د. نور الدين السد - فهم العقل الغربي...

يقول الأستاذ نورالدين جباب أستاذ الفلسفة في جامعة الجزائر 2.
«الفكر العربي بعد غزة:
نحن مطالبون أن نفهم الغرب أكثر، ونتعمق أكثر في فكر الغرب، وفلسفة الغرب، وعقل الغرب»
وما أثاره الأستاذ نورالدين جباب موضوع في غاية الأهمية، ولابد أن يكون محل اهتمام النخب العربية، في مختلف المستويات والهيآت...
إن فهم العقل الغربي، يقتضي قراءة المنجز الفكري والفلسفي والأدبي والفني والعلمي عبر مسارات تاريخية طويلة، والبحث في أصول التفكير في القضايا الفلسفية الكبرى التي تناولتها الفلسفة الغربية من القرن الخامس والرابع قبل الميلاد، وفي الكتاب المقدس بعهديه، وفي المذاهب الدينية المتفرعة عن ذلك، وهيمنة الكنيسة وتحالفاتها، وفلسفات عصر الأنوار، وما تولد عنها من أهوال ودماء وصراعات وعصب وحروب وثورات، وانبثاق الحداثة وفلسفاتها العلمانية (اللائكية) واليسارية الاشتراكية، والوجودية، واليمينية البرجوارية والليبيرالية، وما تفرع عنها من تيارات فكرية وأدبية وفنية، وما أنجزت من صنائع لا تحصى في البر و البحر والجو، وتوسع مصالح الغرب الاستعماري في افريقيا وآسيا، وهيمنته بالقوة والعنف والإرهاب والاحتلال على مقدرات الشعوب، واستغلال ثرواتها، وطمس هوياتها، والقضاء على تطلعات شعوبها في الكرامة والحرية وفي أدنى حقوقها..
نعم العقل الغربي لا يقرأ قراءة آنية محايثة منبهرة، بل يقرأ في أسيقته التاريخية وخلفياته الاستعمارية، وعبر منجزه التسلطي الديكتاتوري المناوئ للقيم الأنسانية السامية، ويقرأ بما لقنته شعوب مستعمراته القديمة من دروس النضال والتضحية في سبيل الحرية..
لابد من قراءة العقل الغربي الحداثي وفهمه بمنظور ما خاض من حروبين عالميين الأولى 1914- 1918 والثانية 1939 -1945 هذه الحروب أنهكته من داخله ، وأظهرت اثنياته وعنصريته، وتهتكه بنيويا ووظيفا، نعم خاض حروبا تدميرية كبرى، وشهد مقاومات، وثورات تحررية في مستعمراته، وخرج منهزما مدحورا من معظم مستعمراته القديمة، بفضل وعي الشعوب، وعزمها على النصر والحرية، على الرغم من عدم تكافؤ القوى..
وأما شعارات الغرب في الحرية والعدل والمساواة فهي شعارات غير قابلة للترويج والتطبيق في بلدان الشرق، لأن الغرب يريد بلاد الشرق سوقا مستهلكة فقط، يريدها بلادا عاجزة عن تأمين غذائها وملبسها ومركبها، يريد أن يبقى الآمر الناهي، لأنه يملك القوة الاقتصادية، وله حق الفيتو في المحافل الدولية، وهو داعم المشروع الصهيوني الذي بدأ الشروع في تطبيقه منذ ثلاثة قرون، ودائرته تتسع، وهيمنته تزداد، وحلفاؤه يتكاثرون من الشرق ذاته، لدوافع منها الجلي ومنها الخفي، هذا المشروع الصهيوني الذي تفطنت لعنصريته وشيطنته معظم شعوب المعمورة، وشرعت في إدانته، ومحاربة استراتجياته.
إننا لا ننكر أن الغرب فضاء للعلم والمعرفة والرقي، ومنجزه العلمي والتكنولوجي والحضاري له أثره الإيجابي الواضح في ترقية حياة الناس في العالم، مثلما له أثره السلبي في تدمير كيانات دول، واضطراب حياة الشعوب، والشاهد والدليل البين مستعمراته القديمة وتدمير كياناتها، واجتثاث أسسها، ومسخ هوياتها، ومحو ذاكرتها على غرار ما يفعل الاحتلال الصهيوني لفلسطين منذ 1947، وراهنا إبادة الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني في غزة وأريحا، وقبلها تدمير العراق وسورية واليمين وليبيا بتواطؤ من الداخل والخارج...
إن سؤال فهم العقل الغربي وأساليب اشتغاله سؤال في الصميم، مع الإشارة إلى أن معظم المؤسسات العلمية والأكاديمية في العالم تدرس فكر الغرب ومنجز الغرب الحداثي في العلوم الطبيعية والطاقوية والإنسانية والاجتماعية، وأكاد أقول إن معظم ما ينجز في الشرق ما هو إلا نماذج مستنسخة عن الغرب، بل حتى أنظمة الحكم وتوزيع مؤسساتها بين تنفيذية وتشريعية وقضائية، هي صور مستنسخة عن ممارسات نظم الحكم في الغرب وهياكلها وصلاحياتها ومهامها، مع إختلاف الممارسات.
ليس كل ما في الغرب قبيح وليس كل ما في الشرق جميل، وديمومة صراع المصالح بين الشرق والغرب ستولد بؤر توتر دائمة في مناطق من العالم، ومهما كان مستوى التنازل المقدم للحلفاء الاستراتجيين للشرق، تبقى منافع الغرب عند الغربيين من الأولويات في كل تحالف استرايجي.
موضوع فهم العقل الغربي موضوع في غاية الأهمية، ولابد من عدم التوقف عند حدود الفهم، بل لابد من طرح السؤال الموالي ، كيف يمكن التعامل مع الغرب!؟ ومن هو المؤهل للتعامل مع الغرب!؟ ماهي المؤسسات الرسمية وغير الرسمية والهيآت والشخصيات المؤهلة والمخولة للتعامل مع الغرب نديا في جميع المستويات، وفي مختلف المجالات!؟ الغرب الحداثي هو غرب الشركات المتعددة الجنسيات، وهو غرب الصناعة والتكنولويات العصرية، وهو غرب الذرة والصناعات العسكرية، والأقمار الصناعية، وغزو الفضاء، وهو المهيمن في التجارة الدولية وسوى ذلك..
إن مسألة فهم العقل الغربي تقتضي عقلا موسوعيا جبارا ملما لمسارات المنجز الغربي تاريخيا في كل المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، وهذا أمر يؤتاه المصطافون الواعون حملة الرسالة الذين يشعرون بمسؤولياتهم إزاء الأمة والتاريخ، ونذروا أنفسهم، وما يملكون من إدراك لخدمة العلم، وخدمة أوطانهم، وتحرر شعوبهم وترقيتها، والحفاظ على كرامة الإنسان وحقوقه في جميع بقاع الأرض، وحيثما كان، وأينما كان.
وإنا نرى أن فهم العقل الغربي يكون من أجل محاكمته أخلاقيا وإنسانيا، وتصويب مساره بما يخدم الإنسان دون تمييز، وما مظاهر احتجاج شعوب الغرب ذاته وطلبة جامعاته، وتصاريح نخبه، وإدانة ممارسات سياساته، والتعريض بتواطئه، ودعمه للإحتلال الصهيوني وعدوانه على غزة وحرب الإبادة التي يمارسها بدون وازع أخلاقي، ولا رادع قانوني، يؤكد مستوى الوعي والنضج والإدراك و الشجاعة لدى هؤلاء المناضلين الأحرار في مختلف دول العالم الغربي الشرقي، ودعوتهم إلى إيقاف حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني في غزة وأريحا، ورغبتهم بل وعزمهم على إدانة العقل الغربي، يعبر صراحة عن دوافع وقيم أخلاقية وشعور بالمسؤولية في تصويب مسار العقل الغربي بنيويا ووظيفيا، وهنا نلحظ أن بعضاً من نخب الغرب العارفة بخصائص العقل الغربي تدينه من داخله، وتدين حلفاءه والسائرين في ركابه.
إن مسألة فهم العقل الغربي مسألة جوهرية لابد من فتح نقاش معمق حولها ، كما أن المسألة تقتضي أن يقوم بهذه المهمة أهل الاختصاص، ومخابر البحث، ومراكز الدراسات العلمية ، والأكاديميات الاستراتيجية، وأن تستثمر مخرجاتها العلمية من الهيآت المخولة للتعامل مع هذا العقل الغربي الذي طغى إلى أن تجاوز كل القوانين والأعراف والأخلاق والتقاليد الإنسانية، نعم على الهيآت وأقصد هنا الحكومات ومنظمات المجتمع المدني والشخصيات الأكاديمية والسياسية والعلمية والفكرية والثقافية والاقتصادية أن تلم بمخرجات العقل الغربي من خلال الوقائع والأحداث، وأن تتعامل مع منجزات العقل الغربي بموضوعية وعلمية وبكفاءة ومهنية، لتكشف تجاوزات العقل الغربي وممارساته، وهذا ليس بهدف إدانة العقل الغربي فقط، بل من أجل توعية الشعوب بمخاطر ممارساته، وتشجيعها وتحريضها على مناهضة ما يقوم به من أعمال تعد عارا تاريخيا وأخلاقيا في مسيرة النضال من أجل حقوق الإنسان وكرامته وحريته، ودفاعه عن مصيره، وديقراطية اختياراته، وهي الشعارات نفسها، والقيم نفسها التي يدافع عنها الغرب ذاته، ولكنه يغض الطرف عنها عندما يتعلق الأمر بإنسان الشرق، وحقوقه المشروعة في الدفاع عن مصيره، وكرامته وحريته وسيادته.. وهذا هو الكيل بمكيالين الذي يمارسه العقل الغربي، والذي تفطنت له شعوب الأرض قاطبة، وهي تناهضه كما تناهض مشروع الهيمنة الذي تعمل دوائر الغرب على فرضها على دول الشرق وشعوبه المناهضة الظلم والاستبداد تاريخيا والمتطلعة إلى بناء عالم يقوم على الندية والمساواة والعدل والحرية.

د/ نورالدين السد .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى