عواطف أحمد البتانوني - بـــائِعُ السَّعادة...

بعضُهم بناديه "عبد العاطي"، والبعضُ يخاطبهُ: "عبد المُعطى". صبىّ.. ثم شاب يافع.. ثم رجل.. لم يترك محل العطور الذى ألحقه به والده حتى يعينَه فى تربية إخوته. كان الحاج عباس صاحب المحل يشدّ عليه فى أول الأمر.. يقرص أذنه، أو يلسعُ رجليه عدة لسعات بالعصا ليتعَّلم ويجتهِد. فإذا اشتكى لأبيه نهره وقال له: "سوف أوصيه أن يضربك عشرةً حتى تتعلم". كبر عبد العاطي وأصبح يدير المحل.. ويتعلم تركيب العطور، ويحفظ عن ظهر قلب ما يحتاجه الحاج عباس من التجار ومن مزارع النباتات العطرية، وتعلم إمساك الحسابات بدقة وأمانة حتى وثق به وأصبح يترك له المحل أياما إذا أراد أن يجرى صفقات مع التجار، أو يستجم فى بيته إذا أصابته وعكة. فى آخر الليل يتكوم على فراشه فى جانب المحل ويضع جسده المكدود بضع ساعات.
وكما يسرق الزمن الأيام، سرق عمرَه وأيامه دون أن يقف مرة ليسأل نفسه.. كم عمرى الآن، ولكن زينب أمه لم تنسَ، فكانت تلح عليه.. يا ابنى ابحثْ عن بنت الحلال.. أريد أن أفرح بكَ. خمسة وعشرون عاماً عمرك الآن يا عبد العاطي.. إخوتك البنات الحمد لله تزوجن، وما يكسبه أبوك يكفينى أنا وهو.
نظر عبد العاطى فى المرآة التى فى المحل عندما سمع من أمه عدد سنوات عمره، وراح يدقق النظر ـ "يــاه دا أنت كبرت حقيقى يا ولد .. ولكنك وسيم والله.. شَعرك مازال أسودَ وكثيفاً.. ملامحك كلها مقبولة.. أنفك كبير شويتين، ولكن تحته شارب محتاج توضيب شوية.. جسدك نحيف شوية لكن عضلات ذراعىَّ وصدري مشدودة، من رياضة الشقاء اليومى.. كيف لم أر نفسى من قبل!! سامحك الله يا حاج عباس، سرقت عمري ـ لا لا أَستغفر الله العظيم.. لقد علمنى وجعل منى رجلاً صاحب مهنة وحرفة من أجمل الحرف.. منحنى دائما طيبةً من التعامل مع العطور، كل الناس تبتسم عندما أمر بهم حاملا كل الطيب.
لابد أن أمي دعتْ لي اليوم: " روح يا ابنى ربنا يرزقك بنت الحلال"
مررتُ فى الصَّباح الباكر على مزرعة الرياحين التى تُؤخذ منها مستخلصاتُ العطور التى ندخلها فى منتجاتنا.. أخذتنى قدماي إلى الطرقات التي تتخلل المزروعات الغنَّاء بألوانها المبهجة وروائحها المسْكِرةْ، أخذت أتأمل وأملأ صدرى بالندى المعطر، وأسجع بحمد ربى، وأحلم أن أكون يوما صاحب مزرعة مثلها وتكون لى تجارتى الخاصة، وأتزوج بنتَ الحلال، وأُنجب أولاداً وبناتٍ يساعدوننى. كدتُ أقع وقد تعثرت قدمى فى شئ مكتوم على الأرض، عندما أعتدلت.. أعتدلت هى الأخرى من رقدتها وهى تتأوه وانحسر غطاء رأسها عن ليل أزاح الليل، ووجه أضاء غبشة الصباح.. مددت يدى أساعدها، ماذا أرقدك هكذا فى طريق العابرين!!
اشتد تأوهها بصوت أنثوي حزين، وقالت: كنت أحمل قفص الريحان، فانتابتني سعلات شديدة، فصدري يتعب من الروائح النفاذة، وأنا فى حاجة للعمل، فتعثرت ووقعت. ساعدتُها حتى وقفت، وشدت شعرها وطرحتها، ونظرتْ إلي بعيون دامعة شاكرة. خَفَقَ قلبي كطبول المولد عندما رمتني بسهام عيونِها السوداء الواسعة المحاطة بصفين من الحراس، وتلألأت بدموع كحبات اللؤلؤ. أمسكتُ يدَها وضغطتها برفق وقلت: ما أسمك؟ قالت: نعمة . لا أعرف ماذا أصابني وكأن شبابي الذي نسيتُه كلَّه قد أفاق، وأن أحلامي التي نسيتها قد أفاقت واستيقظت، وكأن عيوني لأول مرة ترى النساءَ وجمالَهن، وأن عقدة لساني قد انفكت.. قلت بعد صمت طويل ويدها قد تركتها في يدي: أتتزوجينني يا نعمةَ ربِّى؟.. حَسَتِّتِكْ وَأَسْعِدِكْ. اتَّسعت عيناها الجميلة دهشةً، وقفزتْ ، واغرورقتْ عيناها بالدموع ثم ابتسمتْ. أعدت السؤال: "تتزوجينى يا نعمةَ ربِّي؟ أومأتْ برأسِها، ونظرت إلى قدميها فى خجل وخفر.
لم أكن أعرف أن الحاجَّ عباس يُكِنُّ لي كل هذا الحب، كان يُعامِلنى بثقة واحترام، لكنَّه لم يقل لى يوما: " أنا بَحِبّكْ زَىِّ ابْني يا عبد المعطى.. ربما كان يَعرف أننى أُحِسُّ ذلكَ منْ معاملتِه الطيبَة.
عندما عرف الحاج أنني خُطبتُ وسوفَ أتزوج، نادانى فى مكتبه وقال اجلس يا عبده، أنتَ تعرفُ أنك ذراعي اليمين، وأنا أقدر أمانتك وتفانيك فى العمل: لك مكافأة عندي كنت أحتفظ بها لهذا اليوم السعيد، هناك شقَّةٌ: حجرتان وفسحة وكل منافعها فوق سطح عمارتى الجديدة.. حفظتها لك، وشبكة عروسك ومهرها عندي وكل جهازها أيضا، ولك عشرة أيام إجازة، أنت عندى منذ خمسةَ عشرَ عاماً لم تطلب سلفة ولم تتكاسل أو تقصر فى العمل وأنا أبوك، أى شئ تحتاجه لا تخجل. أسألك مزيداً من الدعاء يا أمي.
تعارفنا مصادفةً وتزوجنا مصادفةً سعيدة. كان سطحُ العمارة فسيحاً نظيفاً، وضعتُ بعضَ المقاعد ومنضدة صغيرة وشتلة ياسمين حتى تتسلق واجهة الشقة وتذكرنا أننا تقابلنا وسط الرياحين.
وبدأت أحدى حكايات الحب. كل يوم كأنه ساعة، وكل ساعة كأنها بداية عُمْر ما ابتدأ إلى اليوم، آه يا نعمةَ ربى!! عشرةُ أيام تسامرنا فيها طويلا، نوصل النهار بالليل، بنور القمر، يأخذني النوم على ذراعها تضمنى إلى صدرها.. آه لم أشبع من حنانك يا أمى فقد خرجت إلى طريق العمل والشقاء صبياً.. وهذه نعمة الأنثى الصغيرة الفاتنة، توصل حنانك فكأنه ما انقطع يوما.. كنا نضحك كثيرا من طريقة تعارفنا السينمائية، فعندما يتعثر المرء يسقط سقطة موجعة، ولكننى سقطت سقطة هنية فى بحر عسل مصفَّى.. تقول نعمة.. عندما تعثرت فىَّ.. حسبتُ أنه الخولى وسوف يعدلنى ويشبعنى سباً، ثم يخصم اليومين من أجرى.. ولكن عندما نظرت إليك وشعرت بدفء يديك وأنت تنظر إلى طويلا ثم تقول.. اتتزوجيننى يا نعمة ربي، خفق قلبى وشعرت أنها ليست المرة الأولى التى نلتقى فيها، بل هى حلم عمري الخالي من الأم والأب.. هل كانت حقا المرة الأولى التى نلتقى فيها يا عطا!
رأيتُ من الحاج عباس معاملة أكثر ثقة وكأننى إبنه، كنت أفنى نفسى فى العمل حتى أسدِّدَ للرجل الطيب كل ديونه علي، أنا مدين له بسعادتي وهنائي، عندما أنجبتْ زوجتي أول صبى سمَّيته سيدا، تيمنا وحباً لصاحب الأفضال علي، فى عشر سنوات أثمرت شجرة الحب، وأصبح عندى أسرة كبيرة سيد ـ محمد ـ أحمد ـ محمود ـ حسن، فى كل حمل كنت امنى نفسى ببنت وأسميها نعمة الله، وشاء ربى أن يهبنا صبياً فى كل مرة. فى المرة الخامسة قلت لها ـ الحمد لله يا نعمة ـ هذا يكفى حتى نستطيع أن نعلمهم تعليماً عالياً، لن أتركهم للشقاء مثلي إن شاء الله.
كان قطار المترو مزدحما ساعة الصباح، الكل خرج لعمله أولقضاء مصالحه. كان عطا يمشى بين الصفوف بصعوبة رجل وقور، فضيَّ الشَّعْر واللِّحية. قسماته مثل كل المكافحين. عيون مجهدَة، لكنها تلمع لم ينقطع ذكاؤها، جبهة وخدود قد نقشت عليها سبعون سنة أخاديدها ووديانها وكهوفها، ولونت الشمس بشرته باللون الأسمر الذى يشي بالعمل الشاق، يحمل على يده صندوقا رصت به زجاجات صغيرة، وفى يده الأخرى قطارة يضع منها على كل يد تصادفه قطراتِ عِطرِ حتى إذا وصل آخر العربَة، تحولت رائحة عرق الزحام وأنفاس الركاب إلى عطر زكيٍّ تتفتح له الصدور. وعند عودته يعرض زجاجاته فى صمت وابتسامة هادئة، فتسارع الأيدى فى أخذ الزجاجات، ووضع بعض النقود فى الصندوق، لا يعترض الرجل ولا يجادل فى السعر، يتكرر ذلك كل يوم فى عربات المترو المختلفة. سأل أحد الركاب جارَهُ: "ما اسم هذا الرجل؟ ". قال: "لا أحد يعرف." قال: " أليس عنده أحد يريحه في شيخوختة! " قال: الدنيا أحوال، أنا أناديه كل مره يا بائع السعادة، يأتى إليَّ أو أذهب إليه أشتري لزوجتي زجاجة، تسعد بها وتتعطر.
بسرعة البرق انتشر الاسم، وأصبح بائع السعادة بابتسامته وطيب رائحته صديقا للجميع. عندما زاد رزقٌه أخذ يسدد ثمنَ ما يأخذ لفتحى الذى أمسك التجارة بعد وفاة والده الحاج سيد. كان فتحي يرفض فى كل مرة ويقول: " يا عم عبده.. انت حملتنى على كتفك، وكنت تشترى لى الحلوى وتصحبنى للعب مع أبنائك، ولكن مع إصرار الرجل، سلم فتحى بالأمر الواقع، وكان يكرمه بالمزيد من العطور الجديدة.
عندما وقف القطار فى محطة السيدة زينب، نزل عبد المعطى واتجه إلى محل ـ بالهنا والشفا ـ للكشرى الذى يتناول فيه وجبته كثيرا، كان التعب والجوع قد نالا من شيخوخته حتى إذا وصل لأول منضدة على الرصيف، صفق بيديه فجاء ريشة صبى المحل.. أهلا يا عم عبد المعطى.. ثوان يكون عندك أجدع طبق كُشَرِي، نادى المعلم حسنين من الداخل وقد لمح الرجل.. "اتوصى بعمك يا ولد.." بعد أن فرغ الرجل من طعامه ومسح يده وفمه فى منديل نظيف بجيبه.. تعال يا عم آنسنا.. يا ألف مرحب، شاى ثقيل سكر مضبوط ياوله وميه ساقعة... أقعد ندردش يا عبده.. مالك اليوم ماشى تطوح.. فين الشباب؟؟ مدَّ عبده يده فى الصندوق وأعطى المعلم زجاجتى عطر وهو يربت يده وينظر إليه فى سهوم.. الدنيا يا معلم.. الصحة خلاص.. والعمر بيجرى، مع رشفات الشاي، جرى حديثُ ودٍّ بين الرجلين وفضفضة.. عندما ذهب عبد المعطى منذ سنة كعادته صباحا إلى وكالة العطور التى قضى فيها كلَّ عمره.. فوجئ بشاب صغير من سن أولاده يجلس خلف مكتبه، عندما وقف ينظر إليَّ بدهشة وسأله.. من أنت يا ابني، قال: أنا رضى رئيس الحسابات الجديد نظر حوله فلمح كل العمال يحنون رؤوسَهم فى صمت، أقبل فتحى مرحبا وأخذ ذراعَه وذهبا إلى مكتبه والرجل مازال ينظر فى ذهول، قال فتحى فى تلعثم.. يا عمى العمل أصبح كثيراً بعد أن فتحنا الوكالة الجديدة، وطبعا أنت تحتاج مساعد شاب معك تعلمه ويكون ذراعك اليمين وأنت فى مقام والدي، ومكانتك كما هي، وماهيتك كما هي و...
وفهم الرجل أنها دعوة مستتره أن يحالَ إلى المعاش، وجلس فى بيته ـ ولم أذهب يا حاج حسَنين ياخويا إلى العمل وجلستُ فى بيتى حزينا وحيدا.. ماذا أقول لك؟.. رحلت نعمةُ ربِّى منذ سنتين، رحلت خفيفة كنسمة، كما دخلت حياتى منعشة كنسمة، رحل معها الأنس والحنان والنوم الهنئ.. كنا يومها نجلس متجاورين فى ليلة شتوية، نلتف بالأغطية الثقيلة ونشاهد التليفزيون ونضحك ويدها دافئة بين يدى، ثم وضعت رأسها على كتفى وتنهدت، وأحسست يدها ترتعش وتبرد، نظرت إلى وجهها فرأيت مسحة من سلام ونور تكسوه. ناديتُ : نعمة .. نعمة.. كل ما أذكره بعد ذلك أننى صرخت ورحتُ فى عالم ثانٍ.. أفقت على أولادى وجيرانى يحاولون أخذها من حضنى وهم يتمتمون بعبارات المواساه، وأنا أقول.. إنها فى غيبوبة يا سيادى.. صدقونى دى غيوبة، انظروا هل هذا وجه أموات!!
أصر أولادى أن يأخذونى عندهم، رفضت وتشبثت ببيتي الذي شَهِد قصة الوفاء، وشهد طفولة أولادى وشبابهم وأفراحهم. من سوف يعتنى بالياسمينة التى فرشت عبيرها فى كل مكان! من سوف يجلس على مقعد نعمة وهى تنظف الخضار وتعتنى بكل مفردات البيت، وتشرق ابتسامتها علينا كل صباح تودعنا، وكل مساء ترحب بعودتنا، من سوف يطعم العصافير التى تضع لها فى ركن السطح فتات الطعام والماء ونسمع شقشقة الشكر وتغريد الدعاء، من ستحنو على ساعة النوم وتدثرنى بالأغطية فى فراشنا، وتشعرنى أننى أبدا ما كبرت ولا تقدمت فى السن.
كان أولادى الخمسة ـ ما شاء الله ـ قد أتموا تعليمهم وتزوجوا واستقروا فى بيوتهم وأعمالهم، وأسعدونا بالأحفاد. قال المعلم حسنين ربنا يبارك لك فيهم يا عبده، كل ما قلته عن بيتك وحياتك جميل وأقدره، ولكن لو أخذت مشورة أخيك، أقول لك.. من حقك الآن أن تقضى أسبوعا عند كل ولد من أولادك: يعتنون بك وتسعدُ بأحفادك، أو تختارُ منهم من تعرف رجولتَه وأخلاقَ زوجته وتقيم معه، هذا أبسط حقوقك عليهم. قلت مع احترامى يا معلم أنا لن أغادر بيتى إلا على تربتى. عندما رأى الأولاد إصرار والدهم على البقاء فى بيته قالوا فى حماس: حقك يا والدنا وسوف تجدنا كل يوم عندك، نلبى كل طلباتك، أنت بذلت عمرك فى تربيتنا، فى اليوم الأول حضر كل الأبناء يحملون الطعام والفاكهة، فى اليوم الثانى حضر أربعة، فى اليوم الثلاث حضر ثلاثة، وهكذا يتناقص العدد مع الأعذار بمشاكل الأولاد والعمل، خمسة عشرة يوما وعاد عبد العاطى وحيدا مع عصافيرة وياسمينته، وأنفاس الحبيبة.
بدا عبد العاطي سعيداً هذا اليوم بعد أن تناول طبقَ الكشرى.. جلسَ يحتسى الشاى مع صديقه المعلم حسنين ما هى الأخبار ياعمنا.. عشرة أيام وانت مختفى، هل غيرت الصنف أم وجدت أصدقاء جدداً؟ ضحك عبد العاطي قائلا : "وهل أقدر على فراق أعزالناس والذ الطعام؟ . سوف أحكى لك : انفض الأولاد من حولى متعللين بمشاكل العمل ومشاغل العيال، وكل منهم يدعوني للإقامة فى بيته حتى يرتاح الجميع. ذهبت لزيارة ابن المعلم فتحى عباس فى الوكالة.. رحب بى الرجل كل الترحيب ثم أخرج مبلغا من المال حاول إعطاءَه لى وهو يقول: " هذا ليس منه يا عمى.. إنه حقك بعد أخذ وعطاء قلت يا ولدي أريد منك خدمة.. قال أمرك مطاع.. قلت أريد ما تجود به من زجاجات عينات العطور التى كنت تعطيها لزبائنك.. ضعها فى صندوق جميل عليه اسم الوكالة.. وسوف أسدد لك ثمنها، ضحك وقال سوف تنافسنى ياعمي! لك ما تريد ولن أسألك السبب. أما ثمنها قد وصل. أمر لى فتحي بما أريد: صندوقأً به ثلاثون زجاجة صغيرة من عطوره الثمينة وسألنى وهو يضحك، هل هذا يكفى.. قلت بارك الله فيك.. أمر أحد الصبية أن يوصلنى للبيت، ورأيت فى عيونه سؤال: ماذا ستفعل بهذه الزجاجات يا عم عطا، ماذا يحويه رأسك العجوز! قال المعلم حسنين وهو يغرق فى الضحك.. يا عبد العاطى يا أخى.. فعلا رأسك العجوز ملئ بأشياء لا تفهم.. أتعرف.. أنا أيضا كنت أتساءل ماذا تحمل فى هذا الصندوق، ومن أين تأتى كل يوم فى هذا المعياد!! وأتذكر أننى سألتك عدة مرات وكنت تضحك ولا تجيب، قلت وأنا أطلق تنهيدة عميقة وكأننى أضع صخرة من فوق صدرى.. أننى اليوم أكاد أطير فرحا ورضى وحمدا لله.. لأول مرة أضحك من قلبى منذ أن رحلت رفيقة روحى. هذا الصندوق يا صديقى يحتوي زجاجات عطر صغيرة كالتى أعطيها لك أحيانا، أنهض مبكرا فأتوضأ وأصلى وأحمل الصندوقَ وأركبَ إحدى عربات المترو، أوزع النفحات الصغيرة على الركاب رائحا غاديا وأنتظر الأيدى تمتد وتأخذ الزجاجات وتضع مبلغا من المال لا أعرف ما هو ولا أنظر إليه.. ربما يفرغ الصندوق فى يوم أو فى عدة أيام.. أذهب إلى الوكالة وأصر أن أسدد الثمن وأخذ أخرى ويبقى لى ما يقيم حياتى.. لا أحد يعرف من أولادى ولا من أهلى أين أذهب، فهم يتخيلون أننى ـ كما قلت لهم ـ أذهب إلى مساجد آل البيت أقضى فى رحابها الطاهرة سحابة النهار ثم أعود راضيا لا أحتاج شيئاً من أحد.. اليوم أعطانى الله مكافأتي.. فقد سمعت الركاب ينادوننى: "بائع السعادة" أين بائع السعادة؟ أقبل يا بائع السعادة.. لماذا غبتَ عنا بالأمس يا بائع السعادة. عندما جلست على أحد مقاعد المحطة استريح بكيت بدموع غزار حمدا وشكرا لله، وتمنيت عليه: أريد يا ربى أن نسترد روحى وأنا وسط الركاب حبايبى.. ينعمون بالعطر ويبتسمون.. أموت بينهم فيقول أحدهم.. لا حول ولا قوة إلا بالله.. مات الرجل.. هل يعرفه أحدكم.. فيقولون لم نسأله يوما عن اسمه، ولكن الكل يناديه: " بائع السعادة".

15/5/2024

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى