د. أحمد الحطاب - نكاد نقول وداعا للمواطنة وللوطنية

في هذه المقالة، أتطرق لمفهومي المواطنة citoyenneté والوطنية patriotisme من الجانب الذي يُبرِزُ المواطنَ كشخصٍ مُنتمي لجماعةٍ ما أو لبلادٍ ما. وهاتان الجماعة والبلاد هما ما يُسمى سياسيا الوطن nation وإنسانيا patrie اللذان يجمعان بين أحضانهما مواطِنات citoyennes ومواطنين citoyens، الذين لهم حقوقٌ وعليهم واجبات. لهم حقوقٌ وعليهم واجبات بحكم انتمائهم للوطن، وكذلك، بحُكم مساهمتِهم بكيفةٍ مباشرةٍ أو غير مباشِرة في تدبير وتسيير شؤون هذا الوطن.

والوطن ليس مجرَّدَ تراكُمٍ عددي لأفرادٍ. الوطنُ عبارة عن مجتمع له مبادئه وأعرافُه وقوانينُه التي، بموجبها، يتمُّ تنظيمُ تعايشِ وتساكُنِ المواطنات والمواطنين، في رُقعاتٍ مختلفاتٍ من الوطن.

وحينما أتحدَّثُ عن المجتمع، فوجودُه واستمرارُه في البقاء مرتبطٌ ارتباطاً وثيقاً بمبدأ المواطنة، أي أن أي فردٍ من أفراد المجتمع، إذا كا من حقِّه أن يخدمَ مصالحَه الشخصية، فهو مُطالبٌ، أي من واجبه في نفس الوقت، أن يخدمَ الوطنََ. والوطن هو الذي يضمنُ تَعايُشَ وتَّساكنَ المواطنات والمواطنين أينما وُجِدوا في رقعةٍ من رقعات هذا الوطن. وحُسنُ التَّعايش والتَّساكن ناتِجٌ عن تداخل وتكامل الحقوق والواجبات.

من بين الحقوق، أذكرُ على سبيل المثال، كرامةَ العيش، حريةَ التَّعبير، حريةَ الضمير، حريةَ التنقل، المساواة أمام القانون، المساهمةَ في الحياة السياسية (التصويت والتَّرشُّح)، الحقَّ في الشغل، في التعليم، في الصحة، الخ.

من بين الواحبات، حب الوطن والدفاع عنه سواءً في حالة الحرب أو في حالة السِّلم، المساهمة في ازدهاره وتقدُّمه، احترام القانون والحَثُّ على احترامِه، أداء الضرائب، السَّعيُ لخدمة الصالح العام عبرَ المساهمة في الحياة السياسية والديمقراطية، الاحترام المتبادل بين المواطنين الاحترام المتبادل بين هؤلاء المواطنين والدولة…

فيما يلي، سيتِمُّ التَّركيزُ على المواطنة citoyenneté في شقِّها المتعلِّق بحبِّ الوطن أو الوطتية patriotisme وخدمة صالحِه العام intérêt général. والمواطنة والوطنية لهما قاسمٌ مشتركٌ يُجسِّده على أرض الواقع الانتماءُ للوطن، لكن تُجسِّده كذلك القيم الإنسانية والوطنية المشتركة. وكل مواطِنة وكل مواطن، سليمَي العقل والبِنية، يعبِّّران عن انتمائهم للوطن وعن حبِّهم له بفخرٍ واعتزازٍ. ولهذا، فالكلُّ معنيون بهذا الانتماء وهذا الحب : مواطنون عاديون، سياسيون، سلطات عمومية، مُنتَخَبون، جيشٌ، مقاولات، أحزاب سياسية…

حبُّ الوطن قيمةٌ ساميةٌ، وفي نفس الوقتِ، إحساسٌ قويٌّ بالانتماء، روحاً وجسداُ، لهذا الوطن. والانتماء للوطن لا يمكن فصلُه عن الانتماء لترابِه و الاستعداد للدَّودِ عن وحدته ومصالحِه في السرَّاء والضرَّاء. الانتماء للوطنِ يكون دائما مقترِنا بالافتخار به، ببطولاتِه وإنجازاتِه بمختلف أنواعِها. وهذه الإنجازات يمكن أن تكونَ سياسيةً، اجتماعيةً، ثقافيةً، اقتصاديةً، رياضيةً...

انطلاقاً من هذه الاعتبارات السابقة، ما يمكن ملاحظتُه هو أنه، في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات وشيئا ما السبعينيات، كان المغاربة يزدادون ومواطنتهم و وطنيتهم ملتصقتان بهم. وكأن هذه المواطنة والوطنية كانتا هما غذائهم في أرحام أمهاتهم. وحتى بعد ازديادهم، فإنهم يرضعونها في حليب أمهاتهم.

وهذا يعني أن المواطنة والوطنية كانتا لا تغادر المغاربةَ أثناء عيشهم إلى أن يفارقوا الحياة. ومنهم مَن لم تطأ أقدامُهم عتبةَ المدرسة، وتراهم يستميتون في مواطنتهم و وطنيتهم ويعبِّرون عنهما ويُظْهِرونهما. بكل بساطة، كانتا للمواطنة وللوطنية، بالنسبة لهذا الصِّنف من المغاربة، معاني وِجدانية وروحية.

إن المواطنةَ والوطنية، في تلك الفترات من تاريخ المغرب، كانتا فِطريتين وإن لم تكونا فطريتين، فهما عفويتان. فكنا نسمع عنهما في المنزل، في الشارع، في المدرسة، وخصوصا، في حقبة الاستعمار. وكم حفظنا من أناشيد تحبِّبُهما لنا. أناشيد تُحفِّزنا على حب الوطن وتجعلنا نفتخر بانتمائنا له. كنا نشمُّها في الإذاعة، في الجرائد، في الحفلات، في…

عشناها وعاشت فينا. رأيناها في عَلَمٍ أحمر تتوسطه نجمةٌ خماسيةُ الأضلاع، خضراء. عرفناها في ناس شرفاء ضحوا بالغالي والنفيس وماتوا كي لا تموت المواطنة والوطنية.

أما ما نشاهده ونعيشه اليوم في حياتنا اليومية بجميع مظاهرها الاجتماعية، الاقتصادية والثقافية من سوء أخلاق وتصرفات وأفعال لا يبشِّرُ بالخير. إنها مظاهر واضحة للعيان، وبالأخص، منذ أن تخلت المدرسةُ المغربيةُ عن أداء مهامها التهذيبية والتربوية.

حينها، بدأت المواطنة والوطنية في التَّدهور بالتوازي مع ظهور الفردانية individualisme بمعناها السلبي، وكذلك ظهور الوصولية arrivisme والأنانية égoïsme. أما الضربة القاضية التي أدخلت المواطنةَ والوطنيةَ في طور الاحتضار، فتتمثَّل في تعفُّن السياسةُ وتحريفها عن معناها النبيل.

والضربة القاضية الأخرى، فقد تلقَّتهما المواطنةُ والوطنيةُ عندما أبدعتِ السياسة وأنجبت ثنائيا خطيرا يُسَمَّى "السلطة والمال". خطير لأنه لا يعترف لا بالإنسانية ولا بأخلاقها ولا بقِيمها ومبادئها ولا بالقِيم الدينية... ثنائي يعترف، فقط وحصريا، بمصالحه الشخصية... على حساب ملايين البشر... بل إنه يَعتبِرُ مَن بقي مُتشبِّثا بمواطنته و وطنيتِه من القوم السُّذج!

فهل هذا يعني أننا قاب قوسين أو أدنى من صلاة الجنازة على المواطنة والوطنية؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى