يطرب الطفل إلى الإيقاع المتكرر، والوَقْع المتناغم غير المركب؛ ففي مرحلة مبكرة نلحظ كيف يُرهِفُ الطفل سَمْعَه لوقْع أقدام أمه على الأرض في صورة سمعية متكررة متشابهة، وكيف ينتبه لغناء الأم له فيهدأ ويسكن إلى ذلك التناغم، وكيف يعود إلى بكائه إذا ما توقفت الأم عن غنائها الهادئ المسترسل، وفي مرحلة تالية نراه يتجاوب مع الإيقاع المتشابه للأناشيد، فيتمايل في حركة تتوافق في بطئها وسرعتها مع درجة الإيقاع الصوتي للكلمات من خلال التنغيم والنبر والامتداد الزمني لنطق الجمل والوحدات الإيقاعية، ويظل ذلك التجاوب مع الإيقاع ملازمًا للإنسان على مدار مراحله العمرية، فيطرب للغناء ووَقْع الموسيقى، وكثيرًا ما يُترجم بعضنا ذلك الطرب وهو يستمع إلى أغنية أو نشيد حماسي إلى رَبْتٍ متناسق بباطن الكف على رِجليه، أو على حافة مكتبه، أو بدقّ الأقدام على الأرض، أو حتى بتحريك الأصابع بشكل يتوافق مع درجات التماوج الموسيقي ووَقْع الكلمات، وقد يصل الطرب ببعض المستمعين (أو بالأحرى بالسمِّيعة المفتونين بأداء بعض القُرّاء أو المطربين) إلى رفع الأصوات، وإطلاق صيحات الإعجاب.
كل ذلك الطرب إلى الإيقاع والنغم نشاهده ونعايشه كل يوم، وإذا كان في بعض النصوص النثرية إيقاعٌ داخليّ، فإن الإيقاع الموقَّع المتماوج قرين الشعر لا النثر، وذلك الضرب من الإيقاع هو سرّ قَبول الأطفال للشعر والأناشيد والإقبال عليهما وحفظهما، وهو سر بقاء ذلك المخزون اللغوي النغمي في الذاكرة مهما تقدم بنا العُمر، وعدَت على الذاكرة عوادي النسيان.
إن إنشاد الشعر في مراحل الطفولة المبكرة إنشادًا جماعيًّا داخل أروقة المدارس هو أحد أسباب اكتساب ذلك المخزون اللغوي الشعري، ولو راح كلُّ مَن فارق طَوْر الطفولة والشباب يتلمّس مخزونه اللغوي لوجد أن ما كان ينشده برفقة زملائه في المراحل المبكرة ما زال غضًّا ناصعًا في زوايا الذاكرة، يستدعيه بشكل تلقائي إذا ما أراد أن يعبّر عمَّا يخالجه تعبيرًا وظيفيًّا، أو تعبيرًا فنيًّا جماليًّا.
لا شك أن أكثر ما يلائم المراحل العمرية والتعليمية الأولى هو ذلك الشعر الذي تغلب عليه الأوزان الموسيقية التي تتسم بالتتابع النغمي من خلال تكرار قالب وزني قصير متكرر، وهو ما يتحقق بإيقاعات البحور الشعرية البسيطة في أناشيد الطفولة المبكرة، وفي شعر الأطفال في مراحل التعليم الأولى، كما يتجلى بشكل واضح في أشعار أحمد شوقي، وسليمان العيسى، وغيرهما.
لكنّ التحدي الأكبر أمامنا الآن هو أن المدرسة لم تعد الرافدَ الوحيد لاكتساب الطفل العربي للغة، كما كانت عليه منذ أكثر من نصف قرن، بل غَدَت تشاركها الآن روافد أكثر قوة وتأثيرًا؛ نحو الألعاب الإلكترونية الموجهة للأطفال، سواء أكانت في صورة تطبيقات على الهواتف المحمولة، أم في صورة مواقع إلكترونية على شبكة الإنترنت، ونحو البرامج التلفزيونية التي تستهدف الأطفال، وخاصة برامج الكرتون أو الرسوم المتحركة.
وإذا ذهبنا الآن نرتب تلك الروافد من الأعلى إلى الأدنى تأثيرًا في اكتساب الطفل العربي للغة سنجد أن دور المدرسة هو أدناها تأثيرًا؛ ذلك لأن وسائل التعليم في كثير من مدارسنا في العالم العربي ما زالت وسائل تقليدية لا تستطيع مجاراة ذلك التطور التكنولوجي الذي وصل إلى حد توظيف الذكاء الاصطناعي في مجالات لم نكن نتخيل يومًا أن الذكاء الاصطناعي سوف يغزوها، فأين الشعر ودوره في اكتساب الطفل العربي للغة في هذا السياق الإلكتروني؟
لقد كان الشعر قطب الرحى في التنشئة اللغوية للطفل، وكان لحفظ أشعار الأطفال لكبار الشعراء دورٌ في اكتساب الطفل العربي اللغة على مستوى المفردات والتراكيب، فضلًا عما كانت تحمله تلك الأناشيد من جوانب تربوية، وما تنطوي عليه من مآلات سلوكية لدى الأطفال، لكن هذا الدور قد تراجع اليوم بشكل كبير في عالمنا العربي، وهو ما ينذرنا بأزمة في عملية التنشئة اللغوية للطفل، وينبّهنا إلى ضرورة غزو تلك الفضاءات الإلكترونية ببرامج وتطبيقات إلكترونية رديفة للتعليم المدرسي، وبعض تلك البرامج والتطبيقات لا بد أن تُقدِّم الأنشودة أو النص الشعري في صورة مُمَسْرَحة أو مُمَثَّلة تمثيلًا كرتونيًّا، أو في صورة ألعاب إلكترونية، وأن يُعَدّ المعلم إعدادًا جيدًا لاستيعاب طرق تعليمية جديدة يُقدَّم من خلالها المحتوى الشعري لتلك البرامج والتطبيقات تقديمًا محببًا لدى الأطفال من خلال الأنشطة الصفيّة وغير الصفيّة، وأن ترتبط تلك التطبيقات والبرامج بالكتاب المدرسي من خلال روابط وأيقونات في صيغة QR Code يمكن فتحها من خلال تمرير عدسات الجوال أو الآيباد الذي ينبغي ألا تخلو منه حقيبة كل طالب.
ولأنني شاعر ومهتم بشعر الأطفال في بعض بحوثي الأكاديمية، فإنني أرى أن هناك أزمة أخرى لا يلتفت إليها واضعو المناهج؛ لتعلقها بعملية إبداع الشعر ونقده، تتمثل تلك الأزمة في كيفية إبداع الأنشودة أو النص الشعري الموجه للطفل؛ إذ يخلط كثير من الشعراء بين (شعر الأطفال) و(الشعر عن الأطفال)، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى هناك مشكلة حقيقية في كيفية بناء النص الشعري الذي يلائم كل مرحلة عمرية على حدة، وكيفية انتقاء المفردات من حقل الطفولة، وكيفية صياغة التراكيب المناسبة لكل مرحلة، وكيفية استغلال الإمكانات الإيقاعية وتعانقها مع المستويات المعجمية والتركيبية لتقديم نص يبدو في ظاهره سهلًا، لكنه في الواقع نتاج عناء إبداعي وفكري حقيقي؛ ففي نشيد يتسم بالخفة والرشاقة الموسيقية، يلائم تلاميذ مرحلة الروضة، وعنوانه (حروفنا الجميلة) يقول الشاعر السوري «سليمان العيسى» في مطلعه:
ألِفٌ أبني
باءٌ بلدي
بيدي بيدي أبني بلدي
استطاع الشاعر -في هذا المقطع- توظيف بنية التكرار (على مستوى الصوت والكلمة والبنية الإيقاعية) فازدادت طربية الإيقاع في نشيد يقدم للطفل في مرحلة مبكرة من عمره؛ بل استطاع بذكاء أن يختار كلمة تبدأ بحرفي الألف والباء في كلمة (أبني) لينتقل من خلال المقطع الصوتي الأول منها (أب) من التمثيل لحرف الألف إلى التمثيل لحرف الباء، ثم يكرر حرف الباء في الكلمات التالية التي يمثل فيها لذلك الحرف كما يتضح من كلمات (باء – بلدي – بيدي – بيدي – أبني – بلدي)، ويتأكد ذلك الطرب من خلال تكرار كل كلمة من هذه الكلمات (أبني – بلدي - بيدي) مرتين.
أمَّا على مستوى الإيقاع فقد اختار الشاعر إيقاع بحر المتدارك المجزوء، مُراوحًا بين النغمتين (دَدَدَنْ) و(دَنْ دَنْ)، وهو إيقاع سهل متتابع في شكل موسيقي موقّع محبب لدى الأطفال، وكلتا النغمتين السابقتين تتألفان من شكل موسيقي يسير، بخلاف النغمة (دَنْ دَدَنْ) التي تتكون من نغمة أشدّ ثِقَلًا تعمل على إبطاء الإيقاع، وقد أشار
«حازم القرطاجني» إلى أن هذا النوع من النغمات الإيقاعية يؤدي إلى الاتساق والتماثل، و«من شأن النفس أن تستطيبه ويداخلها التعجب من تأتّي نسقه، واطّراد هيئاته وترتيباته المحفوظة».
فإذا ما وافقت الكلمات المنطوقة إيقاع الوحدات الموسيقية، بأن تنتهي كل وحدة موسيقية عند نهاية كلمة، فهذا أدعى لمزيد من الطرب على أسماع الأطفال؛ إذ يميل الطفل إلى الكلمات الموقَّعة المتشابهة الإيقاع في تلك السن المبكرة.
وفي المقطع المشار إليه آنفًا من مقاطع نشيد سليمان العيسى، وردت كل وحدة موسيقية متوافقةً مع كلمة من كلمات المقطع الشعري؛ هكذا: (ألفٌ/ دَدَدَنْ- أبني/ دَنْ دَنْ- باءٌ/ دَنْ دَنْ- بلدي/دَدَدَنْ- بيدي/ دَدَدَنْ- بيدي/ دَدَدَنْ- أبني/ دَنْ دَنْ- بلدي/ دَدَدَنْ) وهذا التوافق يضفي على الإيقاع اطرادًا وموسيقية محببة لدى الطفل؛ إذ «كلما وردت أنواع الشيء وضروبه مترتبةً على نظام متشاكل، وتأليف متناسب، كان ذلك أدعى لتعجيب النفس وإيلاعها بالاستماع من الشيء، ووقع منها الموقع الذي ترتاح إليه».
وعلى الرغم من أن الشاعر قد وفق في المقطع السابق، فإن التوفيق لم يحالفه على مدار مقاطع النشيد كلها، ففي هذا المقطع:
جيـــــمٌ حاءْ خـــــاءٌ دالْ
هيّا ننشدْ يا أطفالْ
لجأ إلى تقييد القوافي (أي الوقف عليها بالسكون) فاضطرب ذلك الإيقاع في ثلاث وحدات موسيقية، تحول فيها الإيقاع إلى نغمة (دَنْ نْ) في قوله: (حاءْ، دالْ، فالْ)، وعلى الرغم من أن هذا التغيير تغيير موسيقي سليم لدى دارسي موسيقى الشعر، فإنّ هذا التغيير لا يحسن في كل موضع، ففي الموضع السابق لو لم يعدِل الشاعر إلى ذلك التغيير الإيقاعي لكان أفضل؛ إذ لو جاءت الوحدات الموسيقية في صورة (دَدَدَنْ) أو (دَنْ دَنْ) لسار النشيد على النمط الإيقاعي الذي اختاره الشاعر لمطلع النشيد من قبل في قوله:
ألـفٌ بــاءُ تــاءٌ ثــاءُ
هيّا نقرأْ يا هيفاءُ
والمقطعان كما نرى متوازيان في البنية النحوية:
ولو قال:
جيـــمٌ حــاءٌ خـــــاءٌ دالُ
هيّا ننشدْ يا أطفالُ
لتتابع الإيقاع مُطرِبًا، ولتأكَّد لدى الطفل نطق المنادى بضم آخره في (يا هيفاءُ / يا أطفالُ) عن طريق السماع لا القياس النحوي بالطبع، وتلك الغاية غاية تبدو هامشية في تلك السنّ، لكنها إذا جاءت دون افتعال وتكررت كان أجدى وأنفع في بناء سليقة الطفل اللغوية.
إلا أن هذه الوحدة الموسيقية (دَنْ نْ) قد تَحسُن في بعض المواطن كما في هذا المقطع:
حَيَّــيـْنــاهْ صافَحـــناهْ
قلـــنا أهـــلًا يا عَـمَّـــاهْ
والوحدات الموسيقية للبيتين السابقين، هي:
(دَنْ دَنْ، دَنْ نْ - دَنْ دَنْ، دَنْ نْ)
وسر حسنها لا يرجع إلى ماهيتها، بل إلى وجود عامل إيقاعي آخر مساعد يتمثل في تلك القافية المتمثلة في الهاء الساكنة المسبوقة بالألف، وزاد من إيقاعيتها التزام النون قبل الألف في شطري البيت الأول، ثم العدول عنها إلى الميم المشددة في كلمة (عمَّاه)، والميم والنون كلاهما صوت أنفي أغنّ مُطرِب، كل أولئك كان له أثر في عدم نفور مثل تلك الوحدات الموسيقية إيقاعيًّا.
وعلى الرغم من ذلك الحسن النغمي، فإن الشاعر لو أطلق القافية (أي جاءت بحرف الهاء مضمومًا) لكان أحسن وأكثرَ إطرابًا؛ وما ذاك إلا لأن الوحدات الموسيقية آنذاك ستتوالى جميعها على هذا النحو (دَنْ دَنْ، دَنْ دَنْ،...) في نغمة خفيفة متوالية مطربة.
لكن الإيقاع يضطرب أشد ما يكون الاضطراب في السطر الثاني من هذا المقطع:
خـــاءٌ خـــالـي
رَجُلُ فِعَـالِ
إذ توالت خمسة متحركات هكذا (رَجُلُ فِعَالِيْ/ دَدَدَدَ دَنْ دَنْ)، في عبارة نثرية مفرطة في نثريتها وثقلها، فضلًا عن اختيار كلمة (فِعَال) وهي مفردة معجمية بعيدة عن عالم الأطفال، فازداد هذا المقطع بذلك الاختيار غموضًا في المعنى، ونثريّة في الإيقاع، وثِقَلًا في الأداء.
وهكذا يتتبع الشاعر في هذا النشيد حروف الأبجدية، معبرًا عن كل حرف بمقطع إنشادي قصير؛ وقد وُفق الشاعر في بعض تلك المقاطع، في حين أنه لم يوفق في مقاطع أخرى كما رأينا؛ ومن ثم يأتي دور واضعي المناهج الذين ينبغي أن يختاروا من الأناشيد بعض المقاطع دون بعض، وألا يكون اختياره مبنيًّا على الإحاطة بالأسس التربوية واللغوية فحسب، بل مبنيًّا كذلك على معرفةٍ إيقاعيةٍ، وعلى وعي بدور الإيقاع في طربيّة النشيد؛ فمن الإيقاع ما يؤدي إلى الإطْراب، ومنه ما يَؤُول إلى الاضطراب؛ فيكون سببًا في نفور الأطفال من هذا الضرب من الشعر، لا لشيء إلا بسبب إيقاعه المضطرب غير المنسجم.
لا يتوقف دور التتابع الإيقاعي المنسجم في شعر الأطفال عند حد الإطراب، بل يكون بابًا مهمًّا إلى اكتساب بعض المفردات الفصيحة المُغرقة في الفصاحة، وكذلك اكتساب تراكيب نحوية غير شائعة على الألسنة، مما لا يمكن اكتسابه من خلال قصة نثرية.
مثلًا: كما في قول أحمد شوقي في بعض أناشيده الملائمة لمرحلة متقدمة من مراحل التعليم الابتدائي:
النيلُ العذبُ هو الكوثرْ والجنـــةُ شـــاطئُــــه الأخضــــرْ
ريّانُ الصفحةِ والمنظرْ ما أبـــهى الخلـــدَ ومــــا أنضــرْ
البحرُ الفياضُ القُــــدسُ الساقي الناسَ وما غرسوا
وهو المنوالُ لما لبِـسوا والـــمُنعِمُ بالقطن الأنــــــورْ
جارٍ ويُـرى ليــــــــس بجارِ لأنـــــــــــــاةٍ فــيـــهِ ووقـــــــــــــــــــــــارِ
ينصــَــــبُّ كَــــتَلٍّ مُــنهــــارِ ويضِـــــــــــجُّ فتحــــــــسَـــــبُهُ يَزْأَرْ
فعلى مستوى المفردات أورد أحمد شوقي كلمة (أنضر) على زِنة (أفعل) التفضيل، من (النضارة) بمعنى الجمال والنعومة والحُسن، وكذلك كلمة (أَنَاة)، وهما كلمتان ليستا متداولتين على ألسنة الناس، لكن كان لهذا الشعر دور في اكتسابهما لوقوعهما في إطار إيقاعي منسجم.
وعلى مستوى التراكيب احتوت هذه الأبيات من النشيد على صيغ وتراكيب نحوية تكاد تكون مهجورة على ألسنة المتكلمين باللغة المنطوقة، وعلى أقلام كُتّاب النصوص النثرية؛ نحو صيغة التعجب (ما أفعلَه) في قوله: (ما أبهى الخلد) و(ما أنضر)، واستعمال حرف الجر الزائد في قوله: (ليس بجارِ)، بل استعمل شوقي أسلوبًا لا يُستعمل إلا على مستويات عالية من الاستعمال اللغوي المغرق في الفصاحة، وهو الإتيان باسم الفاعل العامل عمل فعله (الساقي) ناصبًا كلمة (الناسَ) على أنها مفعول به.
مما لا شك فيه أن هذه الأساليب والتراكيب النحوية سائغة مقبولة لدى الأطفال المستهدفين بهذا النشيد، ولن يجد أحدٌ منهم غرابة في استعمالها، والفضل كله إنما يعود إلى صياغتها في قالَب شعري مُمَوسَق في إيقاع طربيّ.
هذا كله يعمل على اكتساب الأطفال لتلك التراكيب بشكل غير مباشر، فإذا ما تكررت على آذان الأطفال عدة مرات في أناشيد أخرى تحولت لاحقًا على ألسنتهم إلى سليقة لغوية، وحينئذ يسهم الشعر في اكتساب اللغة عند الأطفال على مستوى المفردات والتراكيب والصور والأخيلة.
وختامًا، لأن الشعر له تلك الأهمية، لا في اكتساب اللغة فحسب، بل في البناء العقلي والنفسي والفكري للطفل، فإننا نعوّل في بناء ذخيرة لغوية للطفل العربي، يكون الشعر قوامها وركيزتها، على التربويين وواضعي المناهج، والشعراء ومعلمي المدارس الابتدائية، لرَفْد المناهج التعليمية بنصوص شعرية ملائمة، وتخصيص كراسة أو كُتيّب للمحفوظات يحتوي على نصوص شعرية رديفة يتجلى فيها ذلك النغم الموقَّع، وتترسخ من خلالها الأهداف اللغوية والتربوية التي نصبو إليها.
كل ذلك الطرب إلى الإيقاع والنغم نشاهده ونعايشه كل يوم، وإذا كان في بعض النصوص النثرية إيقاعٌ داخليّ، فإن الإيقاع الموقَّع المتماوج قرين الشعر لا النثر، وذلك الضرب من الإيقاع هو سرّ قَبول الأطفال للشعر والأناشيد والإقبال عليهما وحفظهما، وهو سر بقاء ذلك المخزون اللغوي النغمي في الذاكرة مهما تقدم بنا العُمر، وعدَت على الذاكرة عوادي النسيان.
إن إنشاد الشعر في مراحل الطفولة المبكرة إنشادًا جماعيًّا داخل أروقة المدارس هو أحد أسباب اكتساب ذلك المخزون اللغوي الشعري، ولو راح كلُّ مَن فارق طَوْر الطفولة والشباب يتلمّس مخزونه اللغوي لوجد أن ما كان ينشده برفقة زملائه في المراحل المبكرة ما زال غضًّا ناصعًا في زوايا الذاكرة، يستدعيه بشكل تلقائي إذا ما أراد أن يعبّر عمَّا يخالجه تعبيرًا وظيفيًّا، أو تعبيرًا فنيًّا جماليًّا.
لا شك أن أكثر ما يلائم المراحل العمرية والتعليمية الأولى هو ذلك الشعر الذي تغلب عليه الأوزان الموسيقية التي تتسم بالتتابع النغمي من خلال تكرار قالب وزني قصير متكرر، وهو ما يتحقق بإيقاعات البحور الشعرية البسيطة في أناشيد الطفولة المبكرة، وفي شعر الأطفال في مراحل التعليم الأولى، كما يتجلى بشكل واضح في أشعار أحمد شوقي، وسليمان العيسى، وغيرهما.
لكنّ التحدي الأكبر أمامنا الآن هو أن المدرسة لم تعد الرافدَ الوحيد لاكتساب الطفل العربي للغة، كما كانت عليه منذ أكثر من نصف قرن، بل غَدَت تشاركها الآن روافد أكثر قوة وتأثيرًا؛ نحو الألعاب الإلكترونية الموجهة للأطفال، سواء أكانت في صورة تطبيقات على الهواتف المحمولة، أم في صورة مواقع إلكترونية على شبكة الإنترنت، ونحو البرامج التلفزيونية التي تستهدف الأطفال، وخاصة برامج الكرتون أو الرسوم المتحركة.
وإذا ذهبنا الآن نرتب تلك الروافد من الأعلى إلى الأدنى تأثيرًا في اكتساب الطفل العربي للغة سنجد أن دور المدرسة هو أدناها تأثيرًا؛ ذلك لأن وسائل التعليم في كثير من مدارسنا في العالم العربي ما زالت وسائل تقليدية لا تستطيع مجاراة ذلك التطور التكنولوجي الذي وصل إلى حد توظيف الذكاء الاصطناعي في مجالات لم نكن نتخيل يومًا أن الذكاء الاصطناعي سوف يغزوها، فأين الشعر ودوره في اكتساب الطفل العربي للغة في هذا السياق الإلكتروني؟
لقد كان الشعر قطب الرحى في التنشئة اللغوية للطفل، وكان لحفظ أشعار الأطفال لكبار الشعراء دورٌ في اكتساب الطفل العربي اللغة على مستوى المفردات والتراكيب، فضلًا عما كانت تحمله تلك الأناشيد من جوانب تربوية، وما تنطوي عليه من مآلات سلوكية لدى الأطفال، لكن هذا الدور قد تراجع اليوم بشكل كبير في عالمنا العربي، وهو ما ينذرنا بأزمة في عملية التنشئة اللغوية للطفل، وينبّهنا إلى ضرورة غزو تلك الفضاءات الإلكترونية ببرامج وتطبيقات إلكترونية رديفة للتعليم المدرسي، وبعض تلك البرامج والتطبيقات لا بد أن تُقدِّم الأنشودة أو النص الشعري في صورة مُمَسْرَحة أو مُمَثَّلة تمثيلًا كرتونيًّا، أو في صورة ألعاب إلكترونية، وأن يُعَدّ المعلم إعدادًا جيدًا لاستيعاب طرق تعليمية جديدة يُقدَّم من خلالها المحتوى الشعري لتلك البرامج والتطبيقات تقديمًا محببًا لدى الأطفال من خلال الأنشطة الصفيّة وغير الصفيّة، وأن ترتبط تلك التطبيقات والبرامج بالكتاب المدرسي من خلال روابط وأيقونات في صيغة QR Code يمكن فتحها من خلال تمرير عدسات الجوال أو الآيباد الذي ينبغي ألا تخلو منه حقيبة كل طالب.
ولأنني شاعر ومهتم بشعر الأطفال في بعض بحوثي الأكاديمية، فإنني أرى أن هناك أزمة أخرى لا يلتفت إليها واضعو المناهج؛ لتعلقها بعملية إبداع الشعر ونقده، تتمثل تلك الأزمة في كيفية إبداع الأنشودة أو النص الشعري الموجه للطفل؛ إذ يخلط كثير من الشعراء بين (شعر الأطفال) و(الشعر عن الأطفال)، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى هناك مشكلة حقيقية في كيفية بناء النص الشعري الذي يلائم كل مرحلة عمرية على حدة، وكيفية انتقاء المفردات من حقل الطفولة، وكيفية صياغة التراكيب المناسبة لكل مرحلة، وكيفية استغلال الإمكانات الإيقاعية وتعانقها مع المستويات المعجمية والتركيبية لتقديم نص يبدو في ظاهره سهلًا، لكنه في الواقع نتاج عناء إبداعي وفكري حقيقي؛ ففي نشيد يتسم بالخفة والرشاقة الموسيقية، يلائم تلاميذ مرحلة الروضة، وعنوانه (حروفنا الجميلة) يقول الشاعر السوري «سليمان العيسى» في مطلعه:
ألِفٌ أبني
باءٌ بلدي
بيدي بيدي أبني بلدي
استطاع الشاعر -في هذا المقطع- توظيف بنية التكرار (على مستوى الصوت والكلمة والبنية الإيقاعية) فازدادت طربية الإيقاع في نشيد يقدم للطفل في مرحلة مبكرة من عمره؛ بل استطاع بذكاء أن يختار كلمة تبدأ بحرفي الألف والباء في كلمة (أبني) لينتقل من خلال المقطع الصوتي الأول منها (أب) من التمثيل لحرف الألف إلى التمثيل لحرف الباء، ثم يكرر حرف الباء في الكلمات التالية التي يمثل فيها لذلك الحرف كما يتضح من كلمات (باء – بلدي – بيدي – بيدي – أبني – بلدي)، ويتأكد ذلك الطرب من خلال تكرار كل كلمة من هذه الكلمات (أبني – بلدي - بيدي) مرتين.
أمَّا على مستوى الإيقاع فقد اختار الشاعر إيقاع بحر المتدارك المجزوء، مُراوحًا بين النغمتين (دَدَدَنْ) و(دَنْ دَنْ)، وهو إيقاع سهل متتابع في شكل موسيقي موقّع محبب لدى الأطفال، وكلتا النغمتين السابقتين تتألفان من شكل موسيقي يسير، بخلاف النغمة (دَنْ دَدَنْ) التي تتكون من نغمة أشدّ ثِقَلًا تعمل على إبطاء الإيقاع، وقد أشار
«حازم القرطاجني» إلى أن هذا النوع من النغمات الإيقاعية يؤدي إلى الاتساق والتماثل، و«من شأن النفس أن تستطيبه ويداخلها التعجب من تأتّي نسقه، واطّراد هيئاته وترتيباته المحفوظة».
فإذا ما وافقت الكلمات المنطوقة إيقاع الوحدات الموسيقية، بأن تنتهي كل وحدة موسيقية عند نهاية كلمة، فهذا أدعى لمزيد من الطرب على أسماع الأطفال؛ إذ يميل الطفل إلى الكلمات الموقَّعة المتشابهة الإيقاع في تلك السن المبكرة.
وفي المقطع المشار إليه آنفًا من مقاطع نشيد سليمان العيسى، وردت كل وحدة موسيقية متوافقةً مع كلمة من كلمات المقطع الشعري؛ هكذا: (ألفٌ/ دَدَدَنْ- أبني/ دَنْ دَنْ- باءٌ/ دَنْ دَنْ- بلدي/دَدَدَنْ- بيدي/ دَدَدَنْ- بيدي/ دَدَدَنْ- أبني/ دَنْ دَنْ- بلدي/ دَدَدَنْ) وهذا التوافق يضفي على الإيقاع اطرادًا وموسيقية محببة لدى الطفل؛ إذ «كلما وردت أنواع الشيء وضروبه مترتبةً على نظام متشاكل، وتأليف متناسب، كان ذلك أدعى لتعجيب النفس وإيلاعها بالاستماع من الشيء، ووقع منها الموقع الذي ترتاح إليه».
وعلى الرغم من أن الشاعر قد وفق في المقطع السابق، فإن التوفيق لم يحالفه على مدار مقاطع النشيد كلها، ففي هذا المقطع:
جيـــــمٌ حاءْ خـــــاءٌ دالْ
هيّا ننشدْ يا أطفالْ
لجأ إلى تقييد القوافي (أي الوقف عليها بالسكون) فاضطرب ذلك الإيقاع في ثلاث وحدات موسيقية، تحول فيها الإيقاع إلى نغمة (دَنْ نْ) في قوله: (حاءْ، دالْ، فالْ)، وعلى الرغم من أن هذا التغيير تغيير موسيقي سليم لدى دارسي موسيقى الشعر، فإنّ هذا التغيير لا يحسن في كل موضع، ففي الموضع السابق لو لم يعدِل الشاعر إلى ذلك التغيير الإيقاعي لكان أفضل؛ إذ لو جاءت الوحدات الموسيقية في صورة (دَدَدَنْ) أو (دَنْ دَنْ) لسار النشيد على النمط الإيقاعي الذي اختاره الشاعر لمطلع النشيد من قبل في قوله:
ألـفٌ بــاءُ تــاءٌ ثــاءُ
هيّا نقرأْ يا هيفاءُ
والمقطعان كما نرى متوازيان في البنية النحوية:
ولو قال:
جيـــمٌ حــاءٌ خـــــاءٌ دالُ
هيّا ننشدْ يا أطفالُ
لتتابع الإيقاع مُطرِبًا، ولتأكَّد لدى الطفل نطق المنادى بضم آخره في (يا هيفاءُ / يا أطفالُ) عن طريق السماع لا القياس النحوي بالطبع، وتلك الغاية غاية تبدو هامشية في تلك السنّ، لكنها إذا جاءت دون افتعال وتكررت كان أجدى وأنفع في بناء سليقة الطفل اللغوية.
إلا أن هذه الوحدة الموسيقية (دَنْ نْ) قد تَحسُن في بعض المواطن كما في هذا المقطع:
حَيَّــيـْنــاهْ صافَحـــناهْ
قلـــنا أهـــلًا يا عَـمَّـــاهْ
والوحدات الموسيقية للبيتين السابقين، هي:
(دَنْ دَنْ، دَنْ نْ - دَنْ دَنْ، دَنْ نْ)
وسر حسنها لا يرجع إلى ماهيتها، بل إلى وجود عامل إيقاعي آخر مساعد يتمثل في تلك القافية المتمثلة في الهاء الساكنة المسبوقة بالألف، وزاد من إيقاعيتها التزام النون قبل الألف في شطري البيت الأول، ثم العدول عنها إلى الميم المشددة في كلمة (عمَّاه)، والميم والنون كلاهما صوت أنفي أغنّ مُطرِب، كل أولئك كان له أثر في عدم نفور مثل تلك الوحدات الموسيقية إيقاعيًّا.
وعلى الرغم من ذلك الحسن النغمي، فإن الشاعر لو أطلق القافية (أي جاءت بحرف الهاء مضمومًا) لكان أحسن وأكثرَ إطرابًا؛ وما ذاك إلا لأن الوحدات الموسيقية آنذاك ستتوالى جميعها على هذا النحو (دَنْ دَنْ، دَنْ دَنْ،...) في نغمة خفيفة متوالية مطربة.
لكن الإيقاع يضطرب أشد ما يكون الاضطراب في السطر الثاني من هذا المقطع:
خـــاءٌ خـــالـي
رَجُلُ فِعَـالِ
إذ توالت خمسة متحركات هكذا (رَجُلُ فِعَالِيْ/ دَدَدَدَ دَنْ دَنْ)، في عبارة نثرية مفرطة في نثريتها وثقلها، فضلًا عن اختيار كلمة (فِعَال) وهي مفردة معجمية بعيدة عن عالم الأطفال، فازداد هذا المقطع بذلك الاختيار غموضًا في المعنى، ونثريّة في الإيقاع، وثِقَلًا في الأداء.
وهكذا يتتبع الشاعر في هذا النشيد حروف الأبجدية، معبرًا عن كل حرف بمقطع إنشادي قصير؛ وقد وُفق الشاعر في بعض تلك المقاطع، في حين أنه لم يوفق في مقاطع أخرى كما رأينا؛ ومن ثم يأتي دور واضعي المناهج الذين ينبغي أن يختاروا من الأناشيد بعض المقاطع دون بعض، وألا يكون اختياره مبنيًّا على الإحاطة بالأسس التربوية واللغوية فحسب، بل مبنيًّا كذلك على معرفةٍ إيقاعيةٍ، وعلى وعي بدور الإيقاع في طربيّة النشيد؛ فمن الإيقاع ما يؤدي إلى الإطْراب، ومنه ما يَؤُول إلى الاضطراب؛ فيكون سببًا في نفور الأطفال من هذا الضرب من الشعر، لا لشيء إلا بسبب إيقاعه المضطرب غير المنسجم.
لا يتوقف دور التتابع الإيقاعي المنسجم في شعر الأطفال عند حد الإطراب، بل يكون بابًا مهمًّا إلى اكتساب بعض المفردات الفصيحة المُغرقة في الفصاحة، وكذلك اكتساب تراكيب نحوية غير شائعة على الألسنة، مما لا يمكن اكتسابه من خلال قصة نثرية.
مثلًا: كما في قول أحمد شوقي في بعض أناشيده الملائمة لمرحلة متقدمة من مراحل التعليم الابتدائي:
النيلُ العذبُ هو الكوثرْ والجنـــةُ شـــاطئُــــه الأخضــــرْ
ريّانُ الصفحةِ والمنظرْ ما أبـــهى الخلـــدَ ومــــا أنضــرْ
البحرُ الفياضُ القُــــدسُ الساقي الناسَ وما غرسوا
وهو المنوالُ لما لبِـسوا والـــمُنعِمُ بالقطن الأنــــــورْ
جارٍ ويُـرى ليــــــــس بجارِ لأنـــــــــــــاةٍ فــيـــهِ ووقـــــــــــــــــــــــارِ
ينصــَــــبُّ كَــــتَلٍّ مُــنهــــارِ ويضِـــــــــــجُّ فتحــــــــسَـــــبُهُ يَزْأَرْ
فعلى مستوى المفردات أورد أحمد شوقي كلمة (أنضر) على زِنة (أفعل) التفضيل، من (النضارة) بمعنى الجمال والنعومة والحُسن، وكذلك كلمة (أَنَاة)، وهما كلمتان ليستا متداولتين على ألسنة الناس، لكن كان لهذا الشعر دور في اكتسابهما لوقوعهما في إطار إيقاعي منسجم.
وعلى مستوى التراكيب احتوت هذه الأبيات من النشيد على صيغ وتراكيب نحوية تكاد تكون مهجورة على ألسنة المتكلمين باللغة المنطوقة، وعلى أقلام كُتّاب النصوص النثرية؛ نحو صيغة التعجب (ما أفعلَه) في قوله: (ما أبهى الخلد) و(ما أنضر)، واستعمال حرف الجر الزائد في قوله: (ليس بجارِ)، بل استعمل شوقي أسلوبًا لا يُستعمل إلا على مستويات عالية من الاستعمال اللغوي المغرق في الفصاحة، وهو الإتيان باسم الفاعل العامل عمل فعله (الساقي) ناصبًا كلمة (الناسَ) على أنها مفعول به.
مما لا شك فيه أن هذه الأساليب والتراكيب النحوية سائغة مقبولة لدى الأطفال المستهدفين بهذا النشيد، ولن يجد أحدٌ منهم غرابة في استعمالها، والفضل كله إنما يعود إلى صياغتها في قالَب شعري مُمَوسَق في إيقاع طربيّ.
هذا كله يعمل على اكتساب الأطفال لتلك التراكيب بشكل غير مباشر، فإذا ما تكررت على آذان الأطفال عدة مرات في أناشيد أخرى تحولت لاحقًا على ألسنتهم إلى سليقة لغوية، وحينئذ يسهم الشعر في اكتساب اللغة عند الأطفال على مستوى المفردات والتراكيب والصور والأخيلة.
وختامًا، لأن الشعر له تلك الأهمية، لا في اكتساب اللغة فحسب، بل في البناء العقلي والنفسي والفكري للطفل، فإننا نعوّل في بناء ذخيرة لغوية للطفل العربي، يكون الشعر قوامها وركيزتها، على التربويين وواضعي المناهج، والشعراء ومعلمي المدارس الابتدائية، لرَفْد المناهج التعليمية بنصوص شعرية ملائمة، وتخصيص كراسة أو كُتيّب للمحفوظات يحتوي على نصوص شعرية رديفة يتجلى فيها ذلك النغم الموقَّع، وتترسخ من خلالها الأهداف اللغوية والتربوية التي نصبو إليها.