لطيفة زهرة المخلوفي - البناء الثقافي للمؤنث، الأمثال الشعبية نموذجا (4/4)

الحلقة الأولى

تعد الأمثال أحد أبلغ وأهم الأساليب التعبيرية الشعبية، التي حضيت بانتشار وتداولا كبير استعمالا ونقاشا.
إنه تعبير مشترك بين الثقافات حيث يعبر عن مشاعر الشعوب، كما يجسد أفكارها وتصوراتها وعاداتها وتقاليدها ومعتقداتها. وهذا ما يجعله انعكاس لمعظم مظاهر الحياة الجماعية في صورة شاملة.
يمكن القول أن المثل الشعبي بوثقة لنمط العيش الجماعي لحفظ ذاكرة كل مرحلة على حدة.
تتميز الأمثال بسرعة الانتشار والتداول عبر الأجيال. كما تنتقل من لغة إلى أخرى عبر الأزمنة والأمكنة، فضلا عن تفردها بالإيجاز الكبير، وجمال وقافية اللفظ وكثافة المعنى.
وارتباطا بالمواقف والتصورات الجماعية اتجاه الرجل والمرأة، سنستحضر بسط وتحليل نماذج من الأمثلة الشعبية المغربية، والتي تشكل توجيها واعي وغير واعي أحيانا لمنظومة القيم_ التي تلقن في المجتمعات التقليدية بالخصوص_ باستمرار من خلال التنشئة الاجتماعية
ولا يمكن استحضار صورة المرأة في الأمثال الشعبية إلا بالموازاة مع بسط صورة الرجل في هذا النسق الشعبي، ومن منطلق كون الأمثال انعكاس للثقافة الشعبية فهي تبقى حية في الذاكرة الجماعية وتتحكم في تحديد المكانة وتوزيع المهام.
إن أهمية دراسة المثل الشعبي تكمن في كونه يعبر عن أوضاع معينة والمواضيع التي يرمز إليها، فضلا عن كونه موجز لخطاب شفهي يستند في حالات كثيرة إلى الأسطورة والحكاية، ليصوغ منظومة معارف تعبر عن بنية اجتماعية واقتصادية وثقافية معينة، دون أن نغفل نزوعه الى صوغ نسق تقويمي للسلوك الفردي والجماعي على حد السواء.
ومنه، فإن هذا التعبير يحمل في طياته ضبطا اجتماعيا، وهو ضبط يشمل مختلف مناحي الحياة بحيث أن دائرة الامثال شملت وبشكل لافت صور عن الجنسانية مما يحيل على أن هذا الطابو كان له حيز في التفكير الجماعي الشفهي ولم تكن ممارسته مقتصرة على الغرف المغلقة.

***

2

تشكل الأمثال الشعبية تمثلا لمنظومة قيمية واجتماعية تقليدية تضع المرأة في خانة انسان من درجة ثانية، وهو ما يبرز بشكل جلي في تحديد طرق التربية وتصنيفات الدور المنوط بكلا الجنسين.
وفي هذا السياق سنتوقف عند دراسة وتحليل عدة نماذج من الأمثلة الشعبية المغربية، والتي تلامس عدة جوانب من حياة النساء ( الزواج /الانجاب /العمل / العمر / اللون ..الخ).
نستحضر في هذه النموذج القائل : "بَنْتَكْ مَا تْعَلّمهَا حْرُوفْ مَا تْسّكّنْهَا غْرُوفْ".
والذي يتطرق إلى قضية حق النساء في التعليم، هذا المطلب الحيوي الذي لازال على قائمة مطالب الخط النسوي في المنطقة، خاصة مع استمرار العزوف عن تعليم الفتيات من منطلقات مرجعية أبوية ذكورية، فضلا عن تواصل نزيف الهدر المدرسي في مراحل الدراسة الابتدائية وما بعدها.
إن الاقصاء من الوصول إلى هذه الخدمة خاصة في المجالات القروية/المعزولة، والتي تفتقد للبنيات الكفيلة بتشجيع على التمدرس ( مدارس قريبة / نقل مدرسي / أقسام داخلية مناسبة / فصول مجهزة ...الخ ). وهو ما يسائل إلى الدور المحوري الذي تلعبه السياسة التعليمية الطبقية في تعميق التمييز في الوصول إلى خدمة التعليم. خاصة مع توالي السياسات التخريبية التي زادت من نزيف الهدر وتبدد حلم القضاء على الأمية.
عودة إلى المثل أعلاه نؤكد أن تناولنا له، جاء بغرض بسط دعوته صريحة لحرمان النساء من التعليم، وابعادهن عن الكتابة؛ فتعليم البنات محظور لأنه يفتح لهن آفاقا أوسع من غرف الحريم التي يجب أن يقبعن فيها، وهذا الخوف من تعليم البنات راجع إلى القيمة القصوى للتعليم في تغيير أوضاع النساء، فهو الخطوة الأولى التي تمكن النساء من رفض المصير الاجتماعي الذي يعتبر أن المرأة وجدت لتتزوج وتنجب فقط، والتعليم والعمل وتحقيق الذات استرجال وشذوذ عن الطبيعة السوية للمرأة المثالية.
إضافة إلى هذا، تعليم البنات هو طريق استقلالهن، وهذا الأخير يعني القطع مع جزء هام التبعية، وتحطيم لتجليات الحريم التي تلقي بظلالها على مختلف مناحي حياة النساء في مجتمعاتنا.
والنهي الوارد في المثال "ما تسكنها غروف" هو منع لاختلاء المرأة بنفسها، ومنه يمنع تخصيص غرفة خاصة لها داخل البيت، لضمان بقائها تحت المراقبة بشكل دائم عكس شقيقها الذكر، فتخصيص غرفة له ضروري، وهو ما يعني بالضرورة أنه غير معني بآلية المراقبة والعقاب هاته.
إضافة إلى هذا، فإن هذا المثل تعبير عن الإدانة الإجتماعية للمرأة المستقلة، فهي تخالف نسقا يؤمن أن المرأة يجب أن لا تخرج من بيتها إلا مرتين الاولى لبيت زوجها والثانية لقبرها، وهنا نستحضر ايضا مجمل ما ينسج لحدود اليوم من قبل وقال عن المرأة التي تستقل بسكنها قبل الزواج، فحسب فهناك من يراها "صيد" متاح، كما يلاحقها الوصم الإجتماعي بأنها مشينة السلوك وعديمة التربية ومسترجلة.
ومن الممكن أيضا أن نستخلص من هذا المثال الشعبي تأكيده للفصل الدائم بين النساء والرجال، فالفضاء الخاص نسائي والفضاء العام رجولي، وحسب العرف الإجتماعي "اقتحام المرأة" لعوالم الرجال يصنفها في خانة المتاحة ويبرر أي فعل عنيف قد يمارس في حقها.
صحيح أن هذه القيم طالها بعض التصدع، لكن المنظومة الاجتماعية والهوية الذكورية للسلطة لازالت تعبر عن نفسها بشكل أو بآخر، وتجعل من مهمة النضال لأجل الحق في التعليم للنساء كما الرجال لازال مطروحا بذات الملحاحية التي اشتغلت الراحلة فاطمة المرنيسي على تحققها طيلة مسارها الحافل بنقد كافة تمظهرات الحريم الخفي منها كما المرئي.

***

في مسار تتبعنا لحضور البناء الثقافي للمؤنث، نتوقف عند مركزية الزواج والإنجاب (انجاب الذكور تحديدا)، كمعيار لنيل الاعتراف بمثالية ونمودجبة المرأة.
خاصية الإنجاب ليست مجرد دور تختص به النساء بحكم تكوينهن البيولوجي، بل هو جزء من منظومة متكاملة ترتبط أساسا بإعادة الانتاج المجتمع.
وبالرغم من كون الإنجاب نتيجة لتفاعل جنسي بين النساء والرجال، وغياب القدرة على الإنجاب وارد عند الرجال كما النساء. رغم هذا فإن وصم العقم يلحق اجتماعيا بالنساء دون الرجال للتحقير، وهو ما عبرت عنه الأمثال الشعبية بقولها : "لمرا بلا ولاد بحال لخيمة بلا وتاد". أي أن المرأة التي لم تنجب حتى وإن كان باختيارها. تصنف على أنها لا تستطيع الصمود أمام تقلبات الزمن، فانجاب الاطفال أشبه بأوتاد للخيمة والتي يقصد بها الزواج، وبذلك فإنهم ضامن لاستمرار الزواج من عدمه.
إن هذا الربط بين الاستقرار والانجاب هو ترجمة لمنظور اجتماعي يختزل كينونة النساء في دورهن البيولوجي، ويقوم ببنائه اجتماعيا عبر التمييز في المكانة بين المرأة الأم و(العاقر) والأم لمواليد إناث في مقابل أم لأطفال ذكور.
ومنه، وجود المرأة في بيت الزوجية لا يعني شيئا دون إنجاب الأولاد، ومن هنا يرغب في الصغيرة، وتنبذ المرأة عندما تتوقف دورتها الشهرية أو تصبح غير قادرة على الإنجاب.
مركزية الزواج كبناء اجتماعي للإنجاب، يقود بالضرورة إلى الاحتقار الإجتماعي للمطلقة، وفي هذا السياق يقول "فوزي بوخريص"، بأنه يُنظر إلى المرأة المطلقة نظرة سلبية على العموم، حيث أنها مهمشة لكونها امرأة، لكنها تتعرض لتهميش مضاعف في حالة طلاقها، فتوجه أصابع الاتهام لها بأنها سبب فشل تجربة الزواج، وهذا ما يجعل النساء يخشين الطلاق هربا من الوصم الإجتماعي.
تعمل العديد من الأمثال الشعبية على إنتاج وإعادة انتاج النظرة الذكورية للمجتمع تجاه المرأة، فتختزلها في مجرد جسد، أي أنها في مقام الوسيلة المعدة للامتاع، ويجب أن تستشعر الإستمتاع بكونها مثيرا للرجل.
وعندما يفقد هذا الجسد حيويته ونضارته بفعل تقلبات الزمن وأعباء الحمل والولادة ومختلف مهام الإنتاج واعادة الإنتاج، فإنه حسب العرف الذكوري يصبح حينها "منتهي صلاحيته"، كما في حالة الطلاق "لحم الهجالة مسوس وخا دير لو الملحة قلبي عافو".
مهام رعاية استقرار الأسرة واستمرار الزواج تلقى على كاهل النساء وهو ما يكلفهن عمرا من التضحيات التي توسم بطابع الحميمية لكنها في الحقيقة تكتنف الذكورية والهيمنة.
إن ربط مسبب الطلاق اجتماعيا بالنساء، تفننت مجموعة من الأمثال في تصويره وتحقير هذه الفئة من النساء بأنهن عديمات الجدوى ولا يرجى منهن خير، مثال ذلك قولهم : "الهجالة ربات اعجل ما فلح ربات كلب ما نبح"، والسبيل الوحيد للتخلص من صفة "هجالة" ونيل الاعتراف بها مجددا هو زواجها مرة أخرى لتبرهن أنها لازالت مرغوبة من طرف الرجال.
وكل هذا يفرض على النساء الخضوع الدائم للتقييم، والزامية الالتزام بمعايير تضعهن في مقام التابع.

***

4-


____________________
إن الاتجاه نحو دراسة وتحليل الأمثال الشعبية، وسيرورة بنائها لمختلف القيم والتقسيمات داخل مجتمعاتنا، عمل يروم بالأساس تفكيك نسق متكامل يرتبط أساسا بتجارب/ مواقف/ أحداث، قد تكون في المنطلق فردية، لكن صياغة المثل وتداوله تجعلها جماعية.
يقوم المثل الشعبي بصياغة تجربة تنتمي إلى الماضي في قالب لغوي، وتتكرر في الحاضر نتيجة التداول، وهو ما يجعله دائما حاضرا خاصة أمام وجود تجربة مشابهة لتلك التي أفرزته.
وبهذا انتماء المثل الشعبي إلى الماضي لا يجعله لاغيا، بل يعطيه قوة وأحقية أكبر بالنسبة للمخيال الشعبي، بحيث تراه تعبيرا ثقافتها، خصوصياتها، وجزءا أصيلا من هويتها. فيتم الاحتكام له كخلاصة لحكمة الأجداد. وبهذا يصبح الفصل والحجة الدامغة. ويشكل جزءا هاما من المنظومة الثقافية للمجتمع عبر الزمن. ولعل خير دليل على احتواء هذه الأمثال على تجربة انسانية متجددة، هو بقاء عدد كبير من هذه الأمثال متداولا ومحددا في تبني وبناء منظومة متكاملة من التفكير والعيش إلى عصرنا الحالي.
ولعل الحديث عن بناء الأمثال الشعبية للمؤنث، يجعلنا بالضرورة أمام سيل جارف، لا يتسم بالانسجام والتكامل، فتطالعنا أمثال شعبية تعارضها أمثال أخرى، وعلة ذلك كما أوضحنا سابقا هو كون إنتاج المثل مبني في منطلقه على شأن فردي، تحتضنه الجماعة فيما بعض لتصوغ رؤيتها للعالم. لكن كل هذا لا يمنع من القول أن السمة الغالبة على الأمثال الشعبية هي انتاج وتبرير الهيمنة وتعزيز التفاوت بين مكانة الذكورة والأنوثة.
ومن الأمثال الشائعة التداول في سياقات متنوعة، نذكر : "الرابح من المرا والخاسر من المرا". والذي يتضمن إشارة واضحة إلى أن وضع الرجل بعد الزواج مرتبط أساسا بزوجته. فإن ساءت أحواله هي المسؤولة، وإن صلحت فهي صاحبة الفضل. ويمكن أن نستشف تصريح الوارد هنا بقوة تأثير الزوجة على حياة الرجل، من منطلق كونها صاحبة التدبير الفعلي للحياة المشتركة.
وعن علاقة الفتاة بوالديها يقال : "اللي ما عندو بنات ما عرفوه باش مات". حيث ينظر للفتاة باعتبارها كاتمة الأسرار و"عمارة الدار" والمعني الأول والأخير بشؤون والديها وأمها على وجه أخص.
في ذات السياق أسيل المداد الكثير حول "الكيد" كصفة أنثوية، وهو ما عبرت عنه عدة أمثال شعبية، منها القائل : "ديرها فالرجال وترجاها ديرها فالمرأة ولا تنساها".
الكيد هنا لصيق بالمرأة، والاقرار جاء صريحا بأن دهائها يفوق دهاء الرجل. ويمكنها أن تنجح في خداعه برجاحة عقلها، وهو ما يتعارض بشكل كلي مع المثل القائل "شاورها ولادير بريها". الذي يعتبر المرأة أقل فطنة وذكاء من الرجل. وبالتالي رأيها لا يحتكم له لأنه ضعيف وهش أمام سلطة الرجل. ومن مستلزمات الرجولة الحقة أن لا يحتكم الرجل الى رأي المرأة خاصة إذا كانت زوجة، وغالبا ما يوصم بأنه "رَاجَلْ لَمْرَا" كتعبير عن تحقيره ونقص رجولته. عكس عبارة "مْراتْ رَاجَلْ" التي ترمز في التداول الشائع إلى الرفع من شأن المرأة، ويتم استعمالها لتأكيد الوقار والاحترام وتجنب أي مساس بتلك المرأة بأفعال من قبيل التحرش أو ما شابه.

***





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى