ثبت لنا بكثير من الأدلة أن الحكام الموحدين كانوا سباقين إلى إبداع النمط الملكي بل وفرضه في امبراطوريتهم الكبيرة وقد أرادوا من وراء ذلك القصد أن يتمكن أكبر عدد ممكن من الناس و خاصة العامة من تناول تلك الأطباق الراقية و الرفيعة التي كانت حكرا على الأقليات الثرية والنخب الميسورة في المجتمع les élites ومرجع ذلك يبقى مبهما ولكن سنحاول استبيانه . إن ما حدث في العصر المتأخر لدولة الموحدين في حقبة أبي العلا إدريس و المرتضى و أبو دبوس من تسارع انتشار الوصفات الملكية المغربية سواء في المغرب وشمال إفريقيا و الأندلس يدعو إلى الدهشة و الإستغراب وعكس ما كان يظنه بعض الباحثين عن أن هذا الطبخ الملكي طور لاحقا في عصر بني مرين فإنني أعتقد أنه حصل تطويره قبل عصرهم بل بداية من العصر المرابطي لكن الزخم والانتشار الجغرافي و الشعبي حصل في نهاية عصر الموحدين ولا غرو أن نجد الباحثين والدارسين في الأندلسيات وعلى رأسهم لوسي بولنز يندهشون و يتفاجؤون بهذا الظهور المفاجئ للأطعمة والوصفات المغربية في الأندلس في القرن الثالث عشر( كتبت بولنز - وهي باحثة في جامعة جنيف السويسرية - كتابها الأخير بعنوان: الظهور المفاجئ للكسكس في الأندلس في القرن الثالث عشر ) ومعلوم أن الأندلس في القرن الثالث عشر كانت تابعة للمغرب عصر الموحدين . لا يزال هناك غموض حول رغبة الموحدين و المرينيين بعدهم في نشر الوعي و التعريف بالطبخ المغربي و النمط الغذائي المعيشي المغربي سواء في المغرب أو في الأندلس أو في بقية شمال إفريقيا و المشرق واني أرى انهم فهموا ما يعنيه الطبخ وفنون الماءدة من رقي وتحضر وما يرمز له من نظرة إحترام و تقدير عند الشعوب الأخرى و استغلوا هذا الفن لكي يثبتوا أنهم ليسوا أقل قيمة و حضارة من الشعوب المتحضرة الأخرى بل إنهم يملكون أنماط أكثر تطورا و ورقيا على المستوى المعيشي و الحضاري من غيرهم وانهم ليسوا أقل قيمة كما يريد تصويرهم البعض جماعة من الرحل و التافهين والرعاة القادمين من الصحاري.
لقد كان شعور المرابطين والموحدين واحساسهم بالمهانة حاضرا في هذه الخطوة لقد كان بعض الأندلسيين يشيرون إليهم بالمتخلفين ونجد كثيرا من تلك الأوصاف في قصائد الهجو الأندلسية و خاصة الهجوم على الملثمين( المرابطين الأوائل بالأخص وهم القادمين من الصحراء فلم يغير قائدهم يوسف بن تاشفين من نمط غذاءه الصحراوي حتى رغم وجود كم هائل من الموارد والخيرات وبقيت وصمة في تاريخ المرابطين تداركها الموحدين ليصلحوا تلك النظرة السلبية التي اكتسبها وصور بها المرابطين الأوائل بتقشفهم و تصوفهم و نزعتهم المحافظة رغم أنه بعد نهاية حقبة الخليفة يوسف بن تاشفين سيتغير نمط العيش في البلاط المرابطي ابتداءا من علي بن يوسف لدواعي معلومة . إن النقلة النوعية الجديدة ولنقل الحضارية وإن كانت ملامحها ظهرت في القرن الحادي عشر في الدائرة الضيقة حول علي بن يوسف وخلفه وهو ما يمكن تسميته بداية تشكل المجتمع الارستقراطي في المغرب إلا أن شمولية إنتشار النمط الغذائي المعيشي المتحول لم يعرف زخمه حتى عصر يعقوب المنصور الموحدي و خلفاءه فنجد مثلا في كتاب الطبيخ بين العدوتين المغرب و الأندلس عصر الموحدين وصفات مغربية متفردة لا يمكن العثور عليها في أي مكان آخر غير المغرب ادهشت العالم و كذلك الوصفات المغربية التي ذكرها ابن رزين التجيبي في فضالة الخوان الذي عاصر الحقبتين الموحدية و المرينية و قد أتى كلا المؤلفين على ذكر تلك الوصفات وحتى أسماء مخترعيها من الأمراء و اصحاب المعالي والقضاة و الأثرياء وتبقى وصفة الصنهاجي الملكي سحرية بكل المقاييس. إن الموحدين و المرينيين لم يذهبوا فقط إلى التعريف بالطبخ المغربي و النمط الغذائي المعيشي للمغاربة بل غيروه وافتخروا به ، كانوا يلزمون انفسهم وضيوفهم على الإقبال على مواءدهم و يدعون الجماهير إلى مادبهم وكان الهدف من ذلك إظهار نخوتهم و تحضرهم و تميزهم بل إنهم كانوا يحضون الناس على صناعة تلك الأطعمة و الأكلات أو على الأقل التعرف على طريقة تحضيرها ، بما في ذلك تلك التي تم إعدادها في قصورهم لكي يعلم بها عامة الناس ويقلدوها و لكي لا تبقى محصورة في القصور و عند النخبة وكان سعيهم هو إنتشار الطبخ المغربي لينافس الطبخ العباسي و الاندلسي والقشتالي والفارسي الذي كان في القمة، أي أن الإدراك واليقين تجدر عندهم بأن فنون الطبخ والطعام هو رمز حضاري وثقافي ورمز للعظمة و الجاه ويجب إظهاره والافتخار به ولما لا تصديره بحيث انه لا يجب أن يبقى سجين مطابخ قصور المرابطين و قصور الموحدين .
فهل كان هذا الأمر مقصودا و عنوة أن يتحول الأمراء وكبار رجال الدولة الموحدية إلى طباخين وطهاة ينشرون وصفات طبخ كانت حكرا على البلاط السلطاني و تتم داخل الأسوار في سرية وهل كان من وراء نشرها إرسال رسائل إلى العالم وإلى الآخرين الذين يشككون في تحضر ورقي تلك الإمبراطورية المغربية المترامية الأطراف في تلك الحقبة التاريخية لقد كان الأمراء العباسيين يفتخرون بثقافتهم المطبخية وقد نشروا كتبا عن الطبخ وأشهرهم الأمير ابراهيم بن المهدي شقيق الخليفة هارون الرشيد كما نشر ابن سيار الوراق وصفات المتوكل والمستنصر وقبلهم نشر زرياب وصفات كثيرة من المطبخ العباسي والبغدادي فهل حاول أمراء الموحدين و المرينيين بعدهم السير على نفس النهج لابهار الآخرين أو لاعطاءهم نظرة جديدة عن رقيهم وتحضرهم و لتغيير الصورة السلبية التي كانت سائدة عنهم في الأندلس و اوروبا وفي المشرق ، فعلا لقد كانت مفاجأة لكل الأندلسيين والمشارقة اكتشافهم لهذه الأطعمة والأشربة العجيبة و الجديدة التي أخذت في الانتشار بسرعة في كل الربوع فنجد أن الكاتب البغدادي بدأ يتكلم عن الطبخ المغربي و نجد الكثير من الوصفات عند ابن العديم الحلبي صاحب الوصلة إلى الحبيب وكاد تقريبا أن ينقل أغلب الأطباق المعروفة والساءدة في ذلك العصر . لقد تم اختراع وصفات لاءقة و مجارية لتك العصور دون إغفال الجمالية و الرونق و اللذة والاستمتاع اللازم والضروري لجمال الطبق وقبوله من كل الطبقات المجتمعية بما فيه من عامة الشعب والمثقفين والنخبة، أي صنع طبخ جديد لكل الأذواق وكل الفئات أو على الأقل التعرف على طريقة تحضيرها . لقد نزل الفن من برجه العاجي ليتلذذ به كل الناس كيفما كانت تراتبيتهم في المجتمع ، وصارت المأكولات بما في ذلك تلك التي كانت حصرا على النخبة يتم إعدادها في كل مكان أكان قصرا أو بيتا عاديا أي أن الطبخ الملوكي لم يعد محظورا على فئة معينة دون غيرها وقد كان السعي لإعادة إصدار وصفات صنعت في مطابخ قصور المرابطين وقصور الموحدين ، والتي لا يمكن أن يقوم بها إلا الأغنياء وذوي النفوذ ، عززت هيبة الحكام الذين دعوا الرعايا إلى فعل ذلك أيضًا سارت جنبًا إلى جنب مع المنافسة على اقتناء السلع الكمالية والرغبة في استنباط وإبداع أنواع مختلفة وجديدة من الأطعمة و الوجبات التي صارت شائعة في المغرب...
يتبع بقلم الهواري الحسين
لقد كان شعور المرابطين والموحدين واحساسهم بالمهانة حاضرا في هذه الخطوة لقد كان بعض الأندلسيين يشيرون إليهم بالمتخلفين ونجد كثيرا من تلك الأوصاف في قصائد الهجو الأندلسية و خاصة الهجوم على الملثمين( المرابطين الأوائل بالأخص وهم القادمين من الصحراء فلم يغير قائدهم يوسف بن تاشفين من نمط غذاءه الصحراوي حتى رغم وجود كم هائل من الموارد والخيرات وبقيت وصمة في تاريخ المرابطين تداركها الموحدين ليصلحوا تلك النظرة السلبية التي اكتسبها وصور بها المرابطين الأوائل بتقشفهم و تصوفهم و نزعتهم المحافظة رغم أنه بعد نهاية حقبة الخليفة يوسف بن تاشفين سيتغير نمط العيش في البلاط المرابطي ابتداءا من علي بن يوسف لدواعي معلومة . إن النقلة النوعية الجديدة ولنقل الحضارية وإن كانت ملامحها ظهرت في القرن الحادي عشر في الدائرة الضيقة حول علي بن يوسف وخلفه وهو ما يمكن تسميته بداية تشكل المجتمع الارستقراطي في المغرب إلا أن شمولية إنتشار النمط الغذائي المعيشي المتحول لم يعرف زخمه حتى عصر يعقوب المنصور الموحدي و خلفاءه فنجد مثلا في كتاب الطبيخ بين العدوتين المغرب و الأندلس عصر الموحدين وصفات مغربية متفردة لا يمكن العثور عليها في أي مكان آخر غير المغرب ادهشت العالم و كذلك الوصفات المغربية التي ذكرها ابن رزين التجيبي في فضالة الخوان الذي عاصر الحقبتين الموحدية و المرينية و قد أتى كلا المؤلفين على ذكر تلك الوصفات وحتى أسماء مخترعيها من الأمراء و اصحاب المعالي والقضاة و الأثرياء وتبقى وصفة الصنهاجي الملكي سحرية بكل المقاييس. إن الموحدين و المرينيين لم يذهبوا فقط إلى التعريف بالطبخ المغربي و النمط الغذائي المعيشي للمغاربة بل غيروه وافتخروا به ، كانوا يلزمون انفسهم وضيوفهم على الإقبال على مواءدهم و يدعون الجماهير إلى مادبهم وكان الهدف من ذلك إظهار نخوتهم و تحضرهم و تميزهم بل إنهم كانوا يحضون الناس على صناعة تلك الأطعمة و الأكلات أو على الأقل التعرف على طريقة تحضيرها ، بما في ذلك تلك التي تم إعدادها في قصورهم لكي يعلم بها عامة الناس ويقلدوها و لكي لا تبقى محصورة في القصور و عند النخبة وكان سعيهم هو إنتشار الطبخ المغربي لينافس الطبخ العباسي و الاندلسي والقشتالي والفارسي الذي كان في القمة، أي أن الإدراك واليقين تجدر عندهم بأن فنون الطبخ والطعام هو رمز حضاري وثقافي ورمز للعظمة و الجاه ويجب إظهاره والافتخار به ولما لا تصديره بحيث انه لا يجب أن يبقى سجين مطابخ قصور المرابطين و قصور الموحدين .
فهل كان هذا الأمر مقصودا و عنوة أن يتحول الأمراء وكبار رجال الدولة الموحدية إلى طباخين وطهاة ينشرون وصفات طبخ كانت حكرا على البلاط السلطاني و تتم داخل الأسوار في سرية وهل كان من وراء نشرها إرسال رسائل إلى العالم وإلى الآخرين الذين يشككون في تحضر ورقي تلك الإمبراطورية المغربية المترامية الأطراف في تلك الحقبة التاريخية لقد كان الأمراء العباسيين يفتخرون بثقافتهم المطبخية وقد نشروا كتبا عن الطبخ وأشهرهم الأمير ابراهيم بن المهدي شقيق الخليفة هارون الرشيد كما نشر ابن سيار الوراق وصفات المتوكل والمستنصر وقبلهم نشر زرياب وصفات كثيرة من المطبخ العباسي والبغدادي فهل حاول أمراء الموحدين و المرينيين بعدهم السير على نفس النهج لابهار الآخرين أو لاعطاءهم نظرة جديدة عن رقيهم وتحضرهم و لتغيير الصورة السلبية التي كانت سائدة عنهم في الأندلس و اوروبا وفي المشرق ، فعلا لقد كانت مفاجأة لكل الأندلسيين والمشارقة اكتشافهم لهذه الأطعمة والأشربة العجيبة و الجديدة التي أخذت في الانتشار بسرعة في كل الربوع فنجد أن الكاتب البغدادي بدأ يتكلم عن الطبخ المغربي و نجد الكثير من الوصفات عند ابن العديم الحلبي صاحب الوصلة إلى الحبيب وكاد تقريبا أن ينقل أغلب الأطباق المعروفة والساءدة في ذلك العصر . لقد تم اختراع وصفات لاءقة و مجارية لتك العصور دون إغفال الجمالية و الرونق و اللذة والاستمتاع اللازم والضروري لجمال الطبق وقبوله من كل الطبقات المجتمعية بما فيه من عامة الشعب والمثقفين والنخبة، أي صنع طبخ جديد لكل الأذواق وكل الفئات أو على الأقل التعرف على طريقة تحضيرها . لقد نزل الفن من برجه العاجي ليتلذذ به كل الناس كيفما كانت تراتبيتهم في المجتمع ، وصارت المأكولات بما في ذلك تلك التي كانت حصرا على النخبة يتم إعدادها في كل مكان أكان قصرا أو بيتا عاديا أي أن الطبخ الملوكي لم يعد محظورا على فئة معينة دون غيرها وقد كان السعي لإعادة إصدار وصفات صنعت في مطابخ قصور المرابطين وقصور الموحدين ، والتي لا يمكن أن يقوم بها إلا الأغنياء وذوي النفوذ ، عززت هيبة الحكام الذين دعوا الرعايا إلى فعل ذلك أيضًا سارت جنبًا إلى جنب مع المنافسة على اقتناء السلع الكمالية والرغبة في استنباط وإبداع أنواع مختلفة وجديدة من الأطعمة و الوجبات التي صارت شائعة في المغرب...
يتبع بقلم الهواري الحسين