يذهب المستعرب “روجر آلن” في كتابه “الرواية العربية” إلى أن الرواية هي الطريقة التي يخاطب بها المجتمع نفسه، ويربط بين الرواية والظروف التي يعيش في ظلها المجتمع، ولعل هذا المفهوم يفسر غزارة الإنتاج الروائي السوري في السنوات العشر الأخيرة، فالروائي يبدو وكأنه لسان حال المجتمع الذي يعاني ويلات الحرب والشتات، فجاءت الرواية لتضعنا في عمق المأساة التي يعيشها الإنسان السوري، سواء اللاجئ إلى وطن بديل أو ذلك المنفي داخل وطنه من هول واقع أليم يفتك به، ومن أحدث النماذج التي تعاملت مع تلك القضية رواية “الهوتة” للكاتبة “نجاح إبراهيم” ( وهي الرواية الفائزة بجائزة حنا مينة للرواية، والصادرة عن وزارة الثقافة السورية لعام 2022).
الهوتة
لا يحتاج عنوان العمل الأدبي إلى تأكيد على أهميته، فذلك أمر مسلم به، وصار من البديهيات، فهو جزء من بنية النص وهو الذي يوجه قراءة الرواية، ويغتني بدوره بمعان جديدة بمقدار ما توضح دلالات الرواية فيها، وهو مرآة مصغرة لكل النسيج النصي وهو الضوء الكاشف لدلالته ومعناه، حتى وإن بدا العنوان في ذاته غريبا، كما نجد في رواية “الهوتة”.
والهُوتَةُ ما انخفض من الأرض أو الطريق المنحدر إلى الماء، وقد اتخذت منها الكاتبة عنوانا للرواية، ورمزا لما صارت إليه أحوال سورية وقت الحرب مع الدواعش، تقدم الرواية تفسيرا للعنوان، تحكي بهار عن الحفرة لحامد، ترتجف بهار وهي تصفها: “حفرة عميقة وواسعة، ومرعبة”، وتضيف: ” أفراد داعش كانوا يأتون بالناس الذين يريدون الخلاص منهم على شكل جماعات، معصوبي الأعين، مربوطي الأيدي وقبل مائة متر من الحفرة، يقولون لهم: اركضوا أنتم أحرار، فيركضون طمعاً في نيل الحرية، فيقعون في الحفرة التي تبتلعهم كقدر أسود”.
هكذا جعلوا من حلم أسراهم بالخلاص فخا يقود إلى الموت، وهو المصير المحتوم لكل من تغضب عليه داعش أو من يحاول الهرب من قبضتها، لكن قدر بهار شاء أن تفلت منه بمساعدة أحد المزارعين، نصحها: “ضعي الهوتة التي أمامك حين تخرجين من الباب في ظهرك وامض نحو اليسار”.
وهربت بهار من قبضة الشيخ منصور، لكن لم تنج، فقد أعادها رجال الشيخ إلى أسرها، ولم تتحرر إلا بموته، ولنتأمل دلالة ذلك.
التشظي
ولأن الوطن كله أصبح “هوتة” كبيرة، فإن بهار تواصل هروبها لتستقر في موسكو، وهناك تلتقي بحامد، ابن وطنها الهارب أيضا من أفراد داعش ومن أعداء آخرين، منهم رئيس التحرير الذي وشى به، والمحقق الذي أصر على اتهامه ولم يتحر الحقيقة، والزبانية الذين قاموا بتعذيبه، فمثل هؤلاء هم الذين مهدوا الأرض لنبت داعش الشيطاني، هذا ما نخلص منه من ذكريات حامد، الذي دفعه صوت بهار إلى استعادة الوطن.
حامد الصحفي المنحاز إلى الحقيقة عرف وطنه جيدا، وتحرك كثيرا من الحسكة وحتى دمشق واللاذقية، وفي كل الأماكن ارتبطت حياته بالنساء، تقول الرواية: “ما بالك يا حامد؟ وهل كنتَ غير رجل مزدحم بالنساء؟! هل كنت حقاً غير رجل عبرت سريره العشرات منهن؟ كلمة “أحبك” كرّرتها مئات المرات في اندهاشِ وجوههن، وحرارة صدورهن، وغنجهن في الفراش؟
حامد لم يكن صادقا في حبه، فلم تكن كلمة “أحبك” إلا بابا يفضي إلى الفراش، وذات مرة يعترف: “في باب توما وحده كانت لي عشرات العلاقات، وبعد كلِّ علاقة أحاول أن أضيف فهماً إلى حياتي، أو أنساً يبدّد وحشتي ووحدتي، لكن الأمر ينتهي بعد وقت قصير، ليأخذ شكل الوقت العابر والمَنْسي، فأعود إلى الوحدة من جديد”.
يستعيد حكاياته مع أنونة ولمياء وبيلا وغيرهن قبل أن يصل إلى بهار، ونلاحظ أن كل واحدة منهن تنتمي إلى طائفة مختلفة، والتقاها في مكان مختلف، لكن كلهن واجهن نفس المصير، إما الاغتيال كما حدث لأنونة ولمياء أو المنفى الذي التقى فيه بهار.
ويحاول أن يبرر ذلك أو يفهم سببه فيقول: “ما كانت تلك العلاقات لترمم الانشطار الكبير في داخلي! كنت كالحفرة كلما أخذت منها تتسع، لهذا وجدتني أتكاثر بانشطاراتي وغربتي”.
والحقيقة أنه عاش واقعا لا ينتج إلا غربة وتشظيا وانشطارا، بداية من نشأته في: “حي “الحجل الوردي” الفقير، الكئيب، الذي لا يمتُّ بصلة للون الورد بتاتاً”. وفي دمشق يسكن قبوا، وحتى في موسكو يسكن في شقة ضيقة يسميها تابوتا، ولا توفر له إلا شعورا بالبرد والوحشة. وحتى بات انقطعت صلته بوطنه الذي انفجرتْ الحربُ فيه، وصار كتلة نار تتدحرج لتحرق الأخضر واليابس فيه. يصف الوضع بقوله: “نارٌ في كلِّ الجهات اندلعت، وأنا أعزل في منتصف الدائرة”. ويضيف: ” فأنّى سرتُ ثمّة صحارى وخنادق وبنادق وعسس، وقناص، ونار، وشكٌّ وخوف. القتل غدا على الهوية، والويل لمن يحصل التباس في اسمه، أو يشكُّ به لمجرد تشابه في الأسماء. لا وقت لدى كلِّ الأطراف المتنازعة للتدقيق أو معرفة الحقيقة. هناك روح لا أهمية لوجودها، روح ستزهق بثانية، ولا يعرف من أزهقها، ولا وقت للتحقيق بالأمر”.
لذا وبنص الرواية تصبح كل الجهات ملاذا، وتتضاءل طموحاته ويقتنع بأن: “المهم أن أشعر بالأمان، وأن أحظى بقليل من النوم”. وبهار لم تختلف عنه، يقول حامد: “يا الله كيف يحمل واحدنا أطناناً من الألم ويبقى على قيد الحياة؟! كيف لم ننفجر من الوجع؟! غريبان نحن، شقيان. من بلاد الشمس جئنا، لنحط في بلاد الثلج أعزلين من كل شيء إلا من الرغبة في أن نعيش حياة كريمة نجد فيها الأمان والأمن”.
الضباب
تحن فصول الرواية الأولى إلى بلاد الشمس، وتستعيد الحياة فيها عبر سبعة فصول مرقومة، بينما تمنح الكاتبة آخر فصول الرواية عنوانا هو “الضباب”، وكأنها تضعنا أمام الوجه الآخر للحكاية، فالحرب جعلت من بلاد الشمس هوتة كبيرة أو مقبرة، ومن استطاعوا الهروب يعيشون في الضباب، وفي الضباب تختفي بهار، يناديها فلا تجيب، يقول: ” كنتُ وحيداً إلاَّ من صوتي، مجنوناً أركض في الشوارع التي خلت من الناس. أكاد أتجمد، خضت في كتل الثلج التي كبرت أمام خطوي، رحتُ أصرخ من جديد”، وتنتهي الرواية وهو يناديها، لا يجدها، ولا يفقد الأمل.
ففي الضباب ليس ثمة يقين، وحتى إن لم تعد بهار، فقد استطاعت أن تمنحه الأمل ودفعته لأن يبعث الوطن في داخله، ولنتأمل قولها : “عند الباب الحديدي الأسود انهارت قواي، لم أصدق أنها أطلقت سراحي. جمعتُ أشلائي وجروحي ومضيت أركض، لن تأكلني حفرة الهوتة هذه المرّة، فأنا في وضح النهار، رحت أركضُ، خاتلتها حين تحاشيتها وأنا أراها كما أرى يدي، بينما كلّ من ابتلعتهم جاؤوها قسراً في الليل”، فالظلام فقط هو من يملأ جوف الهوتة بالمنكوبين، بينما النور يجلي الحقيقة ويضمن النجاة من قبضة الظلاميين.
وهذا هو ما توحي به تلك الرواية الجميلة لكاتبتها المبدعة نجاح إبراهيم.
الهوتة
لا يحتاج عنوان العمل الأدبي إلى تأكيد على أهميته، فذلك أمر مسلم به، وصار من البديهيات، فهو جزء من بنية النص وهو الذي يوجه قراءة الرواية، ويغتني بدوره بمعان جديدة بمقدار ما توضح دلالات الرواية فيها، وهو مرآة مصغرة لكل النسيج النصي وهو الضوء الكاشف لدلالته ومعناه، حتى وإن بدا العنوان في ذاته غريبا، كما نجد في رواية “الهوتة”.
والهُوتَةُ ما انخفض من الأرض أو الطريق المنحدر إلى الماء، وقد اتخذت منها الكاتبة عنوانا للرواية، ورمزا لما صارت إليه أحوال سورية وقت الحرب مع الدواعش، تقدم الرواية تفسيرا للعنوان، تحكي بهار عن الحفرة لحامد، ترتجف بهار وهي تصفها: “حفرة عميقة وواسعة، ومرعبة”، وتضيف: ” أفراد داعش كانوا يأتون بالناس الذين يريدون الخلاص منهم على شكل جماعات، معصوبي الأعين، مربوطي الأيدي وقبل مائة متر من الحفرة، يقولون لهم: اركضوا أنتم أحرار، فيركضون طمعاً في نيل الحرية، فيقعون في الحفرة التي تبتلعهم كقدر أسود”.
هكذا جعلوا من حلم أسراهم بالخلاص فخا يقود إلى الموت، وهو المصير المحتوم لكل من تغضب عليه داعش أو من يحاول الهرب من قبضتها، لكن قدر بهار شاء أن تفلت منه بمساعدة أحد المزارعين، نصحها: “ضعي الهوتة التي أمامك حين تخرجين من الباب في ظهرك وامض نحو اليسار”.
وهربت بهار من قبضة الشيخ منصور، لكن لم تنج، فقد أعادها رجال الشيخ إلى أسرها، ولم تتحرر إلا بموته، ولنتأمل دلالة ذلك.
التشظي
ولأن الوطن كله أصبح “هوتة” كبيرة، فإن بهار تواصل هروبها لتستقر في موسكو، وهناك تلتقي بحامد، ابن وطنها الهارب أيضا من أفراد داعش ومن أعداء آخرين، منهم رئيس التحرير الذي وشى به، والمحقق الذي أصر على اتهامه ولم يتحر الحقيقة، والزبانية الذين قاموا بتعذيبه، فمثل هؤلاء هم الذين مهدوا الأرض لنبت داعش الشيطاني، هذا ما نخلص منه من ذكريات حامد، الذي دفعه صوت بهار إلى استعادة الوطن.
حامد الصحفي المنحاز إلى الحقيقة عرف وطنه جيدا، وتحرك كثيرا من الحسكة وحتى دمشق واللاذقية، وفي كل الأماكن ارتبطت حياته بالنساء، تقول الرواية: “ما بالك يا حامد؟ وهل كنتَ غير رجل مزدحم بالنساء؟! هل كنت حقاً غير رجل عبرت سريره العشرات منهن؟ كلمة “أحبك” كرّرتها مئات المرات في اندهاشِ وجوههن، وحرارة صدورهن، وغنجهن في الفراش؟
حامد لم يكن صادقا في حبه، فلم تكن كلمة “أحبك” إلا بابا يفضي إلى الفراش، وذات مرة يعترف: “في باب توما وحده كانت لي عشرات العلاقات، وبعد كلِّ علاقة أحاول أن أضيف فهماً إلى حياتي، أو أنساً يبدّد وحشتي ووحدتي، لكن الأمر ينتهي بعد وقت قصير، ليأخذ شكل الوقت العابر والمَنْسي، فأعود إلى الوحدة من جديد”.
يستعيد حكاياته مع أنونة ولمياء وبيلا وغيرهن قبل أن يصل إلى بهار، ونلاحظ أن كل واحدة منهن تنتمي إلى طائفة مختلفة، والتقاها في مكان مختلف، لكن كلهن واجهن نفس المصير، إما الاغتيال كما حدث لأنونة ولمياء أو المنفى الذي التقى فيه بهار.
ويحاول أن يبرر ذلك أو يفهم سببه فيقول: “ما كانت تلك العلاقات لترمم الانشطار الكبير في داخلي! كنت كالحفرة كلما أخذت منها تتسع، لهذا وجدتني أتكاثر بانشطاراتي وغربتي”.
والحقيقة أنه عاش واقعا لا ينتج إلا غربة وتشظيا وانشطارا، بداية من نشأته في: “حي “الحجل الوردي” الفقير، الكئيب، الذي لا يمتُّ بصلة للون الورد بتاتاً”. وفي دمشق يسكن قبوا، وحتى في موسكو يسكن في شقة ضيقة يسميها تابوتا، ولا توفر له إلا شعورا بالبرد والوحشة. وحتى بات انقطعت صلته بوطنه الذي انفجرتْ الحربُ فيه، وصار كتلة نار تتدحرج لتحرق الأخضر واليابس فيه. يصف الوضع بقوله: “نارٌ في كلِّ الجهات اندلعت، وأنا أعزل في منتصف الدائرة”. ويضيف: ” فأنّى سرتُ ثمّة صحارى وخنادق وبنادق وعسس، وقناص، ونار، وشكٌّ وخوف. القتل غدا على الهوية، والويل لمن يحصل التباس في اسمه، أو يشكُّ به لمجرد تشابه في الأسماء. لا وقت لدى كلِّ الأطراف المتنازعة للتدقيق أو معرفة الحقيقة. هناك روح لا أهمية لوجودها، روح ستزهق بثانية، ولا يعرف من أزهقها، ولا وقت للتحقيق بالأمر”.
لذا وبنص الرواية تصبح كل الجهات ملاذا، وتتضاءل طموحاته ويقتنع بأن: “المهم أن أشعر بالأمان، وأن أحظى بقليل من النوم”. وبهار لم تختلف عنه، يقول حامد: “يا الله كيف يحمل واحدنا أطناناً من الألم ويبقى على قيد الحياة؟! كيف لم ننفجر من الوجع؟! غريبان نحن، شقيان. من بلاد الشمس جئنا، لنحط في بلاد الثلج أعزلين من كل شيء إلا من الرغبة في أن نعيش حياة كريمة نجد فيها الأمان والأمن”.
الضباب
تحن فصول الرواية الأولى إلى بلاد الشمس، وتستعيد الحياة فيها عبر سبعة فصول مرقومة، بينما تمنح الكاتبة آخر فصول الرواية عنوانا هو “الضباب”، وكأنها تضعنا أمام الوجه الآخر للحكاية، فالحرب جعلت من بلاد الشمس هوتة كبيرة أو مقبرة، ومن استطاعوا الهروب يعيشون في الضباب، وفي الضباب تختفي بهار، يناديها فلا تجيب، يقول: ” كنتُ وحيداً إلاَّ من صوتي، مجنوناً أركض في الشوارع التي خلت من الناس. أكاد أتجمد، خضت في كتل الثلج التي كبرت أمام خطوي، رحتُ أصرخ من جديد”، وتنتهي الرواية وهو يناديها، لا يجدها، ولا يفقد الأمل.
ففي الضباب ليس ثمة يقين، وحتى إن لم تعد بهار، فقد استطاعت أن تمنحه الأمل ودفعته لأن يبعث الوطن في داخله، ولنتأمل قولها : “عند الباب الحديدي الأسود انهارت قواي، لم أصدق أنها أطلقت سراحي. جمعتُ أشلائي وجروحي ومضيت أركض، لن تأكلني حفرة الهوتة هذه المرّة، فأنا في وضح النهار، رحت أركضُ، خاتلتها حين تحاشيتها وأنا أراها كما أرى يدي، بينما كلّ من ابتلعتهم جاؤوها قسراً في الليل”، فالظلام فقط هو من يملأ جوف الهوتة بالمنكوبين، بينما النور يجلي الحقيقة ويضمن النجاة من قبضة الظلاميين.
وهذا هو ما توحي به تلك الرواية الجميلة لكاتبتها المبدعة نجاح إبراهيم.