د. نور الدين السد - سلطة اللاوعي...

إن مكونات السجل الرمزي والإشاري والعلامي مشفرة في اللاوعي، ومن خلالها يمارس اللاوعي سلطته وهيمنته، ويبدو السجل الرمزي في البنيات الثقافية بأنواعها وأجناسها، ويتجلى في الأعمال الأدبية والفنية والفكرية والفلسفة وسواها.. كما يتجلى في الخطابات المكتوبة والملفوظة عامة،
إن اللاوعي يمارس سلطته من خلال السجل الرمزي الذي يبدو في مجموع المفاهيم الأخلاقية وتمظهراتها عبر العادات والتقاليد والأعراف، وما يصدر عنها من طبائع سلوكية لدى الأفراد والجماعات، وهي جميعها تشكل منظومة القيم الثقافية المتوارثة عبر الأجيال، باعتبارها نتاج ممارسة اجتماعية، بل إن السجل الرمزي يعتبر من المكتسبات المتجذرة في اللاوعي الجمعي عبر سيرورته التاريخية، وهذه المكتسبات الرمزية المتجذرة في اللاوعي تمارس سلطتها على الأفراد والجماعات، وفق السياقات، والشروط التاريخية، وحسب الظروف الاقتصادية والسياسية التي تمر بها المجتمعات، كما يستمد اللاوعي سلطته من متراكم المنظومة القيمية وأنساقها المضمرة، وهذه السلطة لا تدرك إلا من خلال البحث في السجل الرمزي المخزون في اللاوعي الفردي والجمعي وتأويل دلالاته وبناء معانيه..
علما أن المتراكم في السجل الرمزي على مستويي الوعي واللاوعي هو الذي يشكل شخصية الفرد ويحدد هوية الجماعة، وهو الذي يحرك أنماط السلوك عند الأفراد والجماعات في الغالب الأعم، وعبر أنماط السلوك والإنجازات الفكرية والأدبية والفنية والممارسات السياسية وسواها، يعاد إنتاج السجل الرمزي في الممارسة الاجتماعية بوعي وبدون وعي، بمعنى أن سلطة اللاوعي لها دور وظيفي في إعادة إنتاج البنية الثقافية، على الرغم من أن القيم والمبادئ والرموز والعلامات والإشارات والبنيات الثقافية عامة تتغير؛ إلا أن تغيرها وتطورها يتم ببطئ وصعوبة، لأن سلطة اللاوعي لا تتخلى عن السجل الرمزي المنمط في الذاكرة الفردية والجماعية بسهولة، ولا تسمح سلطة اللاوعي بتغييره أو تطويره بسهولة، كما أنه لا يمكن استئصال أنماط التفكير والسلوك، وإحلال بنيات ثقافية وسجلات رمزية، وأنماط تفكير وسلوك؛ بديلة محلها بشكل آلي وبيسر، مهما كانت منظومة القيم حداثية وتقدمية وعصرية، فإن أي محاولة للتغيير تواجه رفضا ومقاومة وممانعة اجتماعية في بداياتها، أو على الأقل من جماعات الضغط، لأن مسألة استخلاف السجل الرمزي والقيمي المتوارث، والمشكل لسلطة اللاوعي عملية شاقة وصعبة ومحرجة ومربكة، لأنها تخلخل بنيات ثقافية وسجلات رمزية قارة، ومتجذرة في اللاوعي الفردي والجمعي، وإذا تمت عملية استخلاف السجل الرمزي لدى الأفراد والجماعات؛ فإنها تتم عبر ممارسات عنفية في الأغلب الأعم، ونادرا ما تتم بسلاسة ولطف، وتخضع عمليات الانفلات من سلطة اللاوعي عبر فترات زمانية طويلة المدى، ويحتمل ألا يتحقق من حركية تغيير السجل الرمزي والإشاري والعلامي إلا النزر اليسير؛ ذلك أنه من الصعوبة بمكان تغيير الطبائع والقناعات والمعتقدات والأفكار والقيم والسلوك الإنساني في وقت قصير أو زمن قياسي..
فمحاولة تأصيل أنظمة الحكم على أسس ديمقراطية حقة، ومحاولة الدفاع عن تحرر الشعوب وتقرير مصيرها، والدفاع عن حقوق الإنسان، والعدالة، والمواطنة الحقة، وسواها من القيم والمفاهيم، والبنيات الثقافية والقانونية والسياسية يحتاج تجذيرها إلى طول نفس، وطول مراس، ومتابعة جادة، وعمل دؤوب لإدراجها في السجل الرمزي، وتجذيرها على مستوى الوعي واللاوعي الفردي والجمعي حتى تتحقق بشكل فعال، وتبرمج اللاوعي على ممارسة سلطته وفق منظور نموذجي جديد يتلاءم مع تطلعات المجتمع، ويكون لها انعكاسها الإيجابي على مستوى الممارسة الاجتماعية، وترقية الوعي الإنساني في جميع مجالات الحياة، وكما نجد في سلطة اللاوعي وسجله الرمزي مؤشرات إيجابية بعمق إنساني، لا نعدم وجود علامات ورموز وإشارات سلبية؛ وذلك هو حال معظم السجلات الرمزية في معظم المجتمعات...

د/ نورالدين السد -الجزائر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى