خالد جهاد - البناء لأجل الهدم

(الفن هو اللذة السرية المتبقية للإنسان المعاصر المستهدف في كل أبعاده الإنسانية)..

الأستاذة والفنانة اللبنانية د.هناء عبد الخالق..

وقعت هذه الجملة في قلبي منذ قرأتها قبل أن تلتقطها روحي ويستقبلها عقلي ليكمل من خلالها صورةً اجتهد في رسمها في مخيلته منذ الطفولة المبكرة، حاملةً معها أسئلةً معقدة ومركبة يمكننا وصفها بالخطرة إذا أردنا أن نكون أكثر صراحةً مع القارىء الذي قرر أن يقرأ هذه السطور بصحبتنا.. فلطالما صاحب الفن الكثير من علامات الإستفهام كونه يستقي من الواقع والطبيعة موضوعاته الممتزجة بمسحةٍ من الخيال أو الحلم ليوظفها على تنوعها واختلافاتها الهائلة في التعبير عن فكرة أو حالة أو وجهة نظر أو شعور ما يخرج في هيئة أو قالب يحمل معنى أو فلسفة خاصة بصاحبها أو برؤيته لبيئته الأم أو العالم على أكثر من صعيد..

مما يجعل الفن (الحقيقي) أحد أهم أدوات الإنسان التي تعينه إلى جانب العلوم والتجارب والمعتقدات الدينية على فهم الحياة بمختلف وجوهها وأبعادها ومكوناتها، ويجعله على تماس مباشر بكل ما نعيشه من أحداث وقضايا أياً كان نوعها، فالتفاصيل الصغيرة التي نعيشها في حياتنا اليومية تجتمع على الدوام لتكون صورةً مبسطة عن أسئلتنا الكبرى ومشاعرنا الإنسانية التي يأتي دور الفن في ابرازها ومناقشتها دون أن يجد بالضرورة حلولاً لها..

فمنذ عقود بدأت تزحف العديد من الأفكار المفخخة التي كانت ولا زالت ترمي إلى تغيير جوهر المفاهيم التي بناها وراكمها الإنسان على مدار قرون من مختلف الثقافات لتحويلها من وجدانية تأملية تبث النور وسط ظلام العقول والأرواح إلى إشاعة حالة مادية غرائزية.. مستخدمةً في ذلك شتى عناصر الإبهار السمعي والبصري التي تم تسخيرها لخدمة هذه المبادىء التي تجعل من البشر مجرد كائناتٍ جوفاء بلا روح أو فكر أو تعاطف، فلا تبحث سوى عن إشباع أطماعها ورغباتها ولا يشغلها سوى التنقل من متعةٍ إلى أخرى حتى وإن بدت تلك المتعة بريئة، فإشغال النفوس بحياةٍ يحكمها الترف المعنوي بعيداً عن أي قيمة أو مشاعر حقيقية يؤدي حتمياً إلى موتها بشكلٍ تدريجي، وبكل أسف لم يستطع الكثير من الكتاب أو المثقفين خاصةً في بلادنا أن يستشرفوا خطر الموجات الوافدة (في شتى الميادين) على مجتمعاتنا بل وعلى الإنسان عموماً عبر تحليلها والبحث عن ما ورائها، حيث اكتفوا بالتعامل معها بشكلٍ سطحي ومجاراتها والترويج لها في كثير من الأحيان حتى أصبح العديد منهم جزءًا منها، وحتى تغلغلت بيننا تحت مسميات التجديد والتغيير والتطور والحداثة لتصنع حالةً فكرية تتسم باليتم والضبابية والخواء، دون أن تمتلك معالم أو خصائص واضحة ودون أن تمتلك القدرة على مواجهة التحديات الحالية أو القادمة..

والنتيجة لا تخفى على أحد.. فنحن لا نرى سوى محاكاة لأنماط وقوالب جاهزة واجترار لتجارب سابقة أو مستوردة من مجتمعات أخرى وإعادة تسويقها بمعايير تجارية، شارك فيها عدد لا يستهان به من الوجوه المعروفة والأسماء التي كان البعض يتوسم فيها أن تكون على مستوى التحدي وترفض مجاراة التيار، ولكن انخراطها في هذه التجارب وغياب النقد الموضوعي وتنامي ظاهرة (الفانز) أو المعجبين الذين لا هم لهم سوى تأليه وتمجيد نجمهم المفضل بشكل مرضي وأعمى ساهم في تغييب الوعي وتعزيز القيم المادية وتكريس أنماط جديدة لشخصيات كان ينظر إليها بشكل سلبي ليس فقط على مستوى اجتماعي ولكن على مستوى فني وأدبي وجمالي أيضًا.. وهو ما مهد الطريق بدوره لما نراه من تقاعس وانفصال من كانوا يسمون بالنخب عن مواكبة الأحداث الحالية في غزة أسوةً بما يحدث في مختلف أنحاء العالم والتصرف كأن ما يحدث لا يعنيهم مطلقاً، حيث كان تغيب العديد من المشاهير والوجوه المعروفة عن مشهدنا الملتهب مثار تساؤل الكثيرين رغم استغرابنا من تساؤلاتهم كون هذه الصورة واضحة جداً منذ زمن، ولا نستطيع أن نفصل عنها تعالي وتجاهل البعض منهم لما يحدث في السودان لأسباب عنصرية بحتة وكأن هذا الشعب لم يساهم بمحبته واهتمامه في تنامي أسماء العديد من مشاهير اليوم..

لكنها القيم المادية والثقافة الجوفاء التي استهدفت كل نواحي الحياة وحولت كل ما هو مفعم بالمشاعر إلى مجرد (حالة) يمكن استبدالها طالما توفر (الثمن)، وليصبح بذلك كل شيء متشابهاً وقابلاً للإستبدال.. بلا معنى وبلا قيمة أو هوية.. فلا يؤثر وجود الإنسان من عدمه وتصبح الحياة مجرد دوامة من الفراغ اللا متناهي، حيث هناك لوحات مرسومة وموسيقى تم تأليفها بالذكاء الصناعي، ربوتات تقوم بمهام الإنسان، شواطىء صناعية، نباتات صناعية، طيور وحيوانات صناعية، أطفال يمكن انجابها بمواصفات (متميزة)..

فبات الواقع اليوم بهذا الشكل لأننا انسقنا خلف متع آنية ولحظية كان نتيجتها الحرمان من كل ما نتمناه من سعادة مهما بلغت بساطتها، وحرمنا معها من انسانيتنا التي رهناها بأشخاصٍ لم يكونوا يوماً منا وأشياءٍ لم تصنع لنا الحياة التي تقنا إليها.. فلم نفهم أن بعض البناء لم يكن الا لأجل الهدم عندما يصبح الضحايا هم المذنبون الجدد..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى