كريم رضي - قراءة في ديوان الشاعر "جعفر الديري" (مقدمة لخلق الأشياء)

كتب - الشاعر كريم رضي:​


في ستة عشر نصا موزعة على أكثر من 60 صفحة صدر ديوان (مقدمة لخلق الاشياء) للشاعر جعفر الديري في عام 2023 وفد أهدى الشاعر ديوانه إلى أبي الطيب المتنبي.
نقف هنا أمام الديوان في تأملات تمثل منطقة بين الانطباع والنقد حيث ننظر إلى الشعر بقدر ما يحفزنا على الكتابة أكثر مما ننظر إليه بوصفه مادة نجلدها بالنقد المدرسي.
غاية ما نطمح إليه هنا هو الكشف عن المدى الذي يدفعنا إليه النص لنحقق مع الشاعر ما بعد هذه المقدمة لخلق الأشياء التي أرادها اسما للديوان ولأول قصائده.

1- قلق الإيقاع:

أول ما يلفت النظر إليه من قلق الخلق لدى الشاعر هو قلق الإيقاع، فهو ديوان يجمع بين شعر البيت والشعر الحر (التفعيلة)، وهو جمع وتفريق في الوقت نفسه. هو جمع بين دفتي كتاب واحد وهو في نفس الوقت تفريق في التنضيد البصري وتوزع البياض والسواد على مساحة الصفحات بين قصيدة البيت وقصيدة التفعيلة. (جاءت نصوص الديوان في 10 قصائد تفعيلة و 6 قصائد عمودية). ونلاحظ هنا أن الشاعر جعفر الديري هو الوحيد من بين مجايليه في جيل الألفينات الذي جميع في إصداره الأول بين الشكلين.

وإذا كان ثمة دلالة بصرية وموسيقية لهذا التوزيع توحي بحضور المرونة الإيقاعية وحرية الشكل التي يمارسها الشاعر دون رهاب التماثل الذي في الغالب يفرض شكلا واحدا لديوان واحد كما هو مألوف في أغلب الإصدارات الشعرية الشبابية، فإن هناك أيضا دلالة تتعلق بعمق التجربة ومشكلة الخلق.

ينتمي الشاعر جعفر الديري إلى جيل الألفينات في التجربة الشعرية في البحرين، وهو جيل ضم كوكبة من الشعراء والشاعرات وقد ضمهم جميعا في مقتبل بروزهم ديوان شعر مشترك حمل اسم (في صحة الفراغ) وصدر عن أسرة الأدباء والكتاب على إثر مهرجان الشعراء الشباب العرب في عام 2009.

هذا الجيل تميز بأن كل شعرائه من الجنسين كانوا يكتبون قصيدة التفعيلة لحظة صدور تجاربهم الأولى حتى أن تقريرا صحفيا تناول مشاركاتهم في المهرجان في قراءة بانورامية في ذلك ألعام ألمح إلى ظاهرة غياب قصيدة النثر في تجارب شبابية طالعة، وفيما عدا جعفر الديري من بينهم آنئذ الذي كان يكتب الشعر العمودي أيضا مع شعر التفعيلة مما منعه أن يحظى بفرصة إصدار ديوانه أسوة ببقية زملاءه الذين طبعوا دواوينهم الأولى ضمن مجموعة الإصدارات الشبابية عن الأسرة والتي كانت جميعها بلا استثناء نصوصاً من شعر التفعيلة، بحيث كان جعفر الديري لو أصدر ديوانه ضمن مشروع الإصدارات سيبدو خارج النمط المفروض يومها. أشير هنا إلى هذه النقطة لأنها مهمة في قراءتنا لديوانه الذي بين أيدينا والذي يبدو أن الشاعر يستعيد به لحظة فارقة في عمر التجربة لم تبرح ذاكرة الشاعر.

في الجزء المعني بالإيقاع في كتاب (السكون المتحرك) الذي يتناول تجربة الشعر الحديث في البحرين لأستاذ النقد الدكتور علوي الهاشمي، يشير قي فصل بعنوان (التكوين البصري)، إلى هذا القلق الإيقاعي في مجمل التجربة وكأنه يتحدث عن شاعر واحد حيث هو يتحدث كراصد لظاهرة لذات شعرية واحدة. ونعني بالظاهرة هي انتقال الشعراء الأحدث إلى التفعيلة وهجران العمود الذي ميَّز التجارب المؤسسة للشعر البحريني المعاصر. لا بأس هنا في أن أنقل هذه الفقرة من الجزء المذكور برغم طولها النسبي لكنها ذات فائدة فيما نحن بصدده من تلمس ذات القلق في تجربة جعفر الديري كشاعر واجد يختزل في تجربة فردية ما وجده الناقد الهاشمي في تجربة عامة شملت الشعر البحريني المعاصر من الآباء إلى الأبناء. يقول د. علوي الهاشمي: " ثالثا: مجال التكوين البصري: لقد ظلت القافية باعتبارها عنصر تعبير حيوي عن الذات الشاعرة تعيش قلق البحث عن إيقاعها الخاص الذي تتشكل فيه وتنتظم في سلكه منذ أن بدأت محاولتها التحرر من نظام الوزن وسيطرة بنيته الصارمة ذات البعد الاجتماعي المتسم بالثبات والسكون. ولم تكن تلك الرحلة التي قطعتها إشكالية العلاقة بين القافية والوزن ابتداء من تنوع القوافي حتى قصيدة التفعيلة بما عرضنا له بالتفصيل سابقا سوى تعبير حي عن ذلك القلق الذاتي الذي نتج عن تصدع العلاقة المألوفة مع بنية المجتمع وراحت الذات على أثره تبحث عن بنية اجتماعية تناسب حاجاتها وأشواقها المستجدة".

هذا القلق يتمثل في قصيدة تفعيلة حذرة لدى جعفر الديري لا تذهب بعيدا في مدى المغامرة الوزنية. لا، بل إننا لنعثر في نفس القصيدة التفعيلية على استهلال عمودي أو نصف عمودي فيما يمكن أن يسمى صدرا دون عجز، كما في قصيدة (دعيدع) حيث تبدأ بنصف بيت هو "أنا والذي سواكَ آخر من بقي" قبل أن تكسر البيت وتواصل القصيدة شكلها الحر من بيت العمود. أو نجده في تنضيد قصيدة البيت العمودية يضعها على البياض بطريقة غير ما هو معهود من وضع البيت في شكل صدرٍ وعجز بينهما نهر من البياض.

نعتقد هنا أن صراعا يكتنف الذات الشاعرة بين الموسيقى التي هي في قصيدة العمود لعبة زمن على المستوى الصوتي حيث تتكرر وحداتها في ذبذبات زمنية ثابتة قائمة على السكون والحركة وبين الكتابة التي هي ضد الموسيقى أو هي ضد الزمن، حيث هي تريد تأسيس زمن أعمق لا يحتفي بالنغم الصوتي بل بالمساحة البصرية بين مقطع وآخر في القصيدة. إنه إحلال الضوء محل الصوت. إن تقطيع البيت بصريا هنا ليس مجرد لعبة شكلية – على الأقل نرجو ألا يكون كذلك – بلهُ انحياز لسيادة الدلالة على سيادة الوحدة الصوتية وتحويل أفق توقع القارئ من انتظار الروي إلى انتظار المعنى.

في الشعر العمودي يظل الشطر الثاني (العجُز) دائما في حاجة إلى الشطر الأول (الصدر) ليوجد، وليكتسب معناه في انتماء لا يعلو فيه العجُز على صدر البيت أبدا والذي هو الأسبق نزولا طباعيا على الورقة أو على الشاشة. بل ان من مُحسّنات الشعر العمودي ما يُعرف ب (رد العجُز على الصدر)، بينما في التفعيلة تهتز مكانة الصدر في أوليته وسيادته وسلطته على العجُز كعلاقة السبب بالنتيجة. نستطيع القول بقدر من التعميم أن قصيدة التفعيلة حين تتحرر من إرث العمود قد تكون في شكل صدور متوالية دون عُجوز أو هي عُجوز دون صدور، ما يكسبها غموضا ولذة يوجدها الانتظار الذي قد يطول إلى أن تقول القصيدة مغزاها في آخر القصيدة أو في آخر الفقرة.

2 - قلق الخلق:

ليس الشاعر إلا خالقا، إلهُ كائناته اللطيفة، مادة خلقهِ الكلمات حين تكون مادة الخالقين غيره هي الطين. وتماما كما أن الطين لا يكتمل في جسد المخلوق إلا بتحوله إلى صلصال محمي بالنار حتى يتصلد، فكذلك المعنى، فالكلمات لا تتحول من حالتها الخام إلى معنى في القصيدة إلا برصها وحرقها في تنور الوجود. الكلمات قبل تكوينها الشعري في القصيدة هي مادة لينة لدنة منفتحة على إمكانات شتى. لكن الشاعر إذ يزجها في عالم الأشياء والأفكار تتصلد بهذه النار الوجودية فتصبح قصيدة.

القصيدة الأولى:

القصيدة الأولى (مقدمة لخلق الأشياء) والتي حمل الديوان اسمها، اختارها الشاعر لتكون أول القصائد فيما يشبه مقدمة للديوان نفسه أيضا أو تعريفا بهوية الديوان. وحين تقول "مقدمة للخلق" فأنت كشاعر تعطي نفسك المساحة الكافية من اللعب بالعناصر حيث لم تنتهِ من الخلق بعد، بل لم تبدأ فيه أصلا. إنها حرية البدايات حين كان الوجود كله سديما يسترخي على الماء. وفي مقدمة المقدمة أي في المقطع الأول من القصيدة لا مكان في البدء إلا للذات التي هي أمام اللاشيء، تعرّف بذاتها أولا في بيان حضورها في جسد القصيدة:

"أنا ما أزال

أضيء في المعنى

جبيني واحة

وصداي أشجار

وقلبي جلنار"

يعطينا فعل الديمومة (ما أزال)، فكرة الخلود، أو لنقل بتعبير القدماء (القِدم) للذات الخالقة. الذات التي وُجدت أولا قبل كل شيء. الذات المعطى الأساسي الذي لا شيء قبله. هذه الذات ليست خالدة بذاتها بل في انكشافها إلينا عن العناصر التي تسكن فيها، وخاصة في المزج بين حقول دلالية مختلفة.

كنا قد ذكرنا في الفقرة أعلاه المعنية بقلق الإيقاع أن الشاعر في مراوحته بين شكلي العمود والتفعيلة هو يلعب على إحلال الضوء محل الصوت أو الكتابة محل الموسيقى وذلك حين يضع العبارة في التفعيلة محل البيت في العمود. وتأسيسا على ذلك لنا أن نقرأ هذا المزج بين دلالات من حقول مختلفة في هذا المقطع الذي تبدأ به قصيدة (مقدمة لخلق الأشياء) والتي هي في نفس الوقت جاءت الأولى في الديوان في تبويب لا نرى أنه وضع عبثا فهنا في الحقيقة مانفيستو الديوان كله، أو (بيان الخلق) الذي يصدّر به الشاعر مشروع الخلق لتكون هذه القصيدة بالانطباق التام من الاسم على المسمى فهي تحمل اسم (مقدمة لخلق الأشياء) وهي فعلا فاتحة الديوان.

في المقطع الذي أمامنا، تمثل جملة "أضيء في المعنى" مدخلا لهذا المزج بين حقول مختلفة. يذكرنا هذا بالأوراد المقدسة، حيث عبارة "وبوجهك الذي أضاء له كل شيء" .. مقطع من دعاء معروف". إن هذا الحضور القديم (ما أزال) هو الذي سوف يمزج بين حقول دلالية مختلفة فيعطي كل عنصر منها إلى الآخر من خارج حقله.

لدينا الجبين والقلب من حقل دلالي واحد هو الجسد. الواحة والأشجار والجلنار من حقل دلالي واحد هو الطبيعة. الصدى من حقل الصوت. في مقدمة مقدمة الخلق هذه يحتفظ الخالق بسر هذا التركيب، السر الذي يضيء به في المعنى فيصبح كل حقل متمثلا في الآخر فإذا الجبين واحة، والصدى أشجار والقلب جلنار.

ونلحظ هنا وصف لحظة الخلق التي تتمثل فيها جميع الذوات في الذات الشاعرة في وحدة وجودية تستدعيها بالضرورة في النص الشعري عامة عملية الخلق وخصوصا في بدايته. في قصيدة (الخلق يبدأ) مثلا للشاعر قاسم حداد نجد هذه البداية الجناسية المعبرة للقصيدة، إذ يقول قاسم حداد:

"أبدأ من قاع الهجسِ

ومن قاعات النرجسِ

من سحر الصهدِ

بنهدِ مراهقةٍ

وُلدتْ من زبد الشمسِ"

شاعرٌ آخر لطالما مثّل لدى صاحب المجموعة معلما وملهما وهو قد أهدى الديوان إليه يصف ذاته الشاعرة بوصفها ملتقى لكل مكونات الوجود، فيقول المتنبي:

"أنا ابن اللقاءِ أنا ابن السخاءِ

أنا ابن الضرابِ أنا ابن الطعانِ

أنا ابنُ الفيافي أنا ابن القوافي

أنا ابن السروج أنا ابن الرعانِ

طويلُ النجادِ طويلُ العمادِ

طويلُ القناةِ طويلُ السنانِ"

كل هذه الصفات لدى جعفر الديري ولدى قاسم حداد ولدى المتنبي يعبر بها ضمير المتكلم عن أسماء الخالق قبل شروعه في عملية الخلق.

يواصل الشاعر بيانه في القصيدة الفاتحة:

"وجهي ستعرفهُ هنا

في الشاهد المصلوب في وضح النهار

في خصلة الشاهين تعبث بالمسافات الطوال

خلف ارتعاشة تلكمُ الأهداب

فيما قصّهُ نهر العذاب"

3 - ثيمات الثقافة والمكان:

جعفر الديري شاعرٌ يجمع بين العديد من المفارقات غير الجمع بين العمودي والتفعيلة بين دفتي كتاب واحد، فهو أيضا قريب جدا من ألفة المكان حد النوستالجيا وفي الوقت نفسه بعيد في غربة المثاقفة حد محاورة هاملت وجيفارا.

إننا كما سنعثر في كتابه على تمثيلات رموز القرية وشظايا الحنين لبيئتها المغدورة كما في قصيدة (قريتي) حيث تغني (الدير) موّالها على بحر (السريع):

مستفعلن مشتفعلن فاعلن

بحرٌ سريعٌ ماله ساحل

"يا (دير) والذكرى متى أيقظتْ

حلمَ فؤادٍ ملؤهُ الوعدُ

أبصرُ طفلا زاهيا ثوبهُ

يمرحُ أين الحرُّ والبردُ

وليس وهما ما تَرى إنما

حقيقةٌ ما ينبئ الخلدُ

ملاعبٌ كنا بأفيائها

لاهين لا عينٌ ولا رشدُ

أو في قصيدة (دعيدع) وهو ما يسمى في قرى أخرى (سويكن) وهو كائن أسطوري لطيف يتخفى في النخل ويداعب أهلها خاصة في أوقات الظهيرة أو قبيل امتداد الظل:

"قلتُ لطيب الذكرى

تعال نعيد رسم الأمس

نقطف ظلهُ المرمي وسط الموج

نسأل عن (سويكن) حين فر بنخلة البشرى"

فإننا أيضا مع هذه القروية الديرية المسكونة بملائكة وشياطين الماضي اللطيف والمخيف، سنعثر أيضا على الديري المعاصر ابن الثيمات المعاصرة وهو يحاور جيفارا في قصيدة (جيفارا بعد منتصف الليل) وهي كما يبدو نشيدٌ يرثي جيفارا المتروك في غابة مصرعه النبيل.

جيفارا بعد منتصف الليل

"الوقتُ الذاهبُ في أعماق الغابة

مكتوبٌ في اللوح

محفوظٌ في حَبّات البنّ الأحمر

مشدودٌ للخيط المدمى فوق الأغصان

مرفوعٌ فوق حواشي الضوء

المسلوب من القمصان"

أو في قصيدة (هاملت)، حيث يستعيد جعفر الديري ملحمة شكسبير الخالدة في مسرحية (هاملت)، ويبدو الديري في هذه القصيدة وهو يصفُ رغبة مستحيلة التحقق في نفس (هاملت الأبن) أن يتحرر من شبح أبيه الذي يطالبه بالانتقام لمقتله مغدورا من أخيه، وهنا في قصيدة الديري يتمنى (هاملت الإبن) على أبيه أن يتركه ليحيا ملذاته ونعيمه مع حبيبته أوفيليا.

تمثل هذه القصيدة برغم صغر حجمها فلسفة الرغبة في الحياة والتحرر من عبء ثأر الأسلاف الذي يطارد الأفراد والجماعات.

كما أنَّ هناك شخصيات أخرى يستدعيها الديري في قصائد مخصصة لهم، شخصيات قادمة من تاريخ الشعر كالمتنبي والمعري جنبا إلى جنب شخصية رفيق لصباه في قصيدة (عيسى رفيق الصبا).

كانت هذه المقاربة تطوافا سريعا بديوان (مقدمة لخلق الأشياء) الذي برغم كونه الديوان البكر الذي تأخر كثيرا للشاعر الديري بعد مجموعتين قصصيتين، إلا أنه معبر عن تجربة شعرية عميقة وثرية يمتزج فيها الروح الشعبي المخلص للمكان وثيماته الأليفة حيث سكون المكان وهدوء الطبيعة مع الروح العصري الإشكالي المنطلق عبر المثاقفة في حوار مع شخصيات صنعها النص الأدبي والفن حتى صارت أثرا له حضوره الأنطولوجي بيننا المعادل للحضور الحقيقي.

المصدر: مجلة العروبة - مملكة البحرين: العدد 37 مايو أيار 2024.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى