د. أحمد الحطاب - كم نحن بعيدون كل البعد عن ما يجري هناك

وأنا أبحث في الشبكة العنكبوتية عن موضوع له علاقة بالسياسة، عثرتُ على فيديو يحكي كيف يقضي بعض الوزراء النروجيين ministres norvégiens يومَهم في العمل.
ما شدَّ انتباهي في هذا الفيديو هو التَّواضع الذي يتميَّز به هؤلاء الوزراء، سواء على مستوى أثاث مكاتبهم أو على مستوى نشاطهم اليومي.

حينها، أحسستُ بامتعاض واستياء شديدين، وفي نفس الوقت، خَجِلْتُ بالنيابة عن وزرائنا ومسئولينا ومُنْتَخَبِينا الذين أغلبهم (بما فيهم الأمِّيين)، شعارُهم اليومي هو الكبرياء والاستعلاء على الناس.

ثم تساءلتُ مع نفسي التي خامرها الشك وطرحتُ عليها سؤالا مُحَيِّراً : "ماذا يُمَيِّز الإنسانَ الأسكندينافي scandinave (النرويجي والسويدي والفنلندي والدانمركي) عن الإنسان المغربي؟".

بالطبع، العلم يقول بأن تركيبتَهما البيولوجية والفيزيولوجية متشابهة بحكم انتمائهما لفصيلة حيوان يدعى الأنسان العاقل Homo Sapiens. فلهما نفس الدماغ cerveau ونفس الأعضاء organes ونفس الأجهزة الوظيفية appareils fonctionnels. بل أكثر من هذا، فإن التركيبة البيولوجية والفيزيولوجية للإنسان النرويجي والإنسان المغربي شبيهة إلى حد كبير بتركيبة بعض الحيوانات وخصوصا منها تلك التي تنتمي إلى فصيلة الثدييات mammifères التي ينتمي لها الإنسان نفسُه.

فماذا يميز، إذن، الإنسان النرويجي والإنسان المغربي عن الحيوانات الثديية (قطط، أنعام، أرانب، كلاب، أسود، ضباع، فيلة، فئران، ثعالب، ذئاب، الخ.) ما داما ينتميان إلى نفس الفصيلة؟
العقل وما أدراك ما العقل. تلك النِّعمة التي فضّل الله، سبحانه وتعالى، بها البشر عن جميع مخلوقاته، وليس فقط عن الثدييات. أي أن البشر هم أُولو الألباب، أولو النُّهى، أي العقلاء والواعون بما يُحيط بهم من مُكوِّنات حية وغير حية، و واعون، كذلك بما يجري حولهم من أحداث وما يُسيِّر هذا الكونَ من ظواهر.

الإنسان النرويجي والإنسان المغربي (ليس المقصود جميع المغاربة) لا يختلفان من حيث امتلاك مَلَكَةِ العقل، العقل الذي ينفرد به الإنسانُ بين مخلوقات الأرض. إذن، فأين يوجد الاختلاف ما داما متشابهين بيولوجياً وفيزيولوجياً ولهما نفس مَلَكَةِ العقل؟ هنا بيت القصيد!

الاختلاف كل الاختلاف يكمن في كيفية استعمال العقل. الإنسان النرويجي يستعمل عقلَه ليُسعدَ نفسَه، وفي نفس الوقت، ليُسعِدَ الإنسان النرويجي. الإنسان النرويجي الذي يعطى له اعتبار وتُصان كرامتُه ويتمتَّع بحقوقه ويقوم بواجباته عن طواعية. الإنسان النرويجي الذي بالنسبة له لا شيء يعلو على مصلحة الوطن. الإنسان النرويجي الذي بالنسبة له، لا فرقَ بين حاكم ومحكوم وبين مواطن وآخر إلا في التّفنُّن في الإخلاص للوطن.

فلا غرابة إذن أن :

1.تُصَنَّف النرويج من بين أغنى بلدان العام
2.تكونَ سياستها الاجتماعية من أرقى السياسات
3.تتصدَّر مند سنوات التَّصنيف العالمي للتنمية البشرية
4.تُصنَّف من أحسن البلدان دَمَقْرَطَةً
5.تُصنَّف من أحسن البلدان أمنا وأمانا
6.تُصنَّف من الأوائل في العالم من حيث ممارسة الحريات العامة.

هذا هو جزاء مَن أخلص ويُخلِص في عمله وأدى ويؤدِّي مسئوليتَه بإتقان وتواضع ويجري في دمه حب الوطن.
الإنسان النرويجي، سواءً كان مسئولا أو من عامة الناس، لا يرى في أخيه الإنسان النرويجي إلا مواطناً بغض النظر عن كونه مُتديِّنا أو غير مُتديِّن، مُلحِدا أو غير ملحد، كافرا أو غير كافرٍ، مسلم، مسيحي، يهودي… ما يهمُّ الإنسان النرويجي هي المواطنة la citoyenneté، أي المواطنة التي تساوي بين الناس النرويجيين وتجعل منهم أفرادا يتمتَّعون بحقوقهم المشروعة، وعلى رأسها، الكرامة الإنسانية la dignité humaine، ويؤدُّون الواجبات على أحسن ما يُرام.
ولهذا، فالمسئولية، في القاموس السياسي النرويجي، ليست تشريفا أو امتيازا. بل تكليفٌ أساسُه المواطنة ولا شيءَ آخرَ غير المواطنة. بل التَّكليف بالمسؤولية يقترن، عند المواطن النَّرويجي، بالتواضع. والتَّواضع المقترِن بالمسئولية له انعكاساتٌ إيجابية على تسيير شؤون الدولة. كيف ذلك؟

رغم أن النرويج تُعدُّ من أغنى بلدان العالم، فحياة المسئولين الإدارية مبنيةٌ على الزُّهد واجتناب البذخ. وقد تأكَّدتُ من ذلك من خلال الفيديو الذي أشرتُ إليه أعلاه. النرويج Norvège بلدٌ غني، لكن نفقاتِه على تسيير شؤون الوزارات ضعيفةٌ بالمقارنة مع بلدان أوروبية وغير أوروبية، وخصوصا، بالمقارنة مع بلدانٍ عربية، حيث البذخ في تأثيث المكاتب والمبالغة في نفقات السيارات والمأدبات والسكن الوظيفي والأسفار…

كم نحن بعيدون كل البعد عن ما يجري في هذا البلد الذي شعاره، حسب تقديري : "سعادة الإنسان (المواطن) ومصلحة الوطن".

يا لها من مفارقة عجيبة في استعمال العقل. عندنا، يُستبدلُ التواضع بالكبرياء وبالاستعلاء على الناس، وخصوصا، والعِياذ بالله، عندما يتعلق الأمر بمُنْتَخَبِين أمِّيين وجهلاء لا يفرقون بين "الليف والزرواطة". بينما في النرويج حيث لا يوجد ولو أمي واحد، ترى التواضع هو وقود الحياة اليومية.

وهذا التواضع الذي تتميز به العلاقات بين المواطنين ويعمل به المسئولون كبارا وصغارا وزراء ومنتخَبين. هذا التواضع الذي يُستبدل عندنا بالمكاتب والسيارات الفاخرة وبالخدم والحَشَم وبالامتيازات والتعويضات والمأدبات، الخ.

إنه فعلا لأمر غريب! في بلاد غني، يُحسب كل حساب للنفقات العمومية، وخصوصا، إذا كانت زائدة (غير ضرورية) بينما في بلاد مواردها محدودة، البذخ هو القاعدة. وهو ما دفعني إلى اختراع فعلٍ جديدٍ سمّيتُه norvégiser، أي، إن صحَّ القولُ"نَرْوَجَ". والمعنى الذي أقصده من هذا الفعل هو إدخال تغييرات على بلدٍ ما ليصبح مشابها للنرويج.

كم تمنَّيتُ أن "يَتَنَرْوَجَ" مسئولونا ومُنْتَخَبُونا لأن الأمرَ ليس أمرا متعلِّقا بدين أو تديُّن. بل الأمر، بكل بساطة، يتعلَّق بالأخلاق والقيم السامية التي حثَّ عليها ديننا الإسلامي منذ أكثر من 14 قرنا، والتي، بكل أسف، أبدى الكثير من مسئولينا ومُنْتَخَبِينا براعة في تجاوزها وتحريفها.

بالعكس، إن ديننا الجنيف يحث على التَّواضع في التَّعامل مع الناس وبينهم. ولعلَّ خيرَ مثال يمكن سياقُه، في هذا الصدد، هو التَّواضغ الذي كان يطبع تصرفات الرسول محمد (ص) مع جميع الناس، بغض النظر عن انتمائهم العرقي، الاجتماعي، النَّسَبي، الديني… كان يعامل الناسَ على قدم المساواة. فكان (ص) يرفض أن يمدحَه الناس. كما كان للرسول (ص) تصرُّفٌ يتَّسِم بجرعة كبيرة وعالية من القيم الإنسانية التي، من المفروض، أن يتَّسِمَ بها، باسم الإسلام، وزراءُنا ومسئولونا ومُنتَخَبونا.
فلماذا مسئولونا ومُنتخَبونا السياسيون لم يقتبسوا مِن الرسول (ص)، على الأقل، تواضعَه وبساطتَه في التَّعامل مع الناس؟

لأن مسئولينا ومُنتَخَبين أدركوا ويُدركون المسئولية بكيفية خاطئة. فعوضَ أن يعتبروا المسئولية تكليفاً، اعتبروها تشريفا. وعِوضَ أن يعتبروها أمانةً، اعتبروها غنيمةً تفتح لهم أبوابَ الاغتناء السريع غير المشروع.

والغريب في الأمر أن النرويج، من منظور ديني إسلامي، مصنَّفة في خانة البلدان الأوروبية الكافرة. فكيف لبلدٍ مصنَّفٍ كبلد كافر، يُطبِّق على أرض الواقع قيماً إنسانيةً، كان، من المفروض، أن تكونَ هي المُوجِّهُ الأساسي لسلوك وتصرُّفات وأعمال المسئولين المسلمين.
وإن لم تُصدِّقوا ما أقوله، أدعوكم للاطِّلاع على التصنيفات العالمية التي تبيِّن بوضوح أن بلادَنا بعيدةٌ كل البعد عن ما يُسمَّى "كرامةَ الإنسان" la dignité humaine. فستجدون أن بلادَنا تحتل المراتب الأولى فيما يخص انتشار الرشوة والفساد، والمراتب المتأخِّرة فيما يخص التنمية البشرية وجودة التعليم ومعاملة النساء والبحث العلمي وانتشار الأمية وترتيب الجامعات…

العِبرة لمن أراد أن يعتبر! ولك الله يا وطني!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى