أ. د. نور الدين السد - في المنهج: اللسانيات وتحليل الخطاب...

انقسمت المناهج النقدية الحديثة والمعاصرة إلى قسمين : 1- مناهج سياقية ، و2- مناهج نسقية .
1- المناهج السياقية :
استأنست بجملة من المرجعيات الفلسفية والفكرية وببعض العلوم والمعارف كعلم الاجتماع وعلم النفس والانتروبولوجيا علم الإناسة ، وركزت على إسقاط عوامل خارجية على الأدب وتفسيره ، انطلاقا من البنيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والنفسية وجعلت من أنساقها وأسيقتها مرتكزات لدراسة الظواهر الأدبية وتحليلها ، وانطلقت المناهج السياقية في تــعاملها مع الخطاب الأدبي وتحليله من الواقــع وإفـرازاته ، ودرست مكوناته من الداخل إلى الخارج ، ومن الخارج إلى الداخل ، وحللت بناه اللغوية على أنها نتاج ممارسة اجتماعية ، وبحثت في سياقاتها التاريخية وأنساقها ومساقاتها الاجتماعية، وفي علاقاتها مع ما هو خارج البنى النصية، وأظهرت العلاقة الجدلية بين البنى التحتية والبنى الفوقية. وتجلت هذاه الآلية بوضوح في تطبيق:
-المنهج التاريخي: الذي يدرس الظواهر والخطابات بأنواعها باعتبارها وثيقة منتجة في سياق تاريخي وتعبر عن محيط متنوع المكونات، وتسعى أدوات التحليل في المنهج التاريخي إلى الربط الآلي بين الظاهرة أو المدونة أو الخطاب وأسيقته الزمانية والبيئية والبعد الوظيفي للإنسان وتجلياته في هذه الظواهر والمدونات والخطابات المدروسة، ومن معايير المنهج التاريخي التدقيق في المرحلة التاريخية التي ظهرت فيها المدونة المدروسة والتأكد من مدى نسبتها التاريخية، من خلال البحث في تاريخ الأمة الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي، لتحليل المدونة وتفسيرها وفهمها، ودراسة مراحل نشأتها وتطورها، وبهذا يكون اعتماد المنهج التاريخي في الدراسة والتحليل قائما على معايير الإنسان والبيئة(المكان) والزمان..
-المنهج الاجتماعي: وهو منهج سياقي يرى الخطاب الأدبي انعكاسا للواقع وهو تصوير باللغة ، ويؤكد مسألة الالتزام في الفن والإبداع ، ويلزم المثقف أوالمبدع أو الفنان في أي بيئة من البيئات أن يكون مثقفا عضويا ، يسعى إلى بناء واقع أفضل ، وأن ينتصر للقيم الإيجابية، ويناهض القيم السلبية في المجتمع، وأن يكون ملتزما بقضايا المجتمع وتطلعاته، ويرى أن الكتابة ماهي إلا فضاء لتحقيق الوجود، وإثبات الذات، من خلال إثبات القيم الجمالية المحققة للمتعة والفائدة لصالح المجتمع.
ويرى المنهج النفسي: وهو منهج سياقي يقوم على معايير هي الأنا أي الوعي أو الشعور، والأنا الأعلى اي الضمير ، والهو أي اللاوعي أو اللاشعور، ويشير إلى أن المدونة أو العمل الأدبي له غاية وهي السعي إلى إيصالها من خلاله التعبير عن الرغبات المكبوتة التي لا يستطيع إشباعها منشئ الخطاب في الواقع، بالنظر إلى عوامل ومعوقات تمنعه من ذلك، فيقوم بإسقاطها على شخصيات في خطابه، لذلك يركز هذا المنهج على دراسة الشخصيات في الأعمال الأدبية والمدونات وتحليل سلوك المرضى إنطلاقا من البحث في الرغبات المكبوتة لديهم ، ويتم التركيز أيضا على مرحلة الطفولة التي لها دور وظيفي في حياة الناس، مع الإشارة إلى أن كثرة المعاناة من تراكم الرغبات المكبوتة، فإنها تتحول إلى عقد، وهذه بدورها تولد أمراضا عضوية أو نفسية، وتظهر بشكل جلي في الأعمال الأدبية والفنية وفي سلوك الناس وسوى ذلك، ويرى أصحاب هذا الاتجاه المنهجي أن إثبات الذات هو الدافع الأساسي والمحرك الرئيسي للإبداع في النفس البشرية، وفي كل هذا تبقى اللغة هي الوسيلة الأساس في الإبداع التعبير عن الذات، وفي تأسيس المناهج وتحديد معالمها ومعاييرها وآلياتها وغاياتها، كما للسانيات دور وظيفي في دراسة المناهج السياقية والنسقية توظيف آلياتها في تحليل الخطاب وفي ذلك اجتهادات لا تخفى على كل متابع لهذا الشأن...
2-أثر اللسانيات في نشأة وترقيةالمناهج النسقية ودورها في تحليل الخطاب:
أسهمت اللسانيات بوصفها الدراسة العلمية للغة في ظهور المناهج النسقية التي تركز في تحليل الخطاب الأدبي على المكونات اللغوية التي شكلت بنيته ، ومنحته وظائفه ، وحددت خصائصه ، وعينت مميزاته ، ودرست هذه المناهج الخطاب من داخله ، وفي ذاته ولذاته ، واعتمدت اللغة منطلقا لكشف ماهية الخطاب وطبيعة ووظيفة.
وكان لدراسات فردنان دوسوسير ونعوم تشومسكي وزيليغ هاريس وسواهم من اللسانيين في اللسانيات بمختلف اتجاهاتها اللسانيات العامة واللسانيات البنيوية واللسانيات التوليدية واللسانيات التوزيعية أثرها العقلاني والموضوعي الواضح في تحديد العلاقة بين اللغة والكلام، والدال والمدلول، والآني والتعاقبي، والقدرة والكفاءة، والإرادة والإنجاز، وفي النظر إلى اللغة باعتبارها ملكة فطرية منظمة ومتميزة، أي أن هذه الملكة هي استعداد فطري يولد مع الإنسان، ويتطور تبعا لنوع الظروف، لتخرج اللغة في الأخير من حال الكمون إلى حال التحقق، وضمن هذا السياق تتنزل المبادئ العلمية التي قامت عليها المناهج النسقية، ومن ضمنها ، المعرفة بخصائص اللغة، وهي القدرة والكفاءة، والإنجاز والإرادة كما حددها نعوم تشومسكي، وتتم دراسة مستويات اللغة في بنية الخطاب الأدبي بما يميزه من خصائص، وخارج الخطاب الأدبي من خلال طرح الفرضيات التي يتم التدليل على صحتها من خلال التجريب، والوصف والتحليل باعتماد مقاربة منهجية التي تقوم على آليات إجرائية دقيقة المصطلحات واضحة المفاهيم، واعتماد الوصف، والاستقراء، وتحري الدقة العلمية، والموضوعية، والانسجام، والشمول، والوضوح المنهجي، والبساطة في عرض الأفكار، واستخلاص القواعد، واستنتاج القوانين.
إن مهمة النقد النسقي بمختلف مناهجه؛ كالأسلوبية والبنيوية والسيميائية وسواها تكمن في سعي هذه المناهج إلى ضبط مفهوم الخطاب على أنه إنجاز لغوي وهو حدث في الزمان والمكان، وهو نظام إشاري وعلامي ورمزي دال، وتركز مناهج النقد النسقي على وصف اللغة وتفسيرها بصفة عامة، وتفكيك بناها في الخطاب الأدبي بصفة خاصة، ووفق هذا المعطى يتجلى تحديد ووصف البنى اللغوية وتفسيرها وتأويلها انطلاقا من مستوياتها : الصوتية والمعجمية والتركيبية والدلالية.
وأسهمت اللسانيات في تطوير المناهج النسقية عامة؛ وترقية تحليل الخطاب الأدبي بصفة خاصة؛ وانعكس هذا في المنجز النقدي النسقي تنظيرا وتطبيقا، وأنصب اهتمام تحليل الخطاب على وصف البنى السطحية، والبنى العميقة ،وتفكيك مكونات الخطاب، وتفسير بناها ووظائفها، وإنتاج المعاني من علاماتها ورموزها وإشاراتها، ومن ضمن مكونات الخطاب التي اهتدى إليها النقد النسقي المعاصر، مع الأسلوبيين والشكلانيين الروس وحلقة براغ والبنيويين والسيميائيين، وشكل منها منظومة إجرائية في تحليل الخطاب هي: الموضوعات ، وهندسة الأصوات، وتوزيعها بين الجهر والهمس، والشدة والرخاوة، والتنغيم، والإيقاع، والموسيقى، والتكرار المفرد، والتكرار المركب، والمعاجم وطرائق توظيفها في الخطاب، وأصناف التراكيب الكلامية وأنماطها، وأنواع الجمل وسماتها بين البساطة والتركيب، ومجالات إسنادها وتراتبية التقديم والتأخير فيها، وضبط الحقول الدلالية ، والعلاقات بين هذه الحقول، وجماليات الصور، وطراىق إنتاجها، وأساليب تشكيلها، وأبعادها الفنية، وصياغاتها البلاغية، والأبنية التي تضمن الانسجام في بنية الخطاب، والترابط ، والوظائف، والحكي، والسرد، والوحدات الفرعية، والأساسية، والعوامل من مرسل ومرسل إليه، وذات أو "فاعل" وموضوع، ومساعد ومعارض، والمربع السيميائي، والمكان المفتوح ، والمكان المغلق، والزمان الاستذكاري، والزمان الاستشرافي، وما يتفرع عنهما من مدة وحذف وإيجاز وتلخيص، والوصف ومستوييه، من وصف ذاتي، ووصف موضوعي ، ودراسة الخطاب في سياق المحايثة الآنية أوالتعاقبية (السانكروني والدياكروني)، والتشاكلات ومستوياتها، والثنائيات الضدية، ورؤية العالم، والعدول والانزياح، والنسق، والوعي بمستوياته: الوعي القائم، والوعي الزائف، والوعي الممكن، والعلاقات التي تكفل للنص السردي انسجامه، ووحدته، والبنية الخطابية، والعلاقات بين البنى المشكلة للخطاب، والتناص بمستوياته، وأنواعه، والسارد المهيمن وتجلياته، والتفاعل بين القارىء والمقروء، وجدلية التماهي بينهما، ومرجعيات كل هذه الإجراءات في المناهج النقدية النسقية لتحليل الخطاب لا تخلو من تحاقل معرفي وتضايف علمي، وتفاعل أثمر هذا الاتساع في التحليل وهذا الشمول في الرؤية وهذه الموضوعية في فهم الخطاب بأنواعه، ومع ذلك تبقى المناهج النقدية السياقية والنسقية مشاريع علمية لم تكتمل، ويبقى الرهان قائما على ما ينجز ويطور الفلاسفة والمفكرون واللسانيون والسيميائيون لاحقا من مبادرات وإضافات علمية نوعية في المناهج، دون أن نغفل الإشارة إلى أن العلم الذي يهتم بدراسة المناهج هو "علم المناهج".
علم المناهج: هو علم قائم بذاته وموضوع دراسته هو المناهج التي يستخدمها العلماء في بحوثهم، وهو علم يبحث في تاريخية المناهج، وطرائق البحث العلمي من حيث النشأة والأسباب والدوافع التي أسهمت في نشأة المناهج ومرجعياتها الفلسفية والفكرية وآلياتها والنتائج المتوصل إليها، ويشمل هذا الدرس التحقق الفعلي من كفاية المناهج، وطرائق حصولها على نتائج علمية شمولية، وموضوعية من المدونات والخطابات والظواهر المدروسة..

------------------------------------------------------
أ. د. نورالدين السد


مقال مصحح تم نشره سابقا 2/أفريل/2021 في صفحة كلية اللغة العربية وآدابها واللغات الشرقية عن [ خلية الاعلام والاتصال ] التي أقدم شكري لأعضائها النجباء...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى