أسامة أنور عكاشة - مقاطع من أغنية قديمة

لم يكن لدىّ ما أفعله هذا الصباح.. تطلعت إلى النهار المحدق بى عبر النافذة.. فكرت فى العودة إلى النوم، ولكن الشمس كانت تستفزنى بضوء فاضح مُبيض.. ونظرت إلى الفطور.. كوب من عصير البرتقال وبيضتان وطبق من العسل.. لم أكن أحس رغبة فى الأكل.. ولكنى أكلت.. الكمية كلها تقريبًا.. وحين كدت أفرغ هاجمنى السؤال: ماذا تفعل هذا الصباح؟

يجب أن أبحث عن أشياء جديدة.. مبتكرة.. قراءة الصحيفة لا تستغرق أكثر من ساعة بافتراض قراءة كل سطر فيها.. الحمام ساعة أخرى.. التجول فى الحديقة ساعة ثالثة.. وبعد؟

البحر قريب ولكنى لا أحبه.. السوق مزعجة.. السينما لا تبهجنى.

رأيتها فى الغروب.. لباس البحر ينحت منها فتنة أسطورية.. سمراء ودائمًا أتهاوى أمام كل سمراء.. أيقظت فى عينى المثقلتين ببقايا الملح ولسعة الشمس فجرًا باردًا مشبوبًا.. فتبعتها.. أحب البحر.. فزرقته تعطى لسمرتها أبعادًا جنونية.. والجنون إلهى.

أحبها.. فسمرتها تعطيه أبعاده وأعماقه.. والخفايا لعبتى.. غامضة.. مبهمة.. صعبة.

والبحر خوف مموّج ممدود الستائر.. طاردتها.. حاصرتها.. غزوتها.. بلل الموج أقدامى.

صدئت سيوفى القديمة.. ركعت.. قبلّت أطراف ثوبها.. كنت أمتلكها فى أحلامى.. فكيف تهرب منى فى النهار؟.. التافهة ألقت بى إلى الشاطئ كعشب رخو.. لا قيمة له.. أكره البحر.

أحب الناس.. أندس بينهم.. أعبد رائحتهم.. تفتننى أشياؤهم العادية.. يأسرنى بالذات بحثهم عن الطعام..

الزمان غابر وطويل.. أبدى..

أرى أكتافهم ورءوسهم.. أفواههم المفتوحة..

أطفال تبكى.. نساء تثرثر.. رجال يتشاجرون.. متعة خرافية.. الشمس دائمًا تطل من وراء حائط.. لا أحد يراها كاملة.. نحن لا ننظر إلى السماء إلا حين نجوع أو نمتلئ.. ضحكت، فأنا أمتلك قدرة عاتية على تأليف الكلمات الحكيمة.. اندسست فى الزحام.. هاجمنى النوم.. اصطدمت بامرأة مشرعة الصدر.. صفعتنى.. تمنيت أن أضاجعها.. يومها قال لى البائع: أنت لص.. وقال شيخ مُسن: أنت خاطئ.. قلت: لقد غسل المسيح أقدام الخطاة.. رمقتنى المرأة بنظرة داعية فتبعتها.. الحيوان يتبع أنثاه منذ أول آدم.. أثارتهم فحولتى فضربونى.. دعوت لهم بالغفران فهم لا يعلمون.. السوق مزعجة وقذرة.

الضوء الفضى يمتزج بالظلام والمكان أشبه بدير بوذى فى ليلة مقمرة.. والأحمق خلفى يعبث بفتاة تجالسه.. أسمع ضحكات مكتومة وحفيف ثياب وهمسات عصبية والصور البلهاء تتوالى على مرمى عيون مبهورة.. الليل مقدس.. فى الظلمة أشياء خاصة.. عرفتها منذ طفولتى.. ضربنى أبى وعزلنى فى غرفة خاصة.. الدار تغلفها الأنفاس.. بجوارى إنسان نائم.. استدرت إليه ورحت أراقب غفوته.. كلنا أطفال حين ننام.. الوغد الجالس بالخلف ما زال يمارس لعبته.. أحسست بغيظ يكوينى.. التفت برأسى فى عنف مصنوع.. لم يأبه لى وكأنى حشرة.

التهبت عيناى وتجمعت كل حواسى فى أذنى.. البنت تردد ألفاظًا مبتورة.. زفراتها تلهب عنقى.. الغيرة تنهش أعماقى.. تقمصتنى نوبة أخلاقية.

المال خطيئة حين لا أملكه.. والخُلق ستار أتعرى وراءه.. أيقظت النائم بجوارى.. لم يفعل شيئًا.. أبدى إعجابه بالفيلم وعاد يواصل أحلامه.. لم أتحمل.. أحسست برأسى يتضخم وكأن ما يعرض على الحائط الأبيض يحدث داخله، وتصاعدت تيارات حارة إلى أذنىّ.. ملأهما الطنين.. شىء يجتاحنى.. كالوحى.. كالإلهام.. نهضت واقفًا.. بدأت فى إلقاء موعظتى.. تدفقت الكلمات من حلقى محمومة نارية.. أحسست بروح علوية تؤازرنى.

تعالت أصوات الحاضرين.. ضاعت أصوات الممثلين.. أمرونى بالسكوت.. لم ألق بالًا لهم فهم أغنام.. تيّقظ الرجل النائم وراح يسبنى فطلبت منه أن يتفرغ لنومه.. نهض الفتى العابث وحاول أن يلكمنى.. بينما اهتمت صاحبته بترتيب ثيابها.. أشرت إليها وناشدت الجميع أن يروا بأنفسهم.. أضيئت الأنوار وسطعت الحقيقة.. حملونى إلى خارج الدار وسترتى ممزقة.. كنت سعيدًا فقد أديت رسالتى.. ولكنى لم أكن مبتهجًا.. هناك فرق كبير.. أن يكون الإنسان سعيدًا بلا بهجة.. سأكتب فى الموضوع كتابًا.

من نافذتى أشهَدها كل صباح تمضى خطوات إلى محطة الترام.. عادية لا شىء فيها يلفت أنظار الشبان المكدسين خلف الجدران وفوق الأرصفة.. نحيفة ممصوصة حول عينيها آثار شقاء دائم.. ربما كانت تعانى من سوء التغذية.. ثيابها بسيطة.. وربما أيضًا كانت غير أنيقة.. لم يكن يميزها سحر معين ولا تلفها هالة من غموض.. سمعتها مرة تسبّ صبيًا صدمها بدراجته وكان صوتها خشنًا مجروحًا.

وخرجت كلماتها سوقيّة مبتذلة.. أذكر أنها وصفت أمه وصفًا داعرًا لفت نظرى.. ليست على أقرانها تقع الطيور.. فالعادى قد يجذب غير العادى.. قررت فجأة أن أهتم بها وبدأت أراقبها.. ضايقنى أنها لا تخرج يوم العطلة.. لم أفكر أبدًا فى التقرب إليها.. ولكنها كانت تنظر إلىّ دائمًا.. وابتسمتْ فى عينى أكثر من مرة.. فى عينيها ظلال مأساة قاتمة ودعوة إنقاذ ماثلة.. أحسست بأن القدر حمّلنى رسالة جديدة.

سألت كل من يعرف من بائع الألبان إلى الحلاق.. نظر إلىّ البعض بدهشة ماكرة.. بينما انزلقت على شفاه الآخرين ابتسامة لزجة تدّعى الفهم وتدعو للتآمر.. احتقرتهم جميعًا ولكنى عرفت منهم أشياءً كثيرة.. قصة معادة مكررة وكأنها أحد نواميس الطبيعة.. الفقر والسقوط.. ولما كنت إنسانًا مثقفًا.. أعرف قصة المجدلية.. ومأساة «مارجريت جوتييه».. فقد فهمت.

اليوم عطلة.. ولن تمر خطواتها على الطوار المقابل.. ولن أتلقى كالمعتاد بسمتها المستغيثة والعالم حولى فارغ أجوف.. وليس لدىّ ما أفعله.. غير أن أكتب.. وأكتب.

اليوم طويل.. ساعات الظهيرة قادمة حيث يموت كل شىء، ويدفن خلف الجدران، وتبدو لحظات اليقظة كأنها معاناة ضمير مثقل بخطايا عمر كامل.. أشباح الظهيرة تلعب لعبتها القديمة والمسرح يلفّه الصمت.. الظلال قميئة والنوافذ مغلقة وقمم الأشجار يغلفها ضوء أصلع.. تذكرت صورة بعيدة.. ساحة المقابر فى مدينة الدلتا الصغيرة.. خلف منزلنا مباشرة على الطرف الآخر لشريط السكة الحديد.. خرجت الجنازة ظهرًا.. كنت طفلًا.. سرت وراء الموكب الهزيل المكون من خمسة أشخاص كلهم زملاء أبى فى مكتب السكة الحديد.. كانت أمى تبكى فى المنزل.. كنت أفهم تمامًا أن أبى قد مات.

بقيت ألعب فى المقابر حتى غربت الشمس..

نظرت إلى «المصطبة» التى دفنوا تحتها أبى منذ ساعات..

وتخيلت أنه قد استيقظ بالداخل ويستغيث طالبًا الخروج.. هرعت إلى كومة الأحجار المبعثرة وحفرت التراب المبلل بيدىّ.. انكشفت فجوة.. ناديت أبى.. سمعته ينادينى..جرّنى حارس المقابر إلى المنزل.. كان الليل قد حلّ.

ما زال الليل بعيدًا..

ماتت أمى بعد زواج ثانٍ.. ورثَت عنه هذا المنزل وتركته لى.

كان شيخًا طاعنًا يمتّ لأبى بصلة قرابة بعيدة.. لم يكن طيبًا.. أخفى جميع صور أبى القديمة.. سبّه أكثر من مرة..

.. كان خنزيرًا.

أذكر ليلة مصرعه.. لم أكن صغيرًا.. اكتشفت رجولتى فجأة على السطح بين ذراعى خادمة.. أراد أن يذلّنى فقد كان يغار منى.. رجولته الآفلة تهرب من جسده الهَرِم كل ليلة.. سحابة لم تنقشع إلا حين انفجرت من رأسه.. لم يصرخ.. «يد الهون».. لم تهتز فى يدى.. من المؤكد أننى بقيت فى الإصلاحية عدة سنوات «هذه الفترة لا أذكرها» خرجت منها فوجدتنى غنيًا.. اشتريت لقبًا.. مارست الشذوذ.. لم يكن لى أصدقاء.. أحببت فتاة تشبه أمى وفقدتها على الشاطئ.. تمتعت بحريتى كاملة.. أحس بالتعب.. الكلمات ترهقنى.. أقرأ كثيرًا.. وأكتب كثيرًا.. سأحصل يومًا على جائزة نوبل.. صورة أمى تواجهنى على الجدار.. شمس الغروب تسقط عليها.. دفنوها دون أن أراها.. لا أعرف طريق المقابر.

أحبتنى كثيرًا.. لم تكن تضربنى..

أبى فقط.. كان يضربنى كل يوم.. أحيانًا لا أذكر على وجه التحديد من مات أولًا.. أبى أم الرجل الآخر؟

تأتى أمى كل مساء بكوب اللبن.. تقبلنى.. أطلب ثديها.. يأتى أبى ويصفعنى «أريد أن أنام معك».

أبكى وأصرخ ولكن الباب يغلق.. أعود إلى الفراش وأبول فى ثيابى.

قال لى الطبيب: إنها مسألة قديمة..

«كيف؟ إنه لم يعد يضربنى».

أبى مات منذ سنوات طويلة.. أمى تحدثنى عن ذكرياته فأشعر بالفخار.. كان بطلًا.. رجلًا لا يدانيه الرجال..

لا أملك صورة له.. يضايقنى أننى أعجز كثيرًا عن استحضار ملامحه.. رأس الآخر تتربع غالبًا على كتفىّ أبى.

أغلق عينىّ.. الظلام تتقاطع فيه بقع بيضاء.. الأشكال تتقلص.. الوجوه تتضخم.. سأنام.. المجد لليل لا تغفو فيه الأحلام.

على الرصيف المقابل وقفت.. عيناها معلقتان بنافذتى.. نظرتها ساهمة والبسمة الوادعة تستلقى على وجهها كالجيوكندة.

مدت يديها مستعطفة.. سأنقذها.. دعوتها وبعد لحظات كانت بين ذراعىّ.. ربتت على رأسى بيد حانية.. بكيت على صدرها فتسرب دفؤها إلى مسامى.. رشفت بشفتيها حبات العرق على جبينى وانتفضت عروقى بالجوع.. رفعت رأسى هامسًا.. أريد ثديها.. رأيت وجه أمى.. صرخت.. تشنجت أصابعى.. تصلبت.. امتدت إلى عينى.. سأفقؤها.. سأدميها... سا.. سأ..

أطلّ النور خلال النافذة بعين فجرية.. وانطرحت الغلالة الزرقاء حول فراشى.. قررت أن أواصل أحلامى.. أعرف جيدًا أنها مجرد أحلام.. لن تخدعنى فأنا رجل ناضج أمتلك كل مشاعرى وحواسى.. أوجهها كما أشاء.

أستحضر أحلامى وأصرفها كما أقلّب صفحات كتاب.. أنام دون أن أغفل عما يحيط بى.. بشىء من الصبر والمران ربما استطعت أن أسافر بروحى وأتواجد بأكثر من مكان فى وقت واحد.. الدليل على ذلك أننى أكتب هذه السطور أثناء نومى.. جسدى على السرير دافئ.. مبلل بالعرق.. يتقلب أحيانًا ولا يكف عن الغطيط.. وفى نفس الوقت أجلس على المكتب وأكتب.. سأظل أكتب.. وحين أصحو فى الشروق سأقرأ ما كتبته ولكى يكون كل شىء مؤكدًا.. ها أنا أسجل الساعة التى أكتب فيها الثالثة والنصف.. وخمس دقائق.. نفس الساعة التى يجدنى فيها أى إنسان غارقًا فى نوم ثقيل.

البحر خوف مموّج ممدود الستائر.. الزمان غابر وطويل.. أبدى.. المال خطيئة حين لا أملكه.. والخُلق ستار أتعرى وراءه.. كل شىء يمضى وفقًا لحقيقة أزلية.. أمى لم تمت وأبى مات مرتين.. فى واحدة بكيت عليه وفى الأخرى قتلته.. حبيبتى سمراء تخطر على شاطئ أزرق ولكنها ضاعت فى دروب الغسق المخملية.. فتاة الشارع تواجهنى كل يوم بوجه أمى.. لن أفقأ عينى فأنا أعرف كل شىء عن هذه الألاعيب.. «هذا الطبيب ذو العوينات يتآمر علىّ» سمعت بالأمس من يدّعى أننى لا أملك القصر والحديقة.. من أين أتى هؤلاء الناس؟

العالم ملىء بالضجيج.. والقلم يتعثر فى السطور الأخيرة.. هذا بيتى.. تركته لى أمى حين ماتت منذ سنين.

كتابى سيكون فتحًا جديدًا فى العلوم والفلسفة.. البهجة والاكتئاب.. مقدمة لعلم الإنسان الأعلى.. إلى الجحيم بـ«فرويد» و«داروين» و«ماركس».. إلى الجحيم بكل الأدعياء.. أنا لم أتلق علمًا فى مدرسة ولكنهم أخيرًا.. ورغم أنوفهم جميعًا سيمنحوننى الجائزة.. سأرقص على أعناقهم..

الفجر يخدر أحلامى.. الفراش ينتفخ.. السقف يقترب.. الوجه ذو العوينات يراقبنى خلف زجاج النافذة.. أعرف المؤامرة.. لن أخضع مطلقًا.. لن أتحول إلى رقم.. لن يستطيعوا أسرى.. ولو كان إلى رقم.

لن يستطيعوا أسرى ولو كان القفص جدران العالم الأربعة.. فأنا أقوى منهم جميعًا.. لقد ضحكت عليهم.. سخرت منهم.. رويت لهم تاريخًا زائفًا.. أرسلتهم فى دروب لن يعودوا منها.. سجنتهم.. امتلكتهم.. وغدًا.. سيرى الكون كله.. بكل مجرّاته.. بكل نجم فى السديم.. مَن صنع المعجزة.. مَن امتلك وحده حرية الاختيار.

النافذة تفتح.. والعوينات تقترب.. أعرف ماذا يريدون.

سيخطفون القلم والأوراق.. سيقيدون يدى.

ولكنى سأواجههم بضحكتى التى تهزم كل أحقادهم.

سأصرخ فى وجوههم.

البحر.. السوق.. والسينما.. ووجه أمى..

سيضربوننى..

أجل.. ولكنى لن أموت


* من المجموعة الثالثة «مقاطع من أغنية قديمة»، الصادرة عام ١٩٨٥.


1718142063400.png


====================
أسامة أنور عكاشة
(27 يوليو 1941 - 28 مايو 2010 )
كاتب روائي ومسلسلات وأفلام ومسرحيات مصري. وهو أحد أهم المؤلفين وكتاب السيناريو في الدراما المصرية والعربية، وتعتبر أعماله التلفزيونية الأهم والأكثر متابعة في مصر والعالم العربي.
حصل على ليسانس الآداب من قسم الدراسات النفسية والاجتماعية بجامعة عين شمس عام 1962. عمل بعد تخرجه أخصائيًا اجتماعيًا في مؤسسة لرعاية الأحداث، ثم عمل مدرسًا في مدرسة بمحافظة أسيوط وذلك بالفترة من عام 1963 إلى عام 1964 ، ثم انتقل للعمل بإدارة العلاقات العامة بديوان محافظة كفر الشيخ وذلك بالفترة من عام 1964 إلى عام 1966 ، انتقل بعدها للعمل كأخصائي اجتماعي في رعاية الشباب بجامعة الأزهر وذلك من عام 1966 إلى عام 1982 عندما قدم استقالته ليتفرغ للكتابة والتأليف.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى