(1)
حتى هذه اللحظة لا أدرى لماذا حدث لي كل ذلك ، و لم اعثر على تعليل مقنع و حاسم يبرر ما قام به الرجل ذو النظارة السوداء من أعمال غير مألوفة ، كما لا أعرف حتى الآن ، كيف احتملت كل إساءاته و أذاه بهدوء و صبر .
(2)
– أأنت الاستاذ “خ”؟
– نعم .
– و تعمل فى المدرسة المجاورة لهذا المقهى ؟
– نعم . و لكن لم نتشرف بالمعرفة .
– أغلق فمك و أنهض .
– و لكنني أريد أن أعرف الجهة التي سنقصدها .
– ليس هذا من اختصاصك .
– و هل الذي سينهض شخص غيري ؟
– لا تكثر من فلسفتك الفارغة .
– و لكنني لا استطيع التغيب عن عملي .
– أنا اسمح لك .
– و هل ستخبر المدير بذلك ؟
– سأبلغه بالتلفون .
– ليس فى المدرسة تلفون .
– حقا انك كلب و ثرثار . انهض و …
– أ ….
(3)
أمسك بيدي ، و وضعها بين أسنانه ، و ضغط عليها بقسوة ، و يده الأخرى تفرك أذني . ثم كف عن ذلك و أمرني بحمل الصحيفة التي كنت أقرأ فيها و التزم الصمت ، حتى لا نثير انتباه الآخرين الجالسين فى المقهى .
(4)
– ألا نستطيع أن نشرب فنجان قهوة معا ؟
– لا تحاول أن تبدو طيبا . انهض .
(5)
فكرت بالهرب ، و لكنى وجدت أنه سيجر على مزيدا من الأذى ، و فكرت فى أهميتي التي تجعل هذا الرجل الغامض يقتادني بهذه الطريقة ، فلم أجد ما يستحق اهتمامه ، مجرد معلم غير حائز على الثانوية العامة ، و يدفع عشرة دنانير شهريا لتسديد سلفة بنكية ، و لم يعرف امرأة واحدة فى حياته ، سوى أنه فاز بقبلة من ابنة الجيران الذين انتقلوا الى بيت أخر ، و يواظب على قراءة صحيفة يومية واحدة ، و يدخن صنفا رخيصا من السجائر ، و يجيد الشطرنج الذي يلعبه فى أوقات متباعدة .
و كدت أصرخ فى هذا الرجل الكابوس الذي يسير الى جانبي ، لكن الصوت مات فى حلقي .
و ادخلنى الى شوارع و دهاليز و أزقة و طوابق لا تنتهي ، ثم توقفنا فى غرفة مليئة بالجماجم و الهياكل العظمية و الصور العارية ، و فيها لوحة كبيرة لرجل جليل ذي لحية مفروقة الى شطرين ، و يدخن غليونا ، و يعلق على كتفه بندقية من طراز قديم ، و كل جدار من جدران الغرفة مطلى على شكل رقعة شطرنج كبيرة .
(6)
– أتحب أن تشرب قهوة الآن ؟
– أشكرك .
– أتعرف لماذا جئت بك الى هنا ؟
– لا أعرف .
– كي أسألك بضعة أسئلة فقط .
– أهذا كل شئ .
– نعم هذا كل شئ .
– و لكنك كنت تقدر أن تطرح على هذه الأسئلة فى المقهى .
– كان بامكانى أن أطرح عليك هذه الأسئلة فى المقهى ، هذا صحيح ، و لكنني لن أحصل على الإجابة التي أريدها فى غير هذا المكان .
– ربما .
– لا ، بالتأكيد ، قل لي منذ متى بدأت بمارسة لعبة الشطرنج ؟
– لا أذكر .
– مهنتي أن أجعلك تتذكر .
– منذ أكثر من سبع سنوات .
– و منذ متى بدأت بتدريب زملائك على هذه اللعبة ؟
– لم أدرب أحدا .
– مهنتي أن أجعلك تعترف بتدريبهم .
– ألاعبهم أحيانا .
– أليست ملاعبتهم تدريبا ؟
– نعم هي تدريب .
– و لكنك ستتوقف عن ممارسة هذه اللعبة اعتبارا من اليوم .
– لا . من قال ذلك ؟
– أنا الذي قال ذلك .
– سأحاول .
– بل ستتوقف نهائيا .
– سأتوقف نهائيا .
– أتحب أن تشرب فنجان قهوة الآن ؟
– أشكرك .
(7)
و حينما خرجت ، كنت أكثر حماسة لممارسة اللعبة ، و لكن بعيدا عن مراقبة الرجل ذي النظارة السوداء .
* صدرت هذه القصة ضمن منشورات كتاب فى جريدة إصدار شهر فبراير 2010 .
====================
فخري قعوار
كاتب وقاص أردني
شغل منصب أمين عام للاتحاد العم للأدباء و الكتاب العرب من عام 1992 و حتى 1997
حتى هذه اللحظة لا أدرى لماذا حدث لي كل ذلك ، و لم اعثر على تعليل مقنع و حاسم يبرر ما قام به الرجل ذو النظارة السوداء من أعمال غير مألوفة ، كما لا أعرف حتى الآن ، كيف احتملت كل إساءاته و أذاه بهدوء و صبر .
(2)
– أأنت الاستاذ “خ”؟
– نعم .
– و تعمل فى المدرسة المجاورة لهذا المقهى ؟
– نعم . و لكن لم نتشرف بالمعرفة .
– أغلق فمك و أنهض .
– و لكنني أريد أن أعرف الجهة التي سنقصدها .
– ليس هذا من اختصاصك .
– و هل الذي سينهض شخص غيري ؟
– لا تكثر من فلسفتك الفارغة .
– و لكنني لا استطيع التغيب عن عملي .
– أنا اسمح لك .
– و هل ستخبر المدير بذلك ؟
– سأبلغه بالتلفون .
– ليس فى المدرسة تلفون .
– حقا انك كلب و ثرثار . انهض و …
– أ ….
(3)
أمسك بيدي ، و وضعها بين أسنانه ، و ضغط عليها بقسوة ، و يده الأخرى تفرك أذني . ثم كف عن ذلك و أمرني بحمل الصحيفة التي كنت أقرأ فيها و التزم الصمت ، حتى لا نثير انتباه الآخرين الجالسين فى المقهى .
(4)
– ألا نستطيع أن نشرب فنجان قهوة معا ؟
– لا تحاول أن تبدو طيبا . انهض .
(5)
فكرت بالهرب ، و لكنى وجدت أنه سيجر على مزيدا من الأذى ، و فكرت فى أهميتي التي تجعل هذا الرجل الغامض يقتادني بهذه الطريقة ، فلم أجد ما يستحق اهتمامه ، مجرد معلم غير حائز على الثانوية العامة ، و يدفع عشرة دنانير شهريا لتسديد سلفة بنكية ، و لم يعرف امرأة واحدة فى حياته ، سوى أنه فاز بقبلة من ابنة الجيران الذين انتقلوا الى بيت أخر ، و يواظب على قراءة صحيفة يومية واحدة ، و يدخن صنفا رخيصا من السجائر ، و يجيد الشطرنج الذي يلعبه فى أوقات متباعدة .
و كدت أصرخ فى هذا الرجل الكابوس الذي يسير الى جانبي ، لكن الصوت مات فى حلقي .
و ادخلنى الى شوارع و دهاليز و أزقة و طوابق لا تنتهي ، ثم توقفنا فى غرفة مليئة بالجماجم و الهياكل العظمية و الصور العارية ، و فيها لوحة كبيرة لرجل جليل ذي لحية مفروقة الى شطرين ، و يدخن غليونا ، و يعلق على كتفه بندقية من طراز قديم ، و كل جدار من جدران الغرفة مطلى على شكل رقعة شطرنج كبيرة .
(6)
– أتحب أن تشرب قهوة الآن ؟
– أشكرك .
– أتعرف لماذا جئت بك الى هنا ؟
– لا أعرف .
– كي أسألك بضعة أسئلة فقط .
– أهذا كل شئ .
– نعم هذا كل شئ .
– و لكنك كنت تقدر أن تطرح على هذه الأسئلة فى المقهى .
– كان بامكانى أن أطرح عليك هذه الأسئلة فى المقهى ، هذا صحيح ، و لكنني لن أحصل على الإجابة التي أريدها فى غير هذا المكان .
– ربما .
– لا ، بالتأكيد ، قل لي منذ متى بدأت بمارسة لعبة الشطرنج ؟
– لا أذكر .
– مهنتي أن أجعلك تتذكر .
– منذ أكثر من سبع سنوات .
– و منذ متى بدأت بتدريب زملائك على هذه اللعبة ؟
– لم أدرب أحدا .
– مهنتي أن أجعلك تعترف بتدريبهم .
– ألاعبهم أحيانا .
– أليست ملاعبتهم تدريبا ؟
– نعم هي تدريب .
– و لكنك ستتوقف عن ممارسة هذه اللعبة اعتبارا من اليوم .
– لا . من قال ذلك ؟
– أنا الذي قال ذلك .
– سأحاول .
– بل ستتوقف نهائيا .
– سأتوقف نهائيا .
– أتحب أن تشرب فنجان قهوة الآن ؟
– أشكرك .
(7)
و حينما خرجت ، كنت أكثر حماسة لممارسة اللعبة ، و لكن بعيدا عن مراقبة الرجل ذي النظارة السوداء .
* صدرت هذه القصة ضمن منشورات كتاب فى جريدة إصدار شهر فبراير 2010 .
====================
فخري قعوار
كاتب وقاص أردني
شغل منصب أمين عام للاتحاد العم للأدباء و الكتاب العرب من عام 1992 و حتى 1997