الحسين الهواري - إستراتيجية الطعام للابهار والعظمة "خير الرجال مدعوون لأفضل البيوت" النعيم والرفاهية والوفرة والسخاء في دار الكرم...

إستراتيجية الطعام للابهار والعظمة
"خير الرجال مدعوون لأفضل البيوت"
النعيم والرفاهية والوفرة والسخاء في دار الكرم
عصر السلطان أبي يعقوب المنصور برواية ابن صاحب الصلاة شاهد عيان .

الجزء الأول
- الطعام والوجبات الجماعية ودورها في التحالفات السياسية والعسكرية .
تظهر لنا بوضوح أكثر صورة عظمة سلاطين دولة الموحدين وخاصة السلطان يعقوب المنصور مما لا تظهر في أي كتاب آخر هذا المقطع الذي يورده ابن صاحب الصلاة في "المن بالإمامة" المتعلق بمقابلته مع أبي يعقوب المنصور في مراكش حسب وصفه:
( .. وبعثنا أبو إسحاق والفقيه أبو محمد المالقي لتقديم أنفسنا إلى أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين. استرخى الأخير بعد شفائه، متكئًا على العديد من الوسائد المريحة التي حفته من جميع الجهات. لقد استقبلنا كما ينبغي أن يكون للخليفة. تخلى عن عظمته ونعمه واستفسرنا بكرمه العظيم عن حالتنا، لقد افهمنا أنه يهتم بنا وأنه لن يخيب آمالنا. وندعو الله أن يوفقه وينصره ويطيل عمره. أخيرًا قبلنا يده المباركة. فجلسنا نروي عطشنا وأعيننا بمرأى كل تلك النعم . بفضله وصلنا إلى قمة التسلسل الهرمي وتحققت كل توقعاتنا. وأمر بأن يطلب كل منا ما شاء. كان لي شرف الحصول على أمر الخلافة [ظهير] الذي منحني الحق في تحصيل الضرائب في بلدة..) إن دقة الوصف المعبر عنها وعن الحقيقة عند ابن صاحب الصلاة وكيف روى عن الاحتفلات والتحالفات لا سيما عند وصول قبائل بني هلال واحتفاء السلطان الموحدي بهم وكان شاهد عيان على ذلك ، بينما لم يذكر المؤلفون الآخرون هذه الماذب الاحتفالية. يقول صاحب (المن بالإمامة). وبهذه الأخبار السارة أمر الأمير السيد أبو يعقوب بقرع الطبول تكريماً للرسالة المذكورة وأمر بتقديم الطعام للموحدين، والنخبة من الاشبيليين والجنود الدائمين لمدة ثلاثين يومًا و دق الطبول لا يتوقف إلا أثناء الوجبات.)
وفي مناسبة نصر آخر يبدو أنه أمكن تقليص المدة إلى النصف، من ثلاثين إلى خمسة عشر يومًا ، ويمكن أن تمتد المشاركة في وجبة الاحتفال بالنصر إلى جميع السكان. وهكذا يذكر ابن صاحب الصلاة أنه احتفالاً بانتصار السيد أبو حفص على ابن مردنيش، تم تنظيم مأدبة في إشبيلية للموحدين والعرب وجميع الضيوف من جميع الرتب و أعيان المدينة.
واقتبس من صاحب الصلاة هذا الوصف العجيب لاستقبال السلطان الموحدي لقبائل عرب بنو هلال ووفودهم تجاوزت ثلاثة آلاف شخص كانوا في ضيافة أبي يعقوب المنصور يأكلون ويشربون:
