كاهنة عباس - الشاهد والمشهود عنه


أليس من الغريب أن نحكي ما جرى لنا حينا ؟
نحن نفعل ذلك يوميا ، لكن لو فكرنا قليلا ، لأدركنا أننا الحاكي والمحكي عنه ،أي أننا الشاهد على ما جرى والمشهود عنه أي موضوع الحكاية .
ولكي يتحقق ذلك لا بد من وجود فجوة صغيرة في النفس حتى تنشطر إلى نصفين فتكون هي من يشهد و يروي وفي الآن نفسه الفاعل والمروي عنه .
حين ننعت أنفسنا بهذا النعت أو ذاك من شجاعة أو جبن أو قدرة أو عجز أو كرم أو بخل أو قسوة أو لطف، ألا يفترض ذلك وجود طرفين ، الطرف الفاعل أو المنخرط في سلسلة من الأحداث والطرف المشاهد المقيّم لتلك الأفعال ؟ أليس اللغة أكبر دليل على انقسام النفس إلى شاهد ومشهود عنه ؟
الأمر إذا، ليس كما قال أرسطو أن الإنسان حيوان ناطق، أي قادر على التواصل مع غيره من الناس باعتباره مدنيا بالطبع حسب عبارة ابن خلدون ، أي إنه لا يعيش إلا في مجتمع تنظمه سلطة سياسية ، بل يتجاوزه بادراك أن للنفس مستويين : معرفة ما يحدث لها وما تأتيه من فعل ،و متابعته ثم تفسيره، أي نوع من الانشطار بين الواقع وتقييمه، أما الأغرب مما ذكرنا، فيتمثل في المدة الزمنية الفاصلة بينهما والقصيرة جدا ، كأن يغلق شخص ما الباب وهو يصف فعله قائلا : ها، قد أغلقت الباب .
ومعنى ذلك ، أن الإنسان ليس بالحيوان الناطق ولا الاجتماعي السياسي فحسب ، بل هو المؤسس لمعنى أفعاله مادام هو المخبر عنها ،راويها ومقيمها ، بذلك تكون الصفات المسندة إليه متصلة بعضها ببعض ، فما دام الإنسان كائنا اجتماعيا سياسيا بالطبع، فلا شك أن جميع أفعاله هي مرتبطة بغيره من الناس لأن نتائجها ستعود عليهم وأن إدراكها وتقييمها من طرفه متصلة بهم أيضا .
أن نكون الشاهد والمشهود عنه بفضل اللغة التي تحدث فجوة في النفس باعتبارها إرثا مشتركا بين الناس والأداة الحاملة لوصف ما نفعل، بما نفكر، بما نشعر، حتى نتقاسمه بيننا جميعا ، هو بعينه أهم صفات الإنسان و الإنسانية .
لذلك فنظر النفس في من تكون وكيف تكون بالتفكير والتأمل في ذاتها ، هو ما سمي الكوجيتو حسب عبارة ديكارت الشهيرة : أنا أفكر فأنا موجود ، باعتبار أن إدراك الذات لنفسها هو الحقيقة الوحيدة التي تصمد في مواجهة كل الشكوك .
وما يهمنا ليس تلك القدرة وتفسيرها وتأويلها ومعرفة نتائجها ، بل وضعية الشاهد والمشهود عنه، أي مرآة الشاهد وما تعكسه من صور والعلاقة بينها وبين المشهود عنه.
تلك العلاقة التي تضعنا خارج جل التصنيفات الفرويدية التي مثلت النفس بخريطة وقسمتها إلى ذات مرجعيتها القيم الاجتماعية سميت بالأنا الأعلى ثم ذات مرجعيتها قصتها الشخصية وتاريخها وأفكارها سميت بالأنا ،ثم ذات اللاوعية متكونة من الغرائز والرغبات والنزوات سميت باللاوعي بأن لكل منها مساحة مع وضع أسس التفاعل والتداخل بينها لفهم الذات الإنسانية .
والرأي عندنا ، أن الشاهد والمشهود عنه، هما باتصال مستمر ما يفصلهما ليس المسافة بل الوظيفة فالشاهد هو الناظر والمشهود عنه هو الفاعل أو المنخرط في الأحداث.
إذ يتحول العالم في نظر الشاهد إلى مجرد موضوع للمتابعة والفهم ، فيخيل إلينا أننا نسيره ونمتلكه ، لكي نتوهم من خلال فعل المشاهدة أننا مفصلون عنه .
أما المشهود عنه، فهو ذلك الشخص الذي نحمل ذاكرته واسمه وتاريخه المستقر بتلك المنطقة التي نعتبرها هويتنا سواء كانت فردية أم جماعية، وهو ذلك الكائن الذي نشاهده ونلمحه وقد نكن له أحيانا التقدير وقد نرفضه، إلا أنه جزء منا وهو من يعيد النظر في ما يتلقى من مشاهدة فيدركها من زاويته .
وقد تختلف الزمنية التي يحياها الشاهد عن زمنية المشهود عنه ، إذ يختزل الأول الأزمنة الثلاث : الماضي والحاضر والمستقبل لحاجته إليها حتى يتابع ويشاهد ، بينما يحتار المشهود عنه في اختيار الزمن المناسب له: إذا كان الحاضر أم الماضي أم تصور للمستقبل وغالبا ما يتلقى ما يتابعه الشاهد ليرويه من خلال زمن اللغة المتحدث بها .
لذلك فعلاقة الشاهد بالصمت علاقة وطيدة لأنه يشكل الفيصل بينه وبين المشهود عنه ، الفجوة التي تفصلهما . جميع الأوهام والتصورات والافتراضات والتوقعات تكمن في هذه العلاقة العضوية بين الشاهد والمشهود عنه ،لأنها مصدر ما يسمى التاريخ ومصدر الذاكرة ما تخفيانه من أسرار ، فالشاهد والمشهود عنه، هما مصدر ما سمي بالضمير الإنساني، وهما مصدر ما سمي بالأخلاق وبكل الأحكام الصادرة والمقيمة لأفعالنا وهما أيضا سر تفوق الإنسان على جميع الكائنات الأخرى، لأنهما يمنحانه القدرة على التحكم في مصيره وهما أيضا منبع ومصدر الثقافات على اختلافها .
لذلك فالنفس ليست بالمعزل عن الغير لان الشاهد وإن كان يراها وينظر إليها من منظار محايد لكن المشهود عنه بفعل تلقيه الاسم واللقب والهوية هو مضطر لتفسير ما يتلقاه من زاوية ثقافية معينة .
علينا ،أن لا ننسى أن الإنسان حين يولد ،أثناء نشأته الأولى ليس بالمشهود عنه بل هو الشاهد المتلقي دون أن يصدر أية أحكام على ما يفعل ،فالطفل هو أكثر الناس عفوية وقدرة على استمتاع بالحياة لأنه يشاهد دون حكم أو تقييم إلى حين تلقيه للإرث الثقافي ولتجارب من سبقوه .وما دام الإنسان مركبا من شاهد ومشهود عليه ، أي من فعل وحكاية تسرده من إدراك وما يتجاوزه من أجل بعث المعنى وما يتصل به من مسببات ، فهو عالم بما يأتيه من أفعال ،بالتالي فهو المسؤول عنها لأنه خبرها وفهمها وأولها ساعة وقوعها .
فالمسألة تتجاوز ما سمي بالأخلاق ونسبيتها وتحولها وتصنيفها إلى ما هو أعمق باعتباره يندرج ضمن تقييم وتقدير ما نفعل وما نقول مسبقا.
لولا الشاهد والمشهود عنه، لما تغيرت أحوال الأشخاص، لمكثوا على ما هم عليه من أفكار ومعتقدات وتصورات .
لو لا الشاهد والمشهود عنه، لما أمكننا الحديث عن تجربة ما ، لان التجربة هي في الحقيقة ذلك الحدث الذي عشناه فحفظته ذاكرتنا ثم قيمناه للاستفادة منه باتخاذ المسافة الكافية عما كان وحدث .
ولو لا الشاهد والمشهود عنه ، لما كانت الذاكرة ذلك المرجع الغريب العجيب المؤسس لكل نفسية وكل تجربة وكل شخصية .
من يفكر هل الشاهد أم المشهود عنه ؟
الشاهد لا يفكر ولا يقيم ، أما المشهود عنه فإنه يتلقى الشهادة فيؤولها ويسعى إلى فهمها وحفظها لضمان استمراريته أي استمرارية الجسد بكل إمكانياته الحسية وما يتجاوزها .
وأحسن دليل لوجود الشاهد والمشهود عنه هي الكتابة ، عند توثيق ما يحدث ووصفه وتقييمه بكل ما يحمله من معان وأحاسيس .
لذلك كل مشاهدة وتأوييل هي قابلة للنقل من ثقافة الى ثقافة لان هذه الأخيرة ليست إلا تأسيسا وتأويلا للعالم أثناء مشاهدته .
وعندما نتحدث عن المشاهدة الداخلية ، الباعثة للقيم بمثابة المصدر الأصلي لكل ما عساه أن يكون مقدسا .
كاهنة عباس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى