشاعر حصن قصيدته من السقوط بإعادة هندسة المعنى ببنائية جميلة تحث المتلقي على مواصلة الرحلة مع بطل قصته.
٢٦ يونيو ٢٠٢٠
----------------------------
في إثر وردة..
القصيدة الفائزة بالمركز الأول فئة الشعر في مسابقة جائزة كرزكان للشعر والقصة القصيرة 2020... كرزكان.. مملكة البحرين.
شعر - جعفر الديري:
أُسائل نفسي هلْ نبت بي مراكبي...
أم الخوفُ معقود على كلّ جانبِ
أسائل هل بعدَ التغرّبِ منية...
تلوحُ أم ان اليأس عُقبى التجاربِ
لقد أرسلت شُهب المنايا شُواظها...
على حلمي حتّى تحطّمَ قاربي
فما تركت من جسمهِ غير هيكلٍ...
مفرّقة أجزاؤهُ كلّ جانبِ
***
إلى الله أشكو كيفَ أنّ ملاعبا...
دخلت إليها والمُنى في ركائبي
وخلّفتها والحزن يكسو أدِيمها...
وقلبي كما صَمت الليالِ الغواربِ
صحبت بها طفلا يُشاكس ظلّه...
جميل ابتسامِ العين حُلو الذّوائبِ
مضى يقتفي في كلّ روضٍ أريجه...
يضَاحك زهرا أو يبشّ لعاشبِ
إلى أن بدتْ في زهوة العمرِ وردة...
تباهي على لِدّاتِها بالغرائبِ
فما زال مفتونا بها غيرَ عابيء...
بقول حكيمٍ أو نصيحةِ تائبِ
يراقبها صبحا ويبكي مع المسا...
ويسأل عنها كلّ نجمِ وغاربِ
إلى أن توارى في رحيقِ جَنانها...
وخلّف لي شيخا ينوحُ بجانبيِ
ثقيل الخُطى رهن الملامةِ والشقا...
ملِيء الحنايا بالظنونِ الكواذبِ
يخافُ من الأقدار ريحَ سمومِها...
متى عصفتْ نادت بشرّ الغياهبِ
إذا افترّ صبحٌ آذتِ الشمسُ حلمه...
وإن جنّ ليلٌ تاهَ بينَ الكواكبِ
فما بين أوجاع يعيش وطالع...
على البعد يبدو مؤذنا بالنوائبِ
تقلّبُ دنياهُ على جمرةِ الغضا...
وحيدا ببيداءِ الهموم النواعبِ
***
فالله عمرٌ بات في رونقِ الصبا...
شريدا كما فرّتْ غيومُ السحائبِ
كأنّ له من بؤسهِ وجهَ مقبل...
على الموتِ يمضي بين ماشٍ وراكبِ
سقاه الأسى كأسين كأسَ مرارة...
وآخرَ يغلي فيهِ سمّ العقاربِ
أبى الحظ أن يكسوه فضلَ رِدائه...
ولكن تردّى في خيوطِ العناكبِ
فأقبل مكسورَ الجناحِ معذّبا...
نِياطا تلظّى بالشجونِ اللواهبِ
وصيّر قلبي مُضغةً لنسوره...
وفرّق بيني والطيورِ النجائبِ
فمن أملً يهوي إلى حفرةِ العنا...
إلى ألمٍ يُحمى على نارِ نادبِ
ومن حرقةٍ لا تنتهي عن أُوارها...
إلى بارقٍ بادي السآمةِ خالبِ