قال: في يوم جمعة 22 ربيع الثاني (2 يناير 1171) بعد صلاة الجمعة، نزل أمير المؤمنين إلى حديقة (البحيرة) حول مراكش. وأقام مأدبة عشاء على العرب وأعضاء الوفد وغيرهم لمدة أسبوعين. دخل البحيرة أكثر من ثلاثة آلاف رجل يوميًا. هناك يصنعون كما جرت العادة، نهرًا من عصير العنب المطبوخ الممزوج بالماء. عندما انتهت مجموعة من الأكل وقامت، ذهبوا إلى حيث كان الخليفة واقفًا. ثم سلموا عليه ودعوا الله له خيرًا، وشقوا طريقهم إلى نهر عصير العنب المطبوخ للشرب والترفيه. رأى الناس في هذه المآدب ما لم يروه من قبل من نعمة (الإنعام) والاهتمام. أقيم الاحتفال خلال عدد الأيام المذكورة...
وفي مرحلة التحضير للحرب في الأندلس، أدى استقبال القوات بقيادة الموحدين في مراكش بهدف تنظيم حملة عسكرية استكشافية واسعة النطاق إلى الأندلس، إلى إقامة الولائم والاحتفالات وهذه هي النقطة القوية يظهر النظام الموحدي قويا حيث لعبت الاحتفالات مكانة مميزة وهذا هو العنصر الأكثر شيوعًا في المصادر المختلفة. إن صورة ابن صاحب الصلاة تظهر قوة سخاء هذا السلطان البارزة مختلفة تمامًا عن تلك رسمها له بعض المستشرقين الأجانب الذين صوروه متعطش للغزو والبطش مستندين على تاريخه العسكري وانتصاراته الكبيرة لاسيما في معركة الارك البطولية. إن لقبه الفخري "المنصور" جاء عن جدارة واستحقاق (مثله في ذلك مثل خلفاء آخرين حملوا هذا اللقب منذ بداية توسع إمبراطورية المرابطين والموحدين والمرينيين في شمال إفريقيا وجنوبها (جنوب الصحراء الكبرى) وايبريا وجنوب فرنسا. لقد استند النظام الموحدي على عقيدة قدرة الملك على الانتصار عسكريًا على خصومه دائما. وهكذا استخدم الخلفاء الثلاثة الأوائل الذين أطلقوا على أنفسهم لقبًا فخريًا (المنصور ) عنصرًا جوهريًا مشتقًا من مصطلح "النصر" (المنصور والناصر والمستنصر). منذ اللحظة التي تقرر فيها احتلال إفريقية، اضطر الموحدين لتركيز جهودهم على الدفاع عن الأندلس ولغزو الأجزاء الشرقية من المنطقة المغاربية والحفاظ عليها لاحقًا.
من المعتاد أن يعقد السلطان جمعا مبكرًا كل يوم. حيث يأتي المشايخ لاستقباله ويتم تقديم وجبة لهم (بساط مفروش على الأرض وتوضع عليه الموائد التي تحتوي على الجفان والطوافير والأطباق بأنواع الطعام في القصاع) وتتكون من أطباق كبيرة من الثراءد و المخافي، وتحتوي على أطباق من جميع الأنواع بالإضافة إلى الحلويات المصنوعة من السكر، ولكن معظمها من العسل (هناك نوعان لكن السكر كان نادرا ومعظم الحلويات تصنع من العسل الممزوج بالزيت).
وصف ً دار الكرم أو الكرامة، في قصيدة الشاعر أبي بكر بن محمد من مرسية:
خير الرجال مدعوون لأفضل البيوت.
من قصيدة المديح الطويلة يصف الشاعر الأندلسي يعقوب المنصور باشارة (أفضل الرجال وأفضل البيوت) ويتوافق وصفه مع التطور الحضاري والمعماري الموحدي من فن الهندسة المعمارية وأنماط زخرفية صقلها ذوق الموحدين. وتطور حضاري واكب عصرهم.
وقد ذكرنا في حلقة من الحلقات هذا الوصف الذي نقله الرحالة العمري. وحيث ينصب التركيز على فخامة الأطباق المقدمة وعلى روعة دار الكرم (الكرامة) التي كانت تضاهي مثيلاتها عند الفرس ولم تصل بعد إلى أوروبا حتى عصر النهضة. وإذا كان العمري أخذ وصف دار الكرامة عن ابن سعيد المغربي صاحب (المغرب في حلي المغرب) الذي عمل في خدمة بلاط الموحدين وابن سعيد الذي كانت لديه معرفة كبيرة وحميمية بهذا المكان، وضع دار الكرامة بشكل مفصل (أسراج القباب أو الرُعبة الكبرى و(مخازن الحبوب، قبة المجلس الأكبر ، قبة مجلس العلماء، منزل هيئة الرقابة، الكلية المخصصة للموحدين/ الشرط ...إلخ) حيث تم استخدام مبنى لإقامة الولائم (دار الكرم) دار الكرامة، والذي ترجمه موريس غودفروي ديمومبين على أنه
"logis des Largesses et des Hôtes"
وهو اسم مشتق من الكرم والنبل (نبيل، كريم) بمعنى (سلطة شريفة أو سلطة سخية)؛ أظهر الاسم أن الطبقة السائدة أرادت تقديم نفسها على أنها كريمة وسخية ونزيهة.
ولتحديد الأماكن التي أقيمت فيها المآدب وأين يتم تحضير الأطباق الملكية يوضح المؤلف أنه بعد قدوم شقيقي الخليفة أبو يعقوب إلى مراكش، أقيمت الأحتفالات الكبرى في المكان المعروف باسم البحيرة والبحيرة كانت هي المجمع السلطاني حيث يوجد اليوم حدائق اكدال والصهريج) وكما يقول: كان هناك مكان إقامة احتفالي وحوض ذو أبعاد مهيبة (نهر كبير).
كما أنه كان يتم تنظيم الولائم في الغالب داخل القصر نفسه، حيث ترتبط أطباق الطعام مباشرة بمطابخ القصر. ويشير المراكشي في المعجب (أنه عندما كان السلطان يقوم بتوزيع الهدايا و الطعام والصدقات من النقود والرمان على الأيتام، كان ذلك على باب القصر. ومعروف عن يعقوب المنصور إحسانه واهتمامه بالفقراء واليتامي كما برفاهية الرعايا الأضعف: الأطفال والأيتام والمرضى والمجانين، ...إلخ.
وكان الإسباني لويس ديل مارمول دي كارفاخال (1600)، أول من وصف مخازن الحبوب الضخمة في قصر الموحدين في مراكش، لأنه كان سجينًا هناك.
لسوء الحظ لم تصلنا من المصادر والمراجع العربية أية إشارة واضحة عن شكل المطابخ في تلك الحقبة التاريخية لأن ذلك كان من المحرمات وأسرار القصور والدولة إن صمت المصادر العربية في العصور الوسطى على موقع المطابخ والمخازن وحياة سكان البلاط والأمراء، فقد يعاقب من يفشي أسرار السلاطين وكل من سرب أخبار الحياة الخاصة للسلاطين والأمراء والمسؤولين، وكذلك عن إمدادات القصر لأن ذلك يدخل في أسرار الدولة والخوف من سوء إستعمال تلك المعلومات في زمن الحروب والفتن. ومع ذلك يمكن للمرء أن يفترض أنها أفضل أو مثل قصور ومنازل الأثرياء التي وصلنا وصف لها في مراجع أخرى، لقد تم فصل المطابخ عن المبنى المخصص لإقامة الولائم. وبهذه الطريقة، تجنب الضيوف المضايقات الكامنة في إعداد الأطباق (الروائح والادخنة وغيرها) وعلى العموم نستنتج أن هذه المطابخ كانت على مستوى عالٍ جدًا حسب ابن رزين في فضالة الخوان يمكن للمرء أن يفترض أن المطابخ كانت تقع في الجزء من القصر ودار الكرم (دار الاحتفال أو دار الحفلة)...

يتبع الجزء الثاني قريبا.

بقلم الهواري الحسين

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى