يذهب ڨيبر إلى أن دراسة معاني الأفعال الاجتماعية تتطلب وجود أداة منهجية أطلق عليها النموذج المثالي أو الخالص وهو عبارة عن بناء عقلي يتشكل من خلال ظهور أو وضوح سمة أو أكثر يمكن ملاحظتها في الواقع الاجتماعي، وهذا يعني أن رؤية ڨيبر المنهجية تتكون من النموذج المثالي، ونسق المعاني من خلال فهم الفعل الاجتماعي وتأويله.
فإذا كانت العلوم الطبيعية أفقية الطابع من حيث نجاحها في التعميم بفضل القوانين السببية؛ فإن العلوم الاجتماعية عمودية الطابع من حيث إمكان نجاحها في التعميق بفضل الإمكانية الموضوعية (عبد النور، 2017). على اعتبار أن الإمكانية الموضوعية في العلوم الاجتماعية هي أداة تساعد الباحث على تشكيل صورة ذهنية للمواقف وذلك عن طريق عزل بعض المتغيرات لمعرفة مدى تأثرها في تشكيل العنصر الكلي، فإذا تأثر بعزل متغير فإن العلاقة السببية ملائمة، وإذا لم يتأثر فإن العلاقة السببية مصادفة، إلا أن ڨيبر رفض مصطلح السببية الضرورية (عبد النور، 2017). فبعد تحديد مفهوم الإمكانية الموضوعية، نجد أن علاقة منهج الفهم بمنهج التجريب علاقة كل بجزء إذ لا يمكن إدراك الكل إلا بفهم الجزئيات المشكلة للرابط الكلي. فعلى سبيل المثال: لكي يستطيع الباحث رصد معنى قانون في مجتمع ما لا بد له من التطرق إلى جزئيات وبنود القانون، وذلك بتصوره واحتماله لمجموعة من الجزئيات ثم ترجيح التي تشكل الكل، ثم حينها يلتجأ في مرحلة ثانية إلى استخدام الأدوات التقنية التي تختبر مدى صحة احتماله، إن كان قد أغفل إمكانية حضور جزئية في تشكيل الرابط الكلي فبهذا يكون: الذاتي أشمل من التقني وموظف له لا غير، بهذا يتحقق المعنى الفعلي والحقيقي لمفهوم الإمكانية الموضوعية (عبد النور، 2017). بناءً على ما سبق يعتقد ڨيبر أن نشوء الرأسمالية (الواقع) لا يمكن فهمها إلا بالرجوع إلى نمطها المثالي القيم البروتستانتية.
يعرف ڨيبر النموذج المثالي The Ideal Typical بأنه " عبارة عن وصف منطقي متسق من وجهة نظر محددة. بحيث يؤدي ذلك إلى توضيح علاقات الوسائل بغايات الفعل حتى يساعد ذلك الباحث على تجميع الأفكار أو الارتباطات والتفسيرات المتناثرة في إطار قابل للفهم ". " بمعنى آخر، هو عبارة عن بناء أو تشيد عقلي يتشكل من خلال ظهور أو وضوح سمة أو أكثر، أو وجهات نظر يمكن ملاحظتها في الواقع، والذي لا يوجد له نظير في الواقع التجريبي (تيماشيف، 1978: 266). هذا النمط المثالي لأي ظاهرة اجتماعية يكون مصمماً ليساعد في فهم الواقع التجريبي لتلك الظاهرة أو عدة ظواهر وهكذا يمكن استخدام النمط المثالي كأداة من أجل المقارنة بين ظاهرتين أو أكثر أو لقياس مدى تقارب الظاهرة المعطاة من النمط المثالي، فالنموذج أو النمط المثالي عبارة عن المجموع الكلي للمفاهيم التي ينشئها أو يبينها المتخصص في العلوم الإنسانية بصورة نقية وبعيدة عن أي تحيز لتحقيق أهداف البحث (فياض، 2021: 347- 348).
يتمحور هدف النموذج المثالي في تكوين نموذج للظاهرة الاجتماعية أو منظور هادف لها. وبعد ذلك استعمل المفهوم من قبل منظري المنظمات الاجتماعية للإشارة إلى الدراسات التجريبية المتعلقة بالبيروقراطية على سبيل المثال. ولا يحيلنا تعبير المثالي على الجودة والإتقان والحكم الإيجابي، بل هو دليل لبناء الفرضيات، ونموذج لفهم الظواهر المدركة في الواقع، أو تعبير عن الفكر المنظم.
والنموذج المثالي، هو نتاج لعملية تركيبية لمجموعة من السمات والمواصفات لظاهرة مجتمعية ما، تكون مجردة وعامة، وتصنيفها ضمن نموذج فكري وعقلي ومنطقي متسق. وللتمثيل، حينما ندرس البيروقراطية، فإننا ندرسها في مجالات متعددة، وفي أمكنة مختلفة، لكننا نتحدث عنها بطريقة مثالية عامة، بالتركيز على خصائصها ومميزاتها المجردة والمشتركة في عمومها، لقولبتها ضمن نموذج مفهومي ووصفي ما. أضف إلى ذلك أن النموذج المثالي هو نتيجة لمجموعة من المقارنات والعمليات الوصفية لظاهرة مجتمعية ما (فياض، 2021: 348).
وبالتالي، فالمثالي لا علاقة له بالقيمة، بل يرتبط بمنظومة من الخصائص والأوصاف والسمات المشتركة الناتجة عن ملاحظة ظاهرة ما. وبتعبير آخر، يعني النموذج المثالي تجريد أو تحويل الظاهرة المجتمعية المدركة والملاحظة إلى نموذج ذهني مجرد في شكل خصائص ومكونات وسمات مشتركة مجردة وعامة. أي الانتقال من المحسوس إلى المجرد المثالي. فحينما يرصد الملاحظ ظاهرة مدركة ما، ومعزولة، فإنه يختزلها في مجموعة من المكونات والخصائص والسمات العامة والمجردة لبناء نموذجها المثالي والمفهومي.
بذلك يتكون النموذج المثالي من العناصر الرئيسية التالية (فياض، 2021: 349):
1. إنه نظرة جانبية أو جزئية تتم بالنظر إلى الإطار النظري للباحث، وذلك من شأنه أن يترك هامشاً لتأثير التوجيه القيمي للباحث في تحديد العناصر الأساسية للنموذج.
2. إنه يعبّر عن نظرية أحادية يجرد الباحث من خلالها – انتقائياً – العناصر الرئيسية من الظاهرة الواقعية.
3. إن هذه العناصر التي يرى الباحث أنها تشكل العناصر المحورية للواقعة أو الظاهرة موضع الدراسة يتم تأسيسها، بالإضافة إلى بناء العلاقات المنطقية بينهما في إطار نظري له اتساقه المنطقي وقدرته على المساعدة في الفهم والتوضيح. ويجدر الإشارة إلى أن التحديد الإيجابي للنموذج في كونه بناء من العناصر التي جردت عن الواقع والتي وضعت مع بعضها البعض، لكي تشكل نموذجاً تصورياً موحداً.
إذن، فالأنماط السلوكية، كالسلوك العقلي، والسلوك اللا عقلي، والسلوك القيمي العقلي، والسلوك العاطفي، بمثابة نماذج أو أفكار عقلية مثالية: هي مثالية بمعنى أنها ليست صادرة من الحياة الاجتماعية الواقعية، لا بمعنى أنها صادرة من ماهيات مجردة كـ " مثل " أفلاطون على سبيل المثال. إنها نماذج مثالية لكونها مشتقة أساساً من الحقيقة التاريخية، تلك الحقيقة المعقدة جداً، والتي تعتبر هذه التصنيفات السلوكية مجرد تبسيط لها. ومن هنا يدرس علم الاجتماع عند ڨيبر تلك الأنماط الاجتماعية المثالية التي تحدد طبيعة تصورات الإنسان وإدراكاته ومواقفه السلوكية في المجتمع. وإذا كانت هذه الأنماط كامنة حقاً في بنيات المجتمع، فهي مع ذلك، بمثابة أنماط قياسية تحدد السلوك، وتوجه العقل (فياض، 2021: 349- 350).
وعلى رأس هذه الأنماط المحددة للسلوك الموجهة للفعل، توجد القيم الأخلاقية والدينية، ثم العرف والعادات والقانون، بالإضافة إلى أنماط أخرى ذات طبيعة سيكولوجية كالحب والكراهية والحقد... ومهما كان الأمر، وسواء كان العنصر الموجه للسلوك هو هذا النمط أو ذاك، فإن الفعل الاجتماعي الحقيقي عند ڨيبر هو السلوك الهادف المرتبط بغاية معينة. أما السلوك الذي لا هدف له، فهو سلوك لا عقلي، سلوك آلي لا قيمة له من الناحية التاريخية.
بذلك فإن النموذج المثالي أداة تصورية وإجرائية أساسية، أو هو بمثابة منهج، أو مقياس، أو نموذج تركيبي، يُستخدم لوصف الوقائع المجتمعية وتقييمها. بعبارة أخرى هو وسيلة موجهة نحو توضيح معنى الموضوع قيد الدراسة، أي إجراء منهجي خالص يطوره الباحث إرادياً وفقاً لحاجات البحث، ويمكن أن يتخلى عنه إذا لم يؤد وظيفته أو يشبع توقعاته (فياض، 2021: 350).
ويرى أنتوني جيدنز أن " النماذج المثالية هي نماذج مفهومية وتحليلية يمكن استخدامها لفهم العالم. وقلما توجد هذه النماذج في العالم الواقعي. وربما لا توجد على الإطلاق. وفي أغلب الحالات تتضح جوانب أو ملامح قليلة منها في الواقع. غير أن هذه النماذج الافتراضية قد تكون مفيدة جداً، عندما نحاول فهم الأوضاع الفعلية في العالم بمقارنتها بواحد من هذه الأنماط المثالية. وفي هذا السياق تكون النماذج المثالية بمثابة نقطة مرجعية ثابتة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن النموذج المثالي لم يكن يعني بالنسبة إلى ڨيبر أن هذا التصور قد وصل حدود الكمال أو حقق الهدف المنشود. وما كان يعنيه ڨيبر أن النموذج يمثل صورة صافية لظاهرة ما، وقد استخدم ڨيبر هذه النماذج المثالية في تحليله لأشكال البيروقراطية والسوق " (جيدنز، 2005: 71). وللتوضيح بشكل أبسط، فشخصية " البخيل" في مسرحية موليير* شخصية كاريكاتورية، مع أن احتمال أن نلتقيها في الواقع الاجتماعي، لكنها تمثل النمط الأصيل للبخل. هذه الشخصية نموذج مثالي للبخلاء. فالنموذج المثالي هو تشييد فكري لا يعكس الواقع التجريبي المرصود، بل يسمح بتحليل مكوناته وخصائصه. وعليه يتم تحصيل النموذج المثالي عند ڨيبر عبر الربط بين عدد من الظواهر، بتصنيفها وتنظيمها، وترتيبها، ضمن نموذج فكري منسجم ومتسق.
خلاصة القول إن النموذج المثالي عند ڨيبر هو الصورة النقية للظاهرة يقوم ببلورتها علماء الاجتماع عن طريق الانغماس في تحليل المادة التاريخية. وعلى هذا تُفهم الأنماط المثالية بوصفها أدوات إرشادية (تعين على الفهم). الهدف منها تزويدنا بقوالب البحث السوسيولوجي، وهي عبارة عن نماذج مبالغ فيها بقصد تضخيم جانب معين من الظواهر الاجتماعية محل الدراسة. ورأى ڨيبر أن تلك النماذج المثالية يمكن مقارنتها بالظواهر الموجودة فعلاً في المجتمع للكشف عن بعدها أو اختلافها عن ذلك النمط. عندئذ يستطيع علماء الاجتماع دراسة الأسباب التي يمكن أن تكون مسؤولة عن هذا الاختلاف.
بذلك سعى ڨيبر إلى توظيف النموذج المثالي كأداة منهجية لفهم العلاقة الارتباطية بين الروح البروتستانتية والرأسمالية الحديثة، وتشير الدراسات والأبحاث في هذا السياق إلى أن الأنماط المثالية لدى ڨيبر، وإلى استخدامها باعتبارها تنظيمات دقيقة لها علاقات تاريخية متداخلة بالأحداث التي تحيط بها (أبو شنب، 2008: 263).
ونظر ڨيبر إلى بنائها باعتباره محاولة للتعبير عن كل النظم العلمية التي تتقدم بطريقة عقلانية. وانتهت الدراسات إلى أن الصعوبات التي واجهت تكوين الأنماط المثالية لدى ڨيبر يرجع إلى استخدامه لها كتصورات تعميمية لجميع العلوم الثقافية. هذا بالإضافة إلى استخدامه الخاص لها والذي يمكن تحديده بثلاثة أنواع على النحو التالي:
1. الأنماط المثالية التي تتميز بالعناصر المجردة للواقع التاريخي وتشمل أنماط: البيروقراطية، والإقطاع، وأنماط السيطرة الثلاث (التقليدية، الكاريزمية، القانونية)، ثم أنماط الفعل أو السلوك (التقليدي، العاطفي، العقلاني بالنظر إلى القيمة، العقلاني بالنظر إلى الهدف).
2. الأنماط المثالية التي تشتمل على البناءات العقلية الجديدة بصفة خاصة، كما هو في أنماط السلوك الاقتصادي.
3. الأنماط المثالية ذات الخصوصيات التاريخية مثل: الرأسمالية في المدينة الغربية، بحيث يركز ڨيبر في هذا النوع من الأنماط على إمكانية إعادة بناء جزئيات هذه التصورات من خلال أنواع معينة من السمات التاريخية (أبو شنب، 2008: 263).
وفي إطار النمط الأخير قدم ڨيبر تحليلاً سوسيولوجياً لاستخدام النمط المثالي للرأسمالية في المدينة الغربية كأداة منهجية لتحقيق منهجه في الفهم التأويلي فيما يخص فهم العلاقة بين روح البروتستانتية والرأسمالية الحديثة في المجتمعات الغربية، حيث كانت تحليلاته تظهر أهمية النموذج المثالي كتصورات مجردة تماماً، وتوضح علاقة الديانة البروتستانتية بالرأسمالية. وذلك على اعتبار ألا يتشكل من فروض، ولكنه مجرد تصورات لمفهومات مجردة تساعد في الوصف والتفسير عن اللجوء إلى التحليل الامبيريقي في دراسة أي ظاهرة أو مشكلة اجتماعية (أبو شنب، 2008: 263-264).
فالرأسمالية – كما يذهب ڨيبر – هي نسق من المشروعات الهادفة إلى الربح، والتي ترتبط فيما بينها في شكل علاقات سوقية. والرأسمالية بهذا المعنى نمت وتطورت عبر التاريخ في أماكن كثيرة وأزمان مختلفة. ولكن الرأسمالية الحديثة تختلف عن أشكال الرأسمالية القديمة بما تتميز به من طابع عقلاني وتنظيم رشيد للعمل الحر. فكيف إذن ظهر هذا الشكل الحديثة من الرأسمالية؟ يؤكد ڨيبر أن مشكلة الظهور الأولى للظاهرة تتميز عن النمو اللاحق لها، طالما أن النسق الاجتماعي العام قادر على تأكيد ذاته. ثم يذهب بعد ذلك إلى ظهور الرأسمالية الحديثة قد خضع للتأثير الذي أحدثه ظهور الأخلاق البروتستانتية وخاصة الكالفينية. ويخلص ڨيبر إلى فرض مؤداه: أن المناطق الألمانية المعاصرة التي تسود فيها البروتستانتية أكثر ثراء من تلك التي تنتشر فيها الكاثوليكية (تيماشيف، 1978: 257)، حيث لعبت المتغيرات الثقافية المرتبطة بممارسات الأخلاق البروتستانتية دوراً هاماً في ترسيخ تصور لدى كل فرد في المجتمع الألماني أن الرأسمالية مشروع يتضمن الترشيد والضبط لمصادر رأسمال الواسعة والإنتاج الوفير.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه علينا: لماذا ظهرت الرأسمالية البرجوازية العقلانية كظاهرة مسيطرة فقط في الغرب الحديث؟ وما هي العوامل التي تؤدي إلى فشلها في الظهور في ثقافات أخرى؟
يؤمن ڨيبر إلى أن كل ثقافة توجد فيها الأخلاق الاقتصادية النابعة من الديانة التقليدية السائدة تعني مباشرة تحقيق التطور نحو أشكال الرأسمالية البرجوازية العقلية، ويرى أن سبب فشل الرأسمالية البرجوازية العقلانية في أوقات المبكرة، في الهند والصين بسبب عدم وجود الأخلاق الاقتصادية النابعة من الديانة (البروتستانتية) (بارسونز، 1945: 512-513). وهذا يعني أيضاً أن الرأسمالية لم تُعرف في الغرب وأنها لم تكن اكتشافاً غربياً محضاً وهي ليست مجرد (التعطش للربح) أو البحث عن الفائدة، بل هي السيادة عن طريق التنظير العقلي لهذه الدوافع اللا عقلية إنها البحث عن الفائدة المتجددة باستمرار في مؤسسة دائمة قائمة على التنظير العقلي، لقد وجدت الرأسمالية في الشرق القديم بصورة بدائية خاصة في التجارة، لكنها وجدت في الغرب على حسب ما يقول ڨيبر في صورة مؤسسات، ونظم حيث عرف العالم الغربي التنظيم الرأسمالي للعمل الحر ووضع قواعد المحاسبة العقلانية، وتقسيم العمل " (الكلاخي، 2012)، أي إنه قام بذلك بناءً على العقلانية والترشيد. ويبرر ڨيبر هذا التطور المتميز من خلال نموذج (التقشف الكالفني) الذي كان له الأثر الأهم في تنامي البروتستانتية، والتوجه مباشرةً نحو النهل من الواقع، من خلال الإشارة المباشرة إلى الأحوال الاقتصادية الجيدة التي يعيشها البروتستانت في ألمانيا مقارنة بمواطنيهم الألمان الكاثوليك. استناداً إلى تحليل عناصر البروتستانتية القائمة على: (العقلانية، التقشف، الفردية) والترشيد المستند إلى (الواقعية، الإنتاج، العمل) وعبر هذه العلاقة القائمة بين الطرفين (البروتستانتية والترشيد) أفسحت المجال للرأسمالية أن تنمو وتنضج وتؤتي ثمارها، عبر بروز دور المؤسسة البيروقراطية والتي قامت على التطلع نحو السيطرة على الواقع من خلال المعرفة إنها المعرفة الرشيدة القائمة على ثنائية السيطرة على الموارد، والقدرة على التخطيط المستقبلي للموارد. وهكذا كان الربط بين الرأسمالية وطريقة التعاطي مع الإنتاج، عبر تنامي دور الرقابة الإدارية، من خلال بروز المؤسسة البيروقراطية، والتي افسحت المجال للطبقة الوسطى، لأداء دورها في مجمل الفعاليات التي ترافقت مع النمو الرأسمالي، لا سيما في بدايات القرن العشرين بالإضافة إلى التوسع الذي شهده قطاع المؤسسات المالية، لا سيما على صعيد تمويل المشاريع وزيادة أهمية البنوك في الإقراض والتأمين (الربيعي، 2015: 342-343).
ربط ڨيبر بين القيم التي تقوم عليها العقيدة البروتستانتية القائمة على (العمل، تنظيم الوقت، الزهد)، حيث الالتزام الذي يطبع مجمل توجهات المؤمن بها، سعياً لبلوغ الخلاص ومرضاة الله. فيما تقوم روح المشروع الرأسمالي على الإعلاء من شأن الربح، من خلال (العمل، تنظيم الوقت، الانضباط). الربط هنا يقوم على جملة من التقاطعات بين النموذجين، بين نموذج زاهد عقيدي ديني، وآخر ربحي تجاري يقوم على التعاطي المباشر مع الماديات. إلا أن الصلة الفكرية التي ميزها ڨيبر إنما تقوم على أن الرأسمالية لم تكن نتاجاً للبروتستانتية، بقدر ما مثلت هذه الأخيرة مهاداً روحياً وقيمياً وثقافياً لنموها وتطور علاقاتها في الغرب تحديداً. لا سيما على صعيد التلاقي الحاسم بين (الزهد والانضباط). وهو ما يمثل جوهر فكرة الترشيد، التي مثلت الأصل الفكري لمجمل التحليلات المعرفية لأعمال ڨيبر. إنها أحوال التسلل للقيم بين النموذجين عن غير قصد، بقدر ما كانت الصلة تقوم على تمييز مفاصل (الأفعال والمعتقدات) وقدرة البروتستانتية في تشكيل روح المشروع الرأسمالي. عبر بوابة الترشيد الساعية نحو بناء النموذج الخالي من المظهريات، وتوجيه أرباح العمل نحو التراكم وتنظيم الحياة، والإفادة القصوى من مكتسبات الأرباح حيث التوجه نحو الإنتاج من خلال بناء نموذج المؤسسة المستندة إلى العقلانية في إدارة المشروع الرأسمالي (الربيعي، 2015: 343).
بناءً على ما سبق يكمن لنا أن نتفق مع بارسونز في تأكيده العلاقة الوظيفية السيكولوجية بين البروتستانتية والرأسمالية الحديثة لدى ڨيبر، وأن الظواهر المادية هي التي تخضع لتأثير القوى الدينية وليس العكس، وهذا يعني أن مكامن الاختلاف الرئيسية بين الرأسمالية التقليدية والحديثة يمكن في مستوى القيم. فالأنشطة التي تنبع من توجيه قيمي ديني قد يؤثر بصورة أقوى في نفوس من يقومون بها، ويحدث نوعاً من الرضا الذي يؤدي إلى تحقيق الإنجاز والتنمية المنشودة (بيومي، 1985: 478).
إن الأخلاق البروتستانتية (الكالفينية) بخاصة كانت أحد أهم العناصر التي أسهمت إسهاماً كبيراً في تطور الروح الرأسمالية الحديثة، إذ إن تلك الأخلاق قد أنتجت قيماً ومعايير شجعت العمل الحر والتنسُّك والادخار وإتقان العمل الذي يعتبر بمثابة التقرب من الله، خلقت مناخاً ذهنياً خاصاً، ساعد بدوره على تطور المشروع الاقتصادي الحر، وبالتالي على نمو وتطور الرأسمالية في الغرب (الحيدري، 1990: 159).
وهكذا نجد أن البروتستانتية حسب ڨيبر في شقها الكالفيني بخاصة هي مجموعة من الحوافز التي تدفع الإنسان إلى العمل والإنتاج، وتحصيل الثروة والإسهام في زيادة ازدهار الحياة الاقتصادية، بل إنها تمنح المهنة قيمة أخلاقية كبرى وتُقدّس العمل إلى درجة أنها ترى في تأدية العمل بأمانة وحيوية وحماسة واجباً مقدساً (زكريا، 2011: 140)، " فالعمل الدؤوب في مهنة ما أمر مطلوب بشكل واضح باعتباره الوسيلة الفضلى وذلك بغرض بلوغ هذه الثقة بالنفس " (ڨيبر، ب.ت. 75)، ومبدأ العادة ليس معناه حب المال، أو حب الكسب، أو حب الحياة الثرية بل هو صيغة مبدئية أخلاقية لطرائق العيش المُثلى. وهذا المبدأ الكالفيني لا يرى في العمل وسيلة للكسب من أجل العيش، بل إن العمل ذاته هو فلسفة الحياة ومعناها، أو أنه هو الذي يسوغ نفسه (السيد، 1997: 341).
ويرى ڨيبر أثناء دراسته للبروتستانتية أن الكالفينية بصورة خاصة تشدد على الطابع الفردي للخلاص، وانتهى من ذلك كله إلى أن الروح التي تميل إلى الحصول على الكسب المادي بطريقة رشيدة منظمة هي روح الرأسمالية على اعتبار أن ذلك هو ثمرة غير مقصودة من ثمار البروتستانتية (الكالفينية) (زكريا، 2011: 140).
بل إن التعاليم الدينية الكالفينية تحض المرء على أن يتحكم في نزاوته وشهواته، وأن يضبط ميوله وغرائزه، وتحثه على الزهد والتقشف في هذه الحياة الدينا. لكن ليس الزهد والتقشف السلبيين، بمعنى اعتزال العالم، والفرار من الحياة، والاعتكاف في صومعة والتفرغ لعبادة الله كما يفعل التنابل الكسالى الخاملون، وإنما التنسك في هذا العالم والخوض في معترك الحياة، والعمل الدؤوب وبمثابرة، والنجاح في الحياة المعنية، وتحصيل الثروة ومتراكمة المال، وكل ذلك استجابة لنداء رباني داخلي يشعر المرء تجاهه بنوع من الواجب الأخلاقي (زكريا، 2011: 151).
إن فكرة ڨيبر عن العقلانية المتضمنة في الأخلاق البروتستانتية (عملياتها، وأسباب ظهورها، ونتائجها) ليست مجرد ظاهرة تاريخية. ولكنها تعد شكلاً من أشكال المعرفة يظهر في إطار ثقافة المجتمع ككل. ثم انتقل بها إلى مستوى المعنى في إطار علاقتها بالمعتقدات الدينية. واعتبر أن تلك العقلانية نمط ثقافي مميز يؤثر في العلاقات والقوى المجتمعية الأخرى. ولذلك كانت تحليلاته للعلاقات الاجتماعية تهتم بربطها في سلسلة من الروابط العقلانية من كافة الجوانب. حتى أصبح هذا النمط الثقافي للعقلانية عنصراً موجهاً مباشراً في تقدم المجتمعات الغربية (أبو شنب، 2008: 269). أي إن الحساب العقلاني، في تصور ڨيبر، هو العنصر الأساسي في المشروع الرأسمالي الحديث، وعقلنة الحياة الاجتماعية بصورة عامة هي أهم صفة مميزة للثقافة الغربية الحديثة (جيدنز، ب.ت: 543).
بذلك أقام ڨيبر نماذجه المثالية كأطر تصورية مجردة، واستخدمها كأدوات منهجية لتحقيق الفهم السوسيولوجي في دراسة وفهم وتأويل أنماط الفعل والعلاقات والظواهر السسوسيو- ثقافية في إطار ثقافات معينة. وأن هذه الأطر التصورية لم تبدأ من فراغ، ولكنها بدأت من الواقع بهدف استخدامها لدراسة وفهم الواقع الاجتماعي والثقافي (أبو شنب، 2008: 269). بمعنى آخر اعتمد ڨيبر في منهجه التفهمي والتأويلي على أدوات منهجية تصورية مجردة. واستطاع من خلالها أن يثبت العلاقة الارتباطية القائمة بين الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية.
بناءً على ما سبق، إن المنهج الذي اعتمده ڨيبر لا يستمد النظرية الاجتماعية معتمداً فقط على العلاقات الاجتماعية بين الوسائل والغايات، وإنما يربطها باستمرار بنسق اجتماعي معين، وبالظروف التي يتم في ضوئها تحقيق الغايات، ومن ثم، يؤكد ڨيبر باستمرار أن كل المفاهيم التي يقدمها لا تكفي في حد ذاتها، وإنما لا بد أن يستخدمها علماء الاجتماع في تجسيد النماذج المثالية لتفسير مشكلات اجتماعية ملموسة، بل الأكثر من ذلك أن هذه النماذج بدورها ليست غاية مطلقة ولكنها وسيلة للتفسير والتحليل المنطقي (فياض، 12.11.2023).
وبذلك يكون ڨيبر اعتمد منهجاً مغايراً لما كان سائداً في الدراسات الاجتماعية. وسمة هذا المنهج الأساسية هي اعتماد النسقية المركبة واكتشاف القوانين التي تساعد في دراسة العلاقات التي تربط بين مجالات الظاهرة المختلفة بشكل يحفظ للإنسانية طابعها التركيبي. وهو بذلك تجاوز النظر التجزيئي الذي لا يمكن أن يفسر الظاهرة الإنسانية. فالأساس إذن، في بناء النموذج المثالي حسب ما يرى ڨيبر هو التشديد على فكرة ما، أو عدة أفكار، أو على وجهة نظر ما، أو عدة وجهات نظر واستخراج طائفة من الحوادث المعزولة، الغامضة والخفية، التي يكثر العثور عليها أحياناً أو يتضاءل وربطها بوجهات النظر المختارة من أجل أن ننشئ منها لوحة متجانسة (فياض، 12.11.2023).
خلاصة القول، إن النموذج المثالي يمثل مفهوماً مركزياً في الفكر الڨيبري وقد يأتي وصف المثالي في سياق هذه المنهجية مضللاً، فليس القصد بالمثالي هنا المتكامل الخالي من العيوب، بقدر ما هو تعبير عن وضع أو حالة يتم من خلالها تمييز نظام اجتماعي، قد يكون المثال هنا بمثابة الوسيلة المنهجية التي تضطلع بمهمة تمييز سمات هذا النظام، وتوفير وسيلة تطبيقية للباحثين من أجل فرز المكونات وحصر مجال البحث والتدقيق، مع المرونة التي يتم اسباغها على البحث، مع القابلية للتعديل. إنها المحاولة المعرفية المتطلعة نحو فهم الواقع من خلال التوجيه نحو كل ما يتعلق بالأفراد من أفعال وعلاقات.
وفي النهاية نستنتج أن دراسة معاني الفعل الاجتماعي حسب ڨيبر تتطلب وجود أداة منهجية أطلق عليها النموذج المثالي وهو عبارة بناء عقلي يتشكل من خلال ظهور أو وضوح سمة أو أكثر أو وجهات نظر يمكن ملاحظتها في الواقع ومعنى ذلك أن ركائز المقاربة المنهجية الڨيبرية تتكون من النموذج المثالي، ونسق المعاني من خلال فهم الفعل الاجتماعي وتأويله. ومعنى ذلك أن ڨيبر أقام نماذجه المثالية كأطر تصورية مجردة، واستخدمها كأدوات منهجية لتحقيق الفهم السوسيولوجي في دراسة أنماط الفعل والعلاقات الاجتماعية والظواهر السسوسيو- ثقافية في إطار ثقافة معينة وهذا ما فعله عندما ربط ما بين روح الرأسمالية والأخلاق البروتستانتية على اعتبار أن الأخيرة تمثل النموذج المثالي لنمو وتطور الرأسمالية الغربية.
فقد سعى ڨيبر بكل إمكاناته المعرفية والمنهجية أن يبرهن على أن الرأسمالية تعد نظاماً اجتماعياً واقتصادياً في العصر الحديث، وهي في مجملها نتاجاً طبيعياً للدين البروتستانتي وما يقوم عليه من مبادئ وقيم ومعتقدات وتصورات دينية ومجتمعية خاصة الكالفينية منها التي توجه الحياة اليومية والأنشطة الاقتصادية المنتجة مثل: الادخار، والاستثمار، والعمل، والإنتاج، واحترام المهن وقدسيتها.
إلا أن ڨيبر وبرؤية موضوعية كان متحيزاً في جانب مهم من آرائه وأفكاره عندما ركّز على عوامل ظهور وتطور الرأسمالية الغربية خاصةً في مناطق معينة من المجتمعات الأوروبية، حيث بنى مجمل تصوراته بناءً على مذاهب مسيحية معينة دون غيرها باعتبارها النموذج المثالي لتطور الرأسمالية الغربية. إلا أن ظهور الرأسمالية في أواخر القرن العشرين في مناطق أخرى من العالم وبالأخص جنوب شرق آسيا (اليابان - على سبيل المثال - التي تدين بديانة أرضية تدعى الشنتو) أفقدت تصورات ڨيبر حول نشأة الرأسمالية الغربية وعلاقتها بالأخلاق البروتستانتية الكثير من مصداقيتها العلمية والواقعية.
----------------------------------------
- مراجع المقال:
- أبو شنب، جمال. (2008). السلوك الاجتماعي – الاتجاه السلوكي في نظرية علم الاجتماع. ط1، دار المعرفة الجامعة. الإسكندرية.
- الحيدري، إبراهيم. (1990). جدلية الحوار حول أطروحة ماكس ڨيبر " الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية ". مجلة العلوم الاجتماعية. المجلد: 18. العدد:1. الكويت.
- الربيعي، إسماعيل نوري. (2015). أن تأكل جيداً؟! ڨيبر والعقلانية الألمانية. مجلة دراسات وأبحاث. المجلد: 07. العدد: 18. الجزائر.
- السيد، رضوان. (1997). سياسات الإسلام المعاصر مراجعات ومتابعات. ط1. دار الكتاب العربي. بيروت.
- بارسونز، تالكوت. (1949). بنية الفعل الاجتماعي – دراسة في النظرية الاجتماعية مع إشارة خاصة إلى مجموعة من الكُتَّاب الأوروبيين الجدد. ط2. المطبعة الحرة. الولايات المتحدة الأمريكية.
- بيومي، محمد أحمد. (1985). علم الاجتماع الديني. ط1. دار المعرفة الجامعية. الإسكندرية.
- تيماشيف، نيقولا. (1978). نظرية علم الاجتماع طبيعتها وتطورها. ط5. الكتاب: الثاني. (ترجمة: محمود عودة وآخرون). (مراجعة: محمد عاطف غيث). سلسلة علم الاجتماع المعاصر. دار المعارف. القاهرة.
- جيدنز، أنتوني. (2005). علم الاجتماع (مع مدخلات عربية). ط1. (ترجمة وتقديم: فايز الصياغ). المنظمة العربية للترجمة. توزيع مركز دراسات الوحدة العربية. بيروت.
- جيدنز، أنتوني. (ب.ت). الرأسمالية والنظرية الاجتماعية الحديثة (تحليل كتابات ماركس ودوركهايم وماكس ڨيبر). ب.ط. (ترجمة: أديب يوسف شيش). الهيئة العامة السورية للكتاب. دمشق.
- زكريا، براق. (2011). ماكس ڨيبر: الدين وأخلاق العمل والرأسمالية. مجلة التفاهم. العدد: 034. وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بسلطنة عُمان. عُمان.
- عبد النور، محمد. (2017). منهج الفهم عند ماكس فيبر. صفحة الدكتور محمد عبد النور. جامعة غرداية. https://2u.pw/ZusfdYWq
- فياض، حسام الدين. (2021). المدخل إلى علم الاجتماع – من مرحلة تأصيل المفاهيم إلى مرحلة التأسيس. ط1. سلسلة نحو علم اجتماع تنويري. الكتاب: الأول. الجزء: الأول. مكتبة الأسرة العربية. إسطنبول.
- كلاخي، يوسف. (2012). قراءة في كتاب أخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية لماكس ڨيبر. الحوار المتمدن. يوسف الكلاخي - قراءة في كتاب أخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية لماكس فيبر
- فياض، حسام الدين. (12.11.2023). أسس المنهج المعرفي عند عبد الوهاب المسيري (قراءة في الفكر العربي المعاصر). موقع الحوار المتمدن. العدد: 7793. حسام الدين فياض - أسس المنهج المعرفي عند عبد الوهاب المسيري ( قراءة في الفكر العربي المعاصر )
- فياض، حسام الدين. (2024). منهجية الفهم والـتأويل عند ماكس ڨيبر ”إنك تدرس لكي تفهم“ (دراسة تحليلية – نقدية). مجلة ريحان للنشر العلمي. المجلد: 7. العدد: 48. سوريا. ص(292-325).
[HR][/HR]
* جون بابتيست بوكلان (بالفرنسية: Jean-Baptiste Poquelin) المُلقب موليير (Molière) (باريس 15 يناير 1622 - 17 فبراير 1673)، مؤلف كوميدي مسرحي، وشاعر فرنسي، ويعد أحد أهم أساتذة الهزليات في تاريخ الفن المسرحي الأوروبي ومؤسس " الكوميديا الراقية ".
د. حسام الدين فياض
الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة
قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً
فإذا كانت العلوم الطبيعية أفقية الطابع من حيث نجاحها في التعميم بفضل القوانين السببية؛ فإن العلوم الاجتماعية عمودية الطابع من حيث إمكان نجاحها في التعميق بفضل الإمكانية الموضوعية (عبد النور، 2017). على اعتبار أن الإمكانية الموضوعية في العلوم الاجتماعية هي أداة تساعد الباحث على تشكيل صورة ذهنية للمواقف وذلك عن طريق عزل بعض المتغيرات لمعرفة مدى تأثرها في تشكيل العنصر الكلي، فإذا تأثر بعزل متغير فإن العلاقة السببية ملائمة، وإذا لم يتأثر فإن العلاقة السببية مصادفة، إلا أن ڨيبر رفض مصطلح السببية الضرورية (عبد النور، 2017). فبعد تحديد مفهوم الإمكانية الموضوعية، نجد أن علاقة منهج الفهم بمنهج التجريب علاقة كل بجزء إذ لا يمكن إدراك الكل إلا بفهم الجزئيات المشكلة للرابط الكلي. فعلى سبيل المثال: لكي يستطيع الباحث رصد معنى قانون في مجتمع ما لا بد له من التطرق إلى جزئيات وبنود القانون، وذلك بتصوره واحتماله لمجموعة من الجزئيات ثم ترجيح التي تشكل الكل، ثم حينها يلتجأ في مرحلة ثانية إلى استخدام الأدوات التقنية التي تختبر مدى صحة احتماله، إن كان قد أغفل إمكانية حضور جزئية في تشكيل الرابط الكلي فبهذا يكون: الذاتي أشمل من التقني وموظف له لا غير، بهذا يتحقق المعنى الفعلي والحقيقي لمفهوم الإمكانية الموضوعية (عبد النور، 2017). بناءً على ما سبق يعتقد ڨيبر أن نشوء الرأسمالية (الواقع) لا يمكن فهمها إلا بالرجوع إلى نمطها المثالي القيم البروتستانتية.
يعرف ڨيبر النموذج المثالي The Ideal Typical بأنه " عبارة عن وصف منطقي متسق من وجهة نظر محددة. بحيث يؤدي ذلك إلى توضيح علاقات الوسائل بغايات الفعل حتى يساعد ذلك الباحث على تجميع الأفكار أو الارتباطات والتفسيرات المتناثرة في إطار قابل للفهم ". " بمعنى آخر، هو عبارة عن بناء أو تشيد عقلي يتشكل من خلال ظهور أو وضوح سمة أو أكثر، أو وجهات نظر يمكن ملاحظتها في الواقع، والذي لا يوجد له نظير في الواقع التجريبي (تيماشيف، 1978: 266). هذا النمط المثالي لأي ظاهرة اجتماعية يكون مصمماً ليساعد في فهم الواقع التجريبي لتلك الظاهرة أو عدة ظواهر وهكذا يمكن استخدام النمط المثالي كأداة من أجل المقارنة بين ظاهرتين أو أكثر أو لقياس مدى تقارب الظاهرة المعطاة من النمط المثالي، فالنموذج أو النمط المثالي عبارة عن المجموع الكلي للمفاهيم التي ينشئها أو يبينها المتخصص في العلوم الإنسانية بصورة نقية وبعيدة عن أي تحيز لتحقيق أهداف البحث (فياض، 2021: 347- 348).
يتمحور هدف النموذج المثالي في تكوين نموذج للظاهرة الاجتماعية أو منظور هادف لها. وبعد ذلك استعمل المفهوم من قبل منظري المنظمات الاجتماعية للإشارة إلى الدراسات التجريبية المتعلقة بالبيروقراطية على سبيل المثال. ولا يحيلنا تعبير المثالي على الجودة والإتقان والحكم الإيجابي، بل هو دليل لبناء الفرضيات، ونموذج لفهم الظواهر المدركة في الواقع، أو تعبير عن الفكر المنظم.
والنموذج المثالي، هو نتاج لعملية تركيبية لمجموعة من السمات والمواصفات لظاهرة مجتمعية ما، تكون مجردة وعامة، وتصنيفها ضمن نموذج فكري وعقلي ومنطقي متسق. وللتمثيل، حينما ندرس البيروقراطية، فإننا ندرسها في مجالات متعددة، وفي أمكنة مختلفة، لكننا نتحدث عنها بطريقة مثالية عامة، بالتركيز على خصائصها ومميزاتها المجردة والمشتركة في عمومها، لقولبتها ضمن نموذج مفهومي ووصفي ما. أضف إلى ذلك أن النموذج المثالي هو نتيجة لمجموعة من المقارنات والعمليات الوصفية لظاهرة مجتمعية ما (فياض، 2021: 348).
وبالتالي، فالمثالي لا علاقة له بالقيمة، بل يرتبط بمنظومة من الخصائص والأوصاف والسمات المشتركة الناتجة عن ملاحظة ظاهرة ما. وبتعبير آخر، يعني النموذج المثالي تجريد أو تحويل الظاهرة المجتمعية المدركة والملاحظة إلى نموذج ذهني مجرد في شكل خصائص ومكونات وسمات مشتركة مجردة وعامة. أي الانتقال من المحسوس إلى المجرد المثالي. فحينما يرصد الملاحظ ظاهرة مدركة ما، ومعزولة، فإنه يختزلها في مجموعة من المكونات والخصائص والسمات العامة والمجردة لبناء نموذجها المثالي والمفهومي.
بذلك يتكون النموذج المثالي من العناصر الرئيسية التالية (فياض، 2021: 349):
1. إنه نظرة جانبية أو جزئية تتم بالنظر إلى الإطار النظري للباحث، وذلك من شأنه أن يترك هامشاً لتأثير التوجيه القيمي للباحث في تحديد العناصر الأساسية للنموذج.
2. إنه يعبّر عن نظرية أحادية يجرد الباحث من خلالها – انتقائياً – العناصر الرئيسية من الظاهرة الواقعية.
3. إن هذه العناصر التي يرى الباحث أنها تشكل العناصر المحورية للواقعة أو الظاهرة موضع الدراسة يتم تأسيسها، بالإضافة إلى بناء العلاقات المنطقية بينهما في إطار نظري له اتساقه المنطقي وقدرته على المساعدة في الفهم والتوضيح. ويجدر الإشارة إلى أن التحديد الإيجابي للنموذج في كونه بناء من العناصر التي جردت عن الواقع والتي وضعت مع بعضها البعض، لكي تشكل نموذجاً تصورياً موحداً.
إذن، فالأنماط السلوكية، كالسلوك العقلي، والسلوك اللا عقلي، والسلوك القيمي العقلي، والسلوك العاطفي، بمثابة نماذج أو أفكار عقلية مثالية: هي مثالية بمعنى أنها ليست صادرة من الحياة الاجتماعية الواقعية، لا بمعنى أنها صادرة من ماهيات مجردة كـ " مثل " أفلاطون على سبيل المثال. إنها نماذج مثالية لكونها مشتقة أساساً من الحقيقة التاريخية، تلك الحقيقة المعقدة جداً، والتي تعتبر هذه التصنيفات السلوكية مجرد تبسيط لها. ومن هنا يدرس علم الاجتماع عند ڨيبر تلك الأنماط الاجتماعية المثالية التي تحدد طبيعة تصورات الإنسان وإدراكاته ومواقفه السلوكية في المجتمع. وإذا كانت هذه الأنماط كامنة حقاً في بنيات المجتمع، فهي مع ذلك، بمثابة أنماط قياسية تحدد السلوك، وتوجه العقل (فياض، 2021: 349- 350).
وعلى رأس هذه الأنماط المحددة للسلوك الموجهة للفعل، توجد القيم الأخلاقية والدينية، ثم العرف والعادات والقانون، بالإضافة إلى أنماط أخرى ذات طبيعة سيكولوجية كالحب والكراهية والحقد... ومهما كان الأمر، وسواء كان العنصر الموجه للسلوك هو هذا النمط أو ذاك، فإن الفعل الاجتماعي الحقيقي عند ڨيبر هو السلوك الهادف المرتبط بغاية معينة. أما السلوك الذي لا هدف له، فهو سلوك لا عقلي، سلوك آلي لا قيمة له من الناحية التاريخية.
بذلك فإن النموذج المثالي أداة تصورية وإجرائية أساسية، أو هو بمثابة منهج، أو مقياس، أو نموذج تركيبي، يُستخدم لوصف الوقائع المجتمعية وتقييمها. بعبارة أخرى هو وسيلة موجهة نحو توضيح معنى الموضوع قيد الدراسة، أي إجراء منهجي خالص يطوره الباحث إرادياً وفقاً لحاجات البحث، ويمكن أن يتخلى عنه إذا لم يؤد وظيفته أو يشبع توقعاته (فياض، 2021: 350).
ويرى أنتوني جيدنز أن " النماذج المثالية هي نماذج مفهومية وتحليلية يمكن استخدامها لفهم العالم. وقلما توجد هذه النماذج في العالم الواقعي. وربما لا توجد على الإطلاق. وفي أغلب الحالات تتضح جوانب أو ملامح قليلة منها في الواقع. غير أن هذه النماذج الافتراضية قد تكون مفيدة جداً، عندما نحاول فهم الأوضاع الفعلية في العالم بمقارنتها بواحد من هذه الأنماط المثالية. وفي هذا السياق تكون النماذج المثالية بمثابة نقطة مرجعية ثابتة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن النموذج المثالي لم يكن يعني بالنسبة إلى ڨيبر أن هذا التصور قد وصل حدود الكمال أو حقق الهدف المنشود. وما كان يعنيه ڨيبر أن النموذج يمثل صورة صافية لظاهرة ما، وقد استخدم ڨيبر هذه النماذج المثالية في تحليله لأشكال البيروقراطية والسوق " (جيدنز، 2005: 71). وللتوضيح بشكل أبسط، فشخصية " البخيل" في مسرحية موليير* شخصية كاريكاتورية، مع أن احتمال أن نلتقيها في الواقع الاجتماعي، لكنها تمثل النمط الأصيل للبخل. هذه الشخصية نموذج مثالي للبخلاء. فالنموذج المثالي هو تشييد فكري لا يعكس الواقع التجريبي المرصود، بل يسمح بتحليل مكوناته وخصائصه. وعليه يتم تحصيل النموذج المثالي عند ڨيبر عبر الربط بين عدد من الظواهر، بتصنيفها وتنظيمها، وترتيبها، ضمن نموذج فكري منسجم ومتسق.
خلاصة القول إن النموذج المثالي عند ڨيبر هو الصورة النقية للظاهرة يقوم ببلورتها علماء الاجتماع عن طريق الانغماس في تحليل المادة التاريخية. وعلى هذا تُفهم الأنماط المثالية بوصفها أدوات إرشادية (تعين على الفهم). الهدف منها تزويدنا بقوالب البحث السوسيولوجي، وهي عبارة عن نماذج مبالغ فيها بقصد تضخيم جانب معين من الظواهر الاجتماعية محل الدراسة. ورأى ڨيبر أن تلك النماذج المثالية يمكن مقارنتها بالظواهر الموجودة فعلاً في المجتمع للكشف عن بعدها أو اختلافها عن ذلك النمط. عندئذ يستطيع علماء الاجتماع دراسة الأسباب التي يمكن أن تكون مسؤولة عن هذا الاختلاف.
بذلك سعى ڨيبر إلى توظيف النموذج المثالي كأداة منهجية لفهم العلاقة الارتباطية بين الروح البروتستانتية والرأسمالية الحديثة، وتشير الدراسات والأبحاث في هذا السياق إلى أن الأنماط المثالية لدى ڨيبر، وإلى استخدامها باعتبارها تنظيمات دقيقة لها علاقات تاريخية متداخلة بالأحداث التي تحيط بها (أبو شنب، 2008: 263).
ونظر ڨيبر إلى بنائها باعتباره محاولة للتعبير عن كل النظم العلمية التي تتقدم بطريقة عقلانية. وانتهت الدراسات إلى أن الصعوبات التي واجهت تكوين الأنماط المثالية لدى ڨيبر يرجع إلى استخدامه لها كتصورات تعميمية لجميع العلوم الثقافية. هذا بالإضافة إلى استخدامه الخاص لها والذي يمكن تحديده بثلاثة أنواع على النحو التالي:
1. الأنماط المثالية التي تتميز بالعناصر المجردة للواقع التاريخي وتشمل أنماط: البيروقراطية، والإقطاع، وأنماط السيطرة الثلاث (التقليدية، الكاريزمية، القانونية)، ثم أنماط الفعل أو السلوك (التقليدي، العاطفي، العقلاني بالنظر إلى القيمة، العقلاني بالنظر إلى الهدف).
2. الأنماط المثالية التي تشتمل على البناءات العقلية الجديدة بصفة خاصة، كما هو في أنماط السلوك الاقتصادي.
3. الأنماط المثالية ذات الخصوصيات التاريخية مثل: الرأسمالية في المدينة الغربية، بحيث يركز ڨيبر في هذا النوع من الأنماط على إمكانية إعادة بناء جزئيات هذه التصورات من خلال أنواع معينة من السمات التاريخية (أبو شنب، 2008: 263).
وفي إطار النمط الأخير قدم ڨيبر تحليلاً سوسيولوجياً لاستخدام النمط المثالي للرأسمالية في المدينة الغربية كأداة منهجية لتحقيق منهجه في الفهم التأويلي فيما يخص فهم العلاقة بين روح البروتستانتية والرأسمالية الحديثة في المجتمعات الغربية، حيث كانت تحليلاته تظهر أهمية النموذج المثالي كتصورات مجردة تماماً، وتوضح علاقة الديانة البروتستانتية بالرأسمالية. وذلك على اعتبار ألا يتشكل من فروض، ولكنه مجرد تصورات لمفهومات مجردة تساعد في الوصف والتفسير عن اللجوء إلى التحليل الامبيريقي في دراسة أي ظاهرة أو مشكلة اجتماعية (أبو شنب، 2008: 263-264).
فالرأسمالية – كما يذهب ڨيبر – هي نسق من المشروعات الهادفة إلى الربح، والتي ترتبط فيما بينها في شكل علاقات سوقية. والرأسمالية بهذا المعنى نمت وتطورت عبر التاريخ في أماكن كثيرة وأزمان مختلفة. ولكن الرأسمالية الحديثة تختلف عن أشكال الرأسمالية القديمة بما تتميز به من طابع عقلاني وتنظيم رشيد للعمل الحر. فكيف إذن ظهر هذا الشكل الحديثة من الرأسمالية؟ يؤكد ڨيبر أن مشكلة الظهور الأولى للظاهرة تتميز عن النمو اللاحق لها، طالما أن النسق الاجتماعي العام قادر على تأكيد ذاته. ثم يذهب بعد ذلك إلى ظهور الرأسمالية الحديثة قد خضع للتأثير الذي أحدثه ظهور الأخلاق البروتستانتية وخاصة الكالفينية. ويخلص ڨيبر إلى فرض مؤداه: أن المناطق الألمانية المعاصرة التي تسود فيها البروتستانتية أكثر ثراء من تلك التي تنتشر فيها الكاثوليكية (تيماشيف، 1978: 257)، حيث لعبت المتغيرات الثقافية المرتبطة بممارسات الأخلاق البروتستانتية دوراً هاماً في ترسيخ تصور لدى كل فرد في المجتمع الألماني أن الرأسمالية مشروع يتضمن الترشيد والضبط لمصادر رأسمال الواسعة والإنتاج الوفير.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه علينا: لماذا ظهرت الرأسمالية البرجوازية العقلانية كظاهرة مسيطرة فقط في الغرب الحديث؟ وما هي العوامل التي تؤدي إلى فشلها في الظهور في ثقافات أخرى؟
يؤمن ڨيبر إلى أن كل ثقافة توجد فيها الأخلاق الاقتصادية النابعة من الديانة التقليدية السائدة تعني مباشرة تحقيق التطور نحو أشكال الرأسمالية البرجوازية العقلية، ويرى أن سبب فشل الرأسمالية البرجوازية العقلانية في أوقات المبكرة، في الهند والصين بسبب عدم وجود الأخلاق الاقتصادية النابعة من الديانة (البروتستانتية) (بارسونز، 1945: 512-513). وهذا يعني أيضاً أن الرأسمالية لم تُعرف في الغرب وأنها لم تكن اكتشافاً غربياً محضاً وهي ليست مجرد (التعطش للربح) أو البحث عن الفائدة، بل هي السيادة عن طريق التنظير العقلي لهذه الدوافع اللا عقلية إنها البحث عن الفائدة المتجددة باستمرار في مؤسسة دائمة قائمة على التنظير العقلي، لقد وجدت الرأسمالية في الشرق القديم بصورة بدائية خاصة في التجارة، لكنها وجدت في الغرب على حسب ما يقول ڨيبر في صورة مؤسسات، ونظم حيث عرف العالم الغربي التنظيم الرأسمالي للعمل الحر ووضع قواعد المحاسبة العقلانية، وتقسيم العمل " (الكلاخي، 2012)، أي إنه قام بذلك بناءً على العقلانية والترشيد. ويبرر ڨيبر هذا التطور المتميز من خلال نموذج (التقشف الكالفني) الذي كان له الأثر الأهم في تنامي البروتستانتية، والتوجه مباشرةً نحو النهل من الواقع، من خلال الإشارة المباشرة إلى الأحوال الاقتصادية الجيدة التي يعيشها البروتستانت في ألمانيا مقارنة بمواطنيهم الألمان الكاثوليك. استناداً إلى تحليل عناصر البروتستانتية القائمة على: (العقلانية، التقشف، الفردية) والترشيد المستند إلى (الواقعية، الإنتاج، العمل) وعبر هذه العلاقة القائمة بين الطرفين (البروتستانتية والترشيد) أفسحت المجال للرأسمالية أن تنمو وتنضج وتؤتي ثمارها، عبر بروز دور المؤسسة البيروقراطية والتي قامت على التطلع نحو السيطرة على الواقع من خلال المعرفة إنها المعرفة الرشيدة القائمة على ثنائية السيطرة على الموارد، والقدرة على التخطيط المستقبلي للموارد. وهكذا كان الربط بين الرأسمالية وطريقة التعاطي مع الإنتاج، عبر تنامي دور الرقابة الإدارية، من خلال بروز المؤسسة البيروقراطية، والتي افسحت المجال للطبقة الوسطى، لأداء دورها في مجمل الفعاليات التي ترافقت مع النمو الرأسمالي، لا سيما في بدايات القرن العشرين بالإضافة إلى التوسع الذي شهده قطاع المؤسسات المالية، لا سيما على صعيد تمويل المشاريع وزيادة أهمية البنوك في الإقراض والتأمين (الربيعي، 2015: 342-343).
ربط ڨيبر بين القيم التي تقوم عليها العقيدة البروتستانتية القائمة على (العمل، تنظيم الوقت، الزهد)، حيث الالتزام الذي يطبع مجمل توجهات المؤمن بها، سعياً لبلوغ الخلاص ومرضاة الله. فيما تقوم روح المشروع الرأسمالي على الإعلاء من شأن الربح، من خلال (العمل، تنظيم الوقت، الانضباط). الربط هنا يقوم على جملة من التقاطعات بين النموذجين، بين نموذج زاهد عقيدي ديني، وآخر ربحي تجاري يقوم على التعاطي المباشر مع الماديات. إلا أن الصلة الفكرية التي ميزها ڨيبر إنما تقوم على أن الرأسمالية لم تكن نتاجاً للبروتستانتية، بقدر ما مثلت هذه الأخيرة مهاداً روحياً وقيمياً وثقافياً لنموها وتطور علاقاتها في الغرب تحديداً. لا سيما على صعيد التلاقي الحاسم بين (الزهد والانضباط). وهو ما يمثل جوهر فكرة الترشيد، التي مثلت الأصل الفكري لمجمل التحليلات المعرفية لأعمال ڨيبر. إنها أحوال التسلل للقيم بين النموذجين عن غير قصد، بقدر ما كانت الصلة تقوم على تمييز مفاصل (الأفعال والمعتقدات) وقدرة البروتستانتية في تشكيل روح المشروع الرأسمالي. عبر بوابة الترشيد الساعية نحو بناء النموذج الخالي من المظهريات، وتوجيه أرباح العمل نحو التراكم وتنظيم الحياة، والإفادة القصوى من مكتسبات الأرباح حيث التوجه نحو الإنتاج من خلال بناء نموذج المؤسسة المستندة إلى العقلانية في إدارة المشروع الرأسمالي (الربيعي، 2015: 343).
بناءً على ما سبق يكمن لنا أن نتفق مع بارسونز في تأكيده العلاقة الوظيفية السيكولوجية بين البروتستانتية والرأسمالية الحديثة لدى ڨيبر، وأن الظواهر المادية هي التي تخضع لتأثير القوى الدينية وليس العكس، وهذا يعني أن مكامن الاختلاف الرئيسية بين الرأسمالية التقليدية والحديثة يمكن في مستوى القيم. فالأنشطة التي تنبع من توجيه قيمي ديني قد يؤثر بصورة أقوى في نفوس من يقومون بها، ويحدث نوعاً من الرضا الذي يؤدي إلى تحقيق الإنجاز والتنمية المنشودة (بيومي، 1985: 478).
إن الأخلاق البروتستانتية (الكالفينية) بخاصة كانت أحد أهم العناصر التي أسهمت إسهاماً كبيراً في تطور الروح الرأسمالية الحديثة، إذ إن تلك الأخلاق قد أنتجت قيماً ومعايير شجعت العمل الحر والتنسُّك والادخار وإتقان العمل الذي يعتبر بمثابة التقرب من الله، خلقت مناخاً ذهنياً خاصاً، ساعد بدوره على تطور المشروع الاقتصادي الحر، وبالتالي على نمو وتطور الرأسمالية في الغرب (الحيدري، 1990: 159).
وهكذا نجد أن البروتستانتية حسب ڨيبر في شقها الكالفيني بخاصة هي مجموعة من الحوافز التي تدفع الإنسان إلى العمل والإنتاج، وتحصيل الثروة والإسهام في زيادة ازدهار الحياة الاقتصادية، بل إنها تمنح المهنة قيمة أخلاقية كبرى وتُقدّس العمل إلى درجة أنها ترى في تأدية العمل بأمانة وحيوية وحماسة واجباً مقدساً (زكريا، 2011: 140)، " فالعمل الدؤوب في مهنة ما أمر مطلوب بشكل واضح باعتباره الوسيلة الفضلى وذلك بغرض بلوغ هذه الثقة بالنفس " (ڨيبر، ب.ت. 75)، ومبدأ العادة ليس معناه حب المال، أو حب الكسب، أو حب الحياة الثرية بل هو صيغة مبدئية أخلاقية لطرائق العيش المُثلى. وهذا المبدأ الكالفيني لا يرى في العمل وسيلة للكسب من أجل العيش، بل إن العمل ذاته هو فلسفة الحياة ومعناها، أو أنه هو الذي يسوغ نفسه (السيد، 1997: 341).
ويرى ڨيبر أثناء دراسته للبروتستانتية أن الكالفينية بصورة خاصة تشدد على الطابع الفردي للخلاص، وانتهى من ذلك كله إلى أن الروح التي تميل إلى الحصول على الكسب المادي بطريقة رشيدة منظمة هي روح الرأسمالية على اعتبار أن ذلك هو ثمرة غير مقصودة من ثمار البروتستانتية (الكالفينية) (زكريا، 2011: 140).
بل إن التعاليم الدينية الكالفينية تحض المرء على أن يتحكم في نزاوته وشهواته، وأن يضبط ميوله وغرائزه، وتحثه على الزهد والتقشف في هذه الحياة الدينا. لكن ليس الزهد والتقشف السلبيين، بمعنى اعتزال العالم، والفرار من الحياة، والاعتكاف في صومعة والتفرغ لعبادة الله كما يفعل التنابل الكسالى الخاملون، وإنما التنسك في هذا العالم والخوض في معترك الحياة، والعمل الدؤوب وبمثابرة، والنجاح في الحياة المعنية، وتحصيل الثروة ومتراكمة المال، وكل ذلك استجابة لنداء رباني داخلي يشعر المرء تجاهه بنوع من الواجب الأخلاقي (زكريا، 2011: 151).
إن فكرة ڨيبر عن العقلانية المتضمنة في الأخلاق البروتستانتية (عملياتها، وأسباب ظهورها، ونتائجها) ليست مجرد ظاهرة تاريخية. ولكنها تعد شكلاً من أشكال المعرفة يظهر في إطار ثقافة المجتمع ككل. ثم انتقل بها إلى مستوى المعنى في إطار علاقتها بالمعتقدات الدينية. واعتبر أن تلك العقلانية نمط ثقافي مميز يؤثر في العلاقات والقوى المجتمعية الأخرى. ولذلك كانت تحليلاته للعلاقات الاجتماعية تهتم بربطها في سلسلة من الروابط العقلانية من كافة الجوانب. حتى أصبح هذا النمط الثقافي للعقلانية عنصراً موجهاً مباشراً في تقدم المجتمعات الغربية (أبو شنب، 2008: 269). أي إن الحساب العقلاني، في تصور ڨيبر، هو العنصر الأساسي في المشروع الرأسمالي الحديث، وعقلنة الحياة الاجتماعية بصورة عامة هي أهم صفة مميزة للثقافة الغربية الحديثة (جيدنز، ب.ت: 543).
بذلك أقام ڨيبر نماذجه المثالية كأطر تصورية مجردة، واستخدمها كأدوات منهجية لتحقيق الفهم السوسيولوجي في دراسة وفهم وتأويل أنماط الفعل والعلاقات والظواهر السسوسيو- ثقافية في إطار ثقافات معينة. وأن هذه الأطر التصورية لم تبدأ من فراغ، ولكنها بدأت من الواقع بهدف استخدامها لدراسة وفهم الواقع الاجتماعي والثقافي (أبو شنب، 2008: 269). بمعنى آخر اعتمد ڨيبر في منهجه التفهمي والتأويلي على أدوات منهجية تصورية مجردة. واستطاع من خلالها أن يثبت العلاقة الارتباطية القائمة بين الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية.
بناءً على ما سبق، إن المنهج الذي اعتمده ڨيبر لا يستمد النظرية الاجتماعية معتمداً فقط على العلاقات الاجتماعية بين الوسائل والغايات، وإنما يربطها باستمرار بنسق اجتماعي معين، وبالظروف التي يتم في ضوئها تحقيق الغايات، ومن ثم، يؤكد ڨيبر باستمرار أن كل المفاهيم التي يقدمها لا تكفي في حد ذاتها، وإنما لا بد أن يستخدمها علماء الاجتماع في تجسيد النماذج المثالية لتفسير مشكلات اجتماعية ملموسة، بل الأكثر من ذلك أن هذه النماذج بدورها ليست غاية مطلقة ولكنها وسيلة للتفسير والتحليل المنطقي (فياض، 12.11.2023).
وبذلك يكون ڨيبر اعتمد منهجاً مغايراً لما كان سائداً في الدراسات الاجتماعية. وسمة هذا المنهج الأساسية هي اعتماد النسقية المركبة واكتشاف القوانين التي تساعد في دراسة العلاقات التي تربط بين مجالات الظاهرة المختلفة بشكل يحفظ للإنسانية طابعها التركيبي. وهو بذلك تجاوز النظر التجزيئي الذي لا يمكن أن يفسر الظاهرة الإنسانية. فالأساس إذن، في بناء النموذج المثالي حسب ما يرى ڨيبر هو التشديد على فكرة ما، أو عدة أفكار، أو على وجهة نظر ما، أو عدة وجهات نظر واستخراج طائفة من الحوادث المعزولة، الغامضة والخفية، التي يكثر العثور عليها أحياناً أو يتضاءل وربطها بوجهات النظر المختارة من أجل أن ننشئ منها لوحة متجانسة (فياض، 12.11.2023).
خلاصة القول، إن النموذج المثالي يمثل مفهوماً مركزياً في الفكر الڨيبري وقد يأتي وصف المثالي في سياق هذه المنهجية مضللاً، فليس القصد بالمثالي هنا المتكامل الخالي من العيوب، بقدر ما هو تعبير عن وضع أو حالة يتم من خلالها تمييز نظام اجتماعي، قد يكون المثال هنا بمثابة الوسيلة المنهجية التي تضطلع بمهمة تمييز سمات هذا النظام، وتوفير وسيلة تطبيقية للباحثين من أجل فرز المكونات وحصر مجال البحث والتدقيق، مع المرونة التي يتم اسباغها على البحث، مع القابلية للتعديل. إنها المحاولة المعرفية المتطلعة نحو فهم الواقع من خلال التوجيه نحو كل ما يتعلق بالأفراد من أفعال وعلاقات.
وفي النهاية نستنتج أن دراسة معاني الفعل الاجتماعي حسب ڨيبر تتطلب وجود أداة منهجية أطلق عليها النموذج المثالي وهو عبارة بناء عقلي يتشكل من خلال ظهور أو وضوح سمة أو أكثر أو وجهات نظر يمكن ملاحظتها في الواقع ومعنى ذلك أن ركائز المقاربة المنهجية الڨيبرية تتكون من النموذج المثالي، ونسق المعاني من خلال فهم الفعل الاجتماعي وتأويله. ومعنى ذلك أن ڨيبر أقام نماذجه المثالية كأطر تصورية مجردة، واستخدمها كأدوات منهجية لتحقيق الفهم السوسيولوجي في دراسة أنماط الفعل والعلاقات الاجتماعية والظواهر السسوسيو- ثقافية في إطار ثقافة معينة وهذا ما فعله عندما ربط ما بين روح الرأسمالية والأخلاق البروتستانتية على اعتبار أن الأخيرة تمثل النموذج المثالي لنمو وتطور الرأسمالية الغربية.
فقد سعى ڨيبر بكل إمكاناته المعرفية والمنهجية أن يبرهن على أن الرأسمالية تعد نظاماً اجتماعياً واقتصادياً في العصر الحديث، وهي في مجملها نتاجاً طبيعياً للدين البروتستانتي وما يقوم عليه من مبادئ وقيم ومعتقدات وتصورات دينية ومجتمعية خاصة الكالفينية منها التي توجه الحياة اليومية والأنشطة الاقتصادية المنتجة مثل: الادخار، والاستثمار، والعمل، والإنتاج، واحترام المهن وقدسيتها.
إلا أن ڨيبر وبرؤية موضوعية كان متحيزاً في جانب مهم من آرائه وأفكاره عندما ركّز على عوامل ظهور وتطور الرأسمالية الغربية خاصةً في مناطق معينة من المجتمعات الأوروبية، حيث بنى مجمل تصوراته بناءً على مذاهب مسيحية معينة دون غيرها باعتبارها النموذج المثالي لتطور الرأسمالية الغربية. إلا أن ظهور الرأسمالية في أواخر القرن العشرين في مناطق أخرى من العالم وبالأخص جنوب شرق آسيا (اليابان - على سبيل المثال - التي تدين بديانة أرضية تدعى الشنتو) أفقدت تصورات ڨيبر حول نشأة الرأسمالية الغربية وعلاقتها بالأخلاق البروتستانتية الكثير من مصداقيتها العلمية والواقعية.
----------------------------------------
- مراجع المقال:
- أبو شنب، جمال. (2008). السلوك الاجتماعي – الاتجاه السلوكي في نظرية علم الاجتماع. ط1، دار المعرفة الجامعة. الإسكندرية.
- الحيدري، إبراهيم. (1990). جدلية الحوار حول أطروحة ماكس ڨيبر " الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية ". مجلة العلوم الاجتماعية. المجلد: 18. العدد:1. الكويت.
- الربيعي، إسماعيل نوري. (2015). أن تأكل جيداً؟! ڨيبر والعقلانية الألمانية. مجلة دراسات وأبحاث. المجلد: 07. العدد: 18. الجزائر.
- السيد، رضوان. (1997). سياسات الإسلام المعاصر مراجعات ومتابعات. ط1. دار الكتاب العربي. بيروت.
- بارسونز، تالكوت. (1949). بنية الفعل الاجتماعي – دراسة في النظرية الاجتماعية مع إشارة خاصة إلى مجموعة من الكُتَّاب الأوروبيين الجدد. ط2. المطبعة الحرة. الولايات المتحدة الأمريكية.
- بيومي، محمد أحمد. (1985). علم الاجتماع الديني. ط1. دار المعرفة الجامعية. الإسكندرية.
- تيماشيف، نيقولا. (1978). نظرية علم الاجتماع طبيعتها وتطورها. ط5. الكتاب: الثاني. (ترجمة: محمود عودة وآخرون). (مراجعة: محمد عاطف غيث). سلسلة علم الاجتماع المعاصر. دار المعارف. القاهرة.
- جيدنز، أنتوني. (2005). علم الاجتماع (مع مدخلات عربية). ط1. (ترجمة وتقديم: فايز الصياغ). المنظمة العربية للترجمة. توزيع مركز دراسات الوحدة العربية. بيروت.
- جيدنز، أنتوني. (ب.ت). الرأسمالية والنظرية الاجتماعية الحديثة (تحليل كتابات ماركس ودوركهايم وماكس ڨيبر). ب.ط. (ترجمة: أديب يوسف شيش). الهيئة العامة السورية للكتاب. دمشق.
- زكريا، براق. (2011). ماكس ڨيبر: الدين وأخلاق العمل والرأسمالية. مجلة التفاهم. العدد: 034. وزارة الأوقاف والشؤون الدينية بسلطنة عُمان. عُمان.
- عبد النور، محمد. (2017). منهج الفهم عند ماكس فيبر. صفحة الدكتور محمد عبد النور. جامعة غرداية. https://2u.pw/ZusfdYWq
- فياض، حسام الدين. (2021). المدخل إلى علم الاجتماع – من مرحلة تأصيل المفاهيم إلى مرحلة التأسيس. ط1. سلسلة نحو علم اجتماع تنويري. الكتاب: الأول. الجزء: الأول. مكتبة الأسرة العربية. إسطنبول.
- كلاخي، يوسف. (2012). قراءة في كتاب أخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية لماكس ڨيبر. الحوار المتمدن. يوسف الكلاخي - قراءة في كتاب أخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية لماكس فيبر
- فياض، حسام الدين. (12.11.2023). أسس المنهج المعرفي عند عبد الوهاب المسيري (قراءة في الفكر العربي المعاصر). موقع الحوار المتمدن. العدد: 7793. حسام الدين فياض - أسس المنهج المعرفي عند عبد الوهاب المسيري ( قراءة في الفكر العربي المعاصر )
- فياض، حسام الدين. (2024). منهجية الفهم والـتأويل عند ماكس ڨيبر ”إنك تدرس لكي تفهم“ (دراسة تحليلية – نقدية). مجلة ريحان للنشر العلمي. المجلد: 7. العدد: 48. سوريا. ص(292-325).
[HR][/HR]
* جون بابتيست بوكلان (بالفرنسية: Jean-Baptiste Poquelin) المُلقب موليير (Molière) (باريس 15 يناير 1622 - 17 فبراير 1673)، مؤلف كوميدي مسرحي، وشاعر فرنسي، ويعد أحد أهم أساتذة الهزليات في تاريخ الفن المسرحي الأوروبي ومؤسس " الكوميديا الراقية ".
د. حسام الدين فياض
الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة
قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً