بينما كنت أقلب أوراقي ، لفتت نظري قصة ، كتبتها في عام 1947 .. بكيت و ضحكت في آن واحد ، بكيت لروعة الذكرى ، وضحكت للأسلوب " الرومانتيكي " الذي كتبت به قصتي آنذاك ، و للدموع التي ذرفتها خلال السطور . كان عنوان القصة " آمال ذاوية " .. و هاأنا بعد عشر سنوات أعيد كتابة هده القصة في عام 1957 .
كنت موظفاً في محطة سكة الحديد في إحدى قرى لبنان ، وكنت مراهقاً ، أنظر إلى الجدران الصامتة حوالي في المكتب المنعزل البعيد عن الأحياء نظرات أليمة ، و أنطلق من الغرفة الموحشة إلى العراء ، و أود لو جمعت النجوم ، وعانقت السماء ، و قتلت الأرض . كانت كل ذرة في جسدي و كل خلية تناضل لتنطلق . وكانت القيود القاسية تكبلني إليها ، فأظل أحترق ، ومع هذا كنت أهيم في البراري البعيدة وحيداً ، أستمع إلى صرير الجنادب ، وصراخ بنات آوى ، وأرى الطيور الشاردة عبر الأودية و الجبال ، وأنا أفتش عن هذا الشيء الضائع الغريب عني .
عند عودتي من رحلتي ذات يوم ، بعد أن كلت قدماي من التنقل عبر التلال ، وعيناي تعبتا من النظر إلى السماء والتحديق إلى متاهاتها المجهولة ، كنت كالتائه المتعب يعود إلى الديار ، بعد أن ألقى عن كاهله أعباء الحنين والوحدة . ومن كوة نافذة مكتب المحطة الشاحب ، المحاط بجلال الصمت ، و وحشة المغيب رأيتها . كانت تستند إلى نافذة قطع التذاكر بوجهها الفتي الناعم ، و عينيها العسليتين الضاحكتين ، وفمها الباسم الرقيق الفاتن ، كانت جميلة ، و يزيدها جمالاً الشحوب الرائع المحيط بعينيها البراقتين ، وخاصة الشال الصوفي فوق شعرها الطويل الناعم .
أشعلت ضوء الكاز ، وعدت أنظر إليها من جديد . كانت تبتسم ، حييتها فردت علي تحيتي و سألتني عن موعد القطار .
كانت ثمة زنبقة تتعلق بثوبها الأبيض المحتشم ، و كانت خصلة من الشعر ترف حول جبهتها البيضاء الناصعة ، كانت لا تنفك تبتسم . اقتربت أكثر من الحاجز الخشبي ومن الكوة . كانت فراشة بيضاء قد غرها ضوء المصباح ، فانطلقت تحوم حوله ، وتعلقت عينا الصبية بالفراشة . و تمتمت :
_ إنها بشارة خير .
لكن سرعان ما احترقت الفراشة و هي تقترب أكثر وأكثر من الضوء ، وكاد المصباح ينطفىء ، لكن جناحي الفراشة الواهنين اشنعلا ، و عاد الضوء إلى الاحتراق و التوهج .
كنت أود أن أعلق على الحادث ، لأنني أنا الآخر كنت أحترق ، وكنت أرى الضوء الساطع ، و الجمال الملائكي الأخاذ قرب الكوة ، مدت يدها إلي بالنقود وهي تبتسم ، واقتربت يدي من يدها ، لا لتأخذ النقود ، وإنما لتلمس البشرة الناعمة ، أحسست بيدها الغضة الطرية في يدي ، فسحبتها ببطء وهي تردد :
_ أرجو أن تقطع لي تذكرتين .. لي ولعمتي .. هل يتأخر القطار ؟
لم أكن قد رأيت عمتها بعد . كانت تجلس في غرفة الانتظار ، متكومة على نفسها ، أشبه ماتكون برزمة عيدان يابسة . لكنني عندما أدرت الضوء ، وتأملت الوجه المملوء بالأخاديد ، ورأيت شعرها المبعثر وعينيها الزرقاوين . علمت أنها كانت تتمتع بقسط وافر من الجمال أيام الشباب ، غير أن الشباب مضى ، و هي تنظر إلى الشباب في ابنة أخيها الحسناء ، التي تنظر إلي ، وأكاد ألتهمها بعيني ، وتبتسم .
لم أكن أدري إن كان من سوء الحظ أو حسنه أن القطار لم يصل تلك الليلة . كل ماأدريه هو أن بعض العطل الفني ، أخر مجيئه عدة ساعات .
انطلقت أتحدث إلى نعمة ، وتتحدث إلي ، ومضينا عصفورين شاردين في الظلام . كانت بخصرها المتأود تسير قربي ، وبصوتها الناعم الحلو تحدثني عن البؤس و الألم ، اللذين يحيطان بحياتها . وعن سفرها الآن وأول مرة من القرية لرؤية أختها المتزوجة في بيروت .
كنت أرغب في ضمها إلي وتقبيلها ، لكنني أبيت ذلك ، إنما ظلت يدي تطبق على يدها الناعمة ، كأنها الندى الذي أخذ الآن مع الفجر يخضب أكمام الورد ، و كالنسيم المنطلق يداعب الماء المتسلسل في الساقية عبر الوادي ، كنا مع انطلاق الموجة نمشي ، ونركض ، ونعبث ، و نتضاحك .
عندما عدنا إلى المحطة ، كانت عمتها نائمة ، وكان صوت القطار المقبل قد أخذ يضج خلال الأودية البعيدة ، محملاً بالأجساد الحية ، ليبصقها على دفعات عبر الطريق .
ألقى القطار قسماً من ركابه في محطتنا ، وحمل نعمة وعمتها إلى بيروت . عندما كانت الصغيرة تصعد إلى القطار ، أخذتها بيدي وقلت لها :
_ أحبك .
صفر القطار صفراته الثلاث ، معلناً عن سيره .. لمحت دمعة تترقرق في عينيها . ثم ارتفعت يدها تلوح لي ، والقطار يبتعد .
لم أعد أشعر بالوحشة التي كنت أحسها بين جدران المكتب الأربعة ، لم أعد أنطلق وحيداً كالتائه عبر الأودية البعيدة . إنما كنت أنتظر بصمت عودة نعمة من بيروت .
لم أعد أحس بجنون الصمت وثقل الوحدة وألم الكبت وحرارة الحرمان . إنما كنت أحس بامتلاء ولاامتلاء . وأحس بالنشوة وحلاوة الدكرى .
مع الصباح ، وعودة السنونو إلى ديارنا عادت نعمة من بيروت . ركبت أمامها على ظهر الحمار ، وانطلقنا إلى القرية . لم أشعر بطول الطريق كما كنت أشعر من قبل ، عندما كنت أذهب إلى القرية لشراء بعض الحاجات ، بل العكس ، أحسسته قصيراً ، وكأنني في هودج ، ويدها تلمس ذراعي ، وأنفاسها تداعب أذني ، وصدرها الناهد يلامس ظهري .
رآنا القرويون على ظهر الحمار . وسرى الخبر في القرية سريعاً ! و انتقل الهمس كما تنتقل النار في الهشيم .
أنا و نعمة قرب الموقد ، حيث تنضج على جمراته كيزان الذرة ، وكنت أستمع إليها تتحدث ، متأملاً الجمال الأخاذ و البراءة المحببة و اللطف الساحر .
ودعتها على أمل لقاء قريب . وانصرفت . ولكن ! مضيت أستمع إلى الألسنة ، و تردد أمامي مختلف الإشاعات :
_ الفتاة ليست نظيفة ، عمتها سيئة السلوك .
_ أختها مومس و مريضة .
_ مادا ذهبت ( المقصوفة ) تصنع في بيروت ؟
_ موظف المحطة ( ابن أوادم ) ، يا حرام ! ينحدر إلى هده الطبقة !
وحتى رشيد صديقي ، قال لي ونحن نجتاز باحة القرية :
_ إنها مومس .
وزاد على ذلك يونس بائع القماش المتجول ، وأمام عشرات الشباب :
_ أنا أقتلها .
وغمز بعينه العوراء ، فضحك الشباب .
صدقت ودفنت حبي . صدقت لأنني منت صغيراً ، ولم أدر أن الناس يكذبون ، ويثرثرون بهدا المقدار . كل ما أذكره أنني أصلحت أحضر إلى القرية كل يوم تقريباً ، لأجلس في مقاهيها ، وأشرب مع الشاربين ، وأثرثر مع المثرثرين .
مرضت الصغيرة الحسناء ، ومرضت لأنني انصرفت عنها بلا سبب . فقد استمعت إلى ثرثرة الضعفاء / وانخرطت في اجتماعاتهم .
سألت عنها ، فقيل لي إنها عادت من المصح ، بعد أن تحسنت صحتها . وسمعت أنها تزوجت هذا الذي حدثني عن انحراف سلوكها أول مرة : رشيد .
بالأمس القريب مررت في القرية ، القرية نفسها التي سلخت بها أجمل فترة من عمر الشباب . كنت أتحسس كل جدار من جدرانها ، وأرى الوجوه الشاحبة التي كنت أراها منذ سنوات طويلة خلت : طريق العين تتوسط القرية ، و القرويات المتأودات الأعطاف بجرارهن المملوءة ، المتراقصة على رؤوسهن . بعض الرجال كانوا يعرفونني ، حيث أسمع اسمي يتردد على ألسنتهم . بعضهم يتشجع فيسلم علي . كنت أعرف بعضهم ، وبعضهم أتظاهر بمعرفته ، كي لا يخجلوا .
كانت الرؤى تترافص من حولي . صور قديمة تمر في خيالي ، ثم تدوب و تتلاشى كالسنوات الطويلة ، التي خلفتها ورائي . تمر الأحداث ، بعضها يشعرني بالسعادة ، وبعضها يحز في نفسي المتألمة . كنت ساهماً في طريق القرية ، أرى الوجوه تنداح حولي في الطريق نفسها ، وفي الحوانيت الصغيرة نفسها . بعض الناس يقتعدون الرصيف كما في الماضي ، نظرت إلى السماء ، وقلت :
_ إنها الشمس نفسها ، والشمس الخالدة التي تضيء الأرض منذ كرات الملايين من السنين ..
رأيت صغيرة بريئة ، تركب حماراً خلف قروي شاب ، وتتعلق بكتفه ، فأحسست بأعباء السنين التي مرت ، ولاتزال تمر ، وتذكرت نعمة .. تراءت لي بابتسامتها الحلوة و الحمار يمضي بالحبيبين ، والشارع يستطيل ، والذكريات تتهافت ، والأحلام تذوب .. استيقظت على صوت رفيقي ، يقول لي : لمادا أنت صامت لاتتكلم ؟
كان بعض القرويين يعودون من الحقول ، وكانت هنالك امرأة ضعيفة ، مغضنة الوجه يحيط بها بعض الأطفال ، يسوقون خرافاً ، يحملون بعض خيرات الحقل .. كانت هزيلة جداً ، تظهر معالم الإعياء على وجهها الضعيف .. غضت من نظرها قليلاً ، بعد أن أطالت النظر إلي .. لاأدري إن كانت عرفتني ، أما أنا فقد عرفتها ، إن لها العينين نفسهما .. عينا نعمة .
كانت الشمس تنحدر نحو المغيب عندما غادرنا القرية ، بعد أن مررنا ببعض الأصدقاء القدامى . وكالشمس كنت أنحدر في طريق المغيب ، مودعاً القرية ، التي شهدت فجر شبابي الأول .
رياض نصور
نُشرت في مجلة ( الأحد ) العدد ( 348 ) ، عام 1957
كنت موظفاً في محطة سكة الحديد في إحدى قرى لبنان ، وكنت مراهقاً ، أنظر إلى الجدران الصامتة حوالي في المكتب المنعزل البعيد عن الأحياء نظرات أليمة ، و أنطلق من الغرفة الموحشة إلى العراء ، و أود لو جمعت النجوم ، وعانقت السماء ، و قتلت الأرض . كانت كل ذرة في جسدي و كل خلية تناضل لتنطلق . وكانت القيود القاسية تكبلني إليها ، فأظل أحترق ، ومع هذا كنت أهيم في البراري البعيدة وحيداً ، أستمع إلى صرير الجنادب ، وصراخ بنات آوى ، وأرى الطيور الشاردة عبر الأودية و الجبال ، وأنا أفتش عن هذا الشيء الضائع الغريب عني .
عند عودتي من رحلتي ذات يوم ، بعد أن كلت قدماي من التنقل عبر التلال ، وعيناي تعبتا من النظر إلى السماء والتحديق إلى متاهاتها المجهولة ، كنت كالتائه المتعب يعود إلى الديار ، بعد أن ألقى عن كاهله أعباء الحنين والوحدة . ومن كوة نافذة مكتب المحطة الشاحب ، المحاط بجلال الصمت ، و وحشة المغيب رأيتها . كانت تستند إلى نافذة قطع التذاكر بوجهها الفتي الناعم ، و عينيها العسليتين الضاحكتين ، وفمها الباسم الرقيق الفاتن ، كانت جميلة ، و يزيدها جمالاً الشحوب الرائع المحيط بعينيها البراقتين ، وخاصة الشال الصوفي فوق شعرها الطويل الناعم .
أشعلت ضوء الكاز ، وعدت أنظر إليها من جديد . كانت تبتسم ، حييتها فردت علي تحيتي و سألتني عن موعد القطار .
كانت ثمة زنبقة تتعلق بثوبها الأبيض المحتشم ، و كانت خصلة من الشعر ترف حول جبهتها البيضاء الناصعة ، كانت لا تنفك تبتسم . اقتربت أكثر من الحاجز الخشبي ومن الكوة . كانت فراشة بيضاء قد غرها ضوء المصباح ، فانطلقت تحوم حوله ، وتعلقت عينا الصبية بالفراشة . و تمتمت :
_ إنها بشارة خير .
لكن سرعان ما احترقت الفراشة و هي تقترب أكثر وأكثر من الضوء ، وكاد المصباح ينطفىء ، لكن جناحي الفراشة الواهنين اشنعلا ، و عاد الضوء إلى الاحتراق و التوهج .
كنت أود أن أعلق على الحادث ، لأنني أنا الآخر كنت أحترق ، وكنت أرى الضوء الساطع ، و الجمال الملائكي الأخاذ قرب الكوة ، مدت يدها إلي بالنقود وهي تبتسم ، واقتربت يدي من يدها ، لا لتأخذ النقود ، وإنما لتلمس البشرة الناعمة ، أحسست بيدها الغضة الطرية في يدي ، فسحبتها ببطء وهي تردد :
_ أرجو أن تقطع لي تذكرتين .. لي ولعمتي .. هل يتأخر القطار ؟
لم أكن قد رأيت عمتها بعد . كانت تجلس في غرفة الانتظار ، متكومة على نفسها ، أشبه ماتكون برزمة عيدان يابسة . لكنني عندما أدرت الضوء ، وتأملت الوجه المملوء بالأخاديد ، ورأيت شعرها المبعثر وعينيها الزرقاوين . علمت أنها كانت تتمتع بقسط وافر من الجمال أيام الشباب ، غير أن الشباب مضى ، و هي تنظر إلى الشباب في ابنة أخيها الحسناء ، التي تنظر إلي ، وأكاد ألتهمها بعيني ، وتبتسم .
لم أكن أدري إن كان من سوء الحظ أو حسنه أن القطار لم يصل تلك الليلة . كل ماأدريه هو أن بعض العطل الفني ، أخر مجيئه عدة ساعات .
انطلقت أتحدث إلى نعمة ، وتتحدث إلي ، ومضينا عصفورين شاردين في الظلام . كانت بخصرها المتأود تسير قربي ، وبصوتها الناعم الحلو تحدثني عن البؤس و الألم ، اللذين يحيطان بحياتها . وعن سفرها الآن وأول مرة من القرية لرؤية أختها المتزوجة في بيروت .
كنت أرغب في ضمها إلي وتقبيلها ، لكنني أبيت ذلك ، إنما ظلت يدي تطبق على يدها الناعمة ، كأنها الندى الذي أخذ الآن مع الفجر يخضب أكمام الورد ، و كالنسيم المنطلق يداعب الماء المتسلسل في الساقية عبر الوادي ، كنا مع انطلاق الموجة نمشي ، ونركض ، ونعبث ، و نتضاحك .
عندما عدنا إلى المحطة ، كانت عمتها نائمة ، وكان صوت القطار المقبل قد أخذ يضج خلال الأودية البعيدة ، محملاً بالأجساد الحية ، ليبصقها على دفعات عبر الطريق .
ألقى القطار قسماً من ركابه في محطتنا ، وحمل نعمة وعمتها إلى بيروت . عندما كانت الصغيرة تصعد إلى القطار ، أخذتها بيدي وقلت لها :
_ أحبك .
صفر القطار صفراته الثلاث ، معلناً عن سيره .. لمحت دمعة تترقرق في عينيها . ثم ارتفعت يدها تلوح لي ، والقطار يبتعد .
لم أعد أشعر بالوحشة التي كنت أحسها بين جدران المكتب الأربعة ، لم أعد أنطلق وحيداً كالتائه عبر الأودية البعيدة . إنما كنت أنتظر بصمت عودة نعمة من بيروت .
لم أعد أحس بجنون الصمت وثقل الوحدة وألم الكبت وحرارة الحرمان . إنما كنت أحس بامتلاء ولاامتلاء . وأحس بالنشوة وحلاوة الدكرى .
مع الصباح ، وعودة السنونو إلى ديارنا عادت نعمة من بيروت . ركبت أمامها على ظهر الحمار ، وانطلقنا إلى القرية . لم أشعر بطول الطريق كما كنت أشعر من قبل ، عندما كنت أذهب إلى القرية لشراء بعض الحاجات ، بل العكس ، أحسسته قصيراً ، وكأنني في هودج ، ويدها تلمس ذراعي ، وأنفاسها تداعب أذني ، وصدرها الناهد يلامس ظهري .
رآنا القرويون على ظهر الحمار . وسرى الخبر في القرية سريعاً ! و انتقل الهمس كما تنتقل النار في الهشيم .
أنا و نعمة قرب الموقد ، حيث تنضج على جمراته كيزان الذرة ، وكنت أستمع إليها تتحدث ، متأملاً الجمال الأخاذ و البراءة المحببة و اللطف الساحر .
ودعتها على أمل لقاء قريب . وانصرفت . ولكن ! مضيت أستمع إلى الألسنة ، و تردد أمامي مختلف الإشاعات :
_ الفتاة ليست نظيفة ، عمتها سيئة السلوك .
_ أختها مومس و مريضة .
_ مادا ذهبت ( المقصوفة ) تصنع في بيروت ؟
_ موظف المحطة ( ابن أوادم ) ، يا حرام ! ينحدر إلى هده الطبقة !
وحتى رشيد صديقي ، قال لي ونحن نجتاز باحة القرية :
_ إنها مومس .
وزاد على ذلك يونس بائع القماش المتجول ، وأمام عشرات الشباب :
_ أنا أقتلها .
وغمز بعينه العوراء ، فضحك الشباب .
صدقت ودفنت حبي . صدقت لأنني منت صغيراً ، ولم أدر أن الناس يكذبون ، ويثرثرون بهدا المقدار . كل ما أذكره أنني أصلحت أحضر إلى القرية كل يوم تقريباً ، لأجلس في مقاهيها ، وأشرب مع الشاربين ، وأثرثر مع المثرثرين .
مرضت الصغيرة الحسناء ، ومرضت لأنني انصرفت عنها بلا سبب . فقد استمعت إلى ثرثرة الضعفاء / وانخرطت في اجتماعاتهم .
سألت عنها ، فقيل لي إنها عادت من المصح ، بعد أن تحسنت صحتها . وسمعت أنها تزوجت هذا الذي حدثني عن انحراف سلوكها أول مرة : رشيد .
بالأمس القريب مررت في القرية ، القرية نفسها التي سلخت بها أجمل فترة من عمر الشباب . كنت أتحسس كل جدار من جدرانها ، وأرى الوجوه الشاحبة التي كنت أراها منذ سنوات طويلة خلت : طريق العين تتوسط القرية ، و القرويات المتأودات الأعطاف بجرارهن المملوءة ، المتراقصة على رؤوسهن . بعض الرجال كانوا يعرفونني ، حيث أسمع اسمي يتردد على ألسنتهم . بعضهم يتشجع فيسلم علي . كنت أعرف بعضهم ، وبعضهم أتظاهر بمعرفته ، كي لا يخجلوا .
كانت الرؤى تترافص من حولي . صور قديمة تمر في خيالي ، ثم تدوب و تتلاشى كالسنوات الطويلة ، التي خلفتها ورائي . تمر الأحداث ، بعضها يشعرني بالسعادة ، وبعضها يحز في نفسي المتألمة . كنت ساهماً في طريق القرية ، أرى الوجوه تنداح حولي في الطريق نفسها ، وفي الحوانيت الصغيرة نفسها . بعض الناس يقتعدون الرصيف كما في الماضي ، نظرت إلى السماء ، وقلت :
_ إنها الشمس نفسها ، والشمس الخالدة التي تضيء الأرض منذ كرات الملايين من السنين ..
رأيت صغيرة بريئة ، تركب حماراً خلف قروي شاب ، وتتعلق بكتفه ، فأحسست بأعباء السنين التي مرت ، ولاتزال تمر ، وتذكرت نعمة .. تراءت لي بابتسامتها الحلوة و الحمار يمضي بالحبيبين ، والشارع يستطيل ، والذكريات تتهافت ، والأحلام تذوب .. استيقظت على صوت رفيقي ، يقول لي : لمادا أنت صامت لاتتكلم ؟
كان بعض القرويين يعودون من الحقول ، وكانت هنالك امرأة ضعيفة ، مغضنة الوجه يحيط بها بعض الأطفال ، يسوقون خرافاً ، يحملون بعض خيرات الحقل .. كانت هزيلة جداً ، تظهر معالم الإعياء على وجهها الضعيف .. غضت من نظرها قليلاً ، بعد أن أطالت النظر إلي .. لاأدري إن كانت عرفتني ، أما أنا فقد عرفتها ، إن لها العينين نفسهما .. عينا نعمة .
كانت الشمس تنحدر نحو المغيب عندما غادرنا القرية ، بعد أن مررنا ببعض الأصدقاء القدامى . وكالشمس كنت أنحدر في طريق المغيب ، مودعاً القرية ، التي شهدت فجر شبابي الأول .
رياض نصور
نُشرت في مجلة ( الأحد ) العدد ( 348 ) ، عام 1957
رياض نصور (Riad Nassour)
رياض نصور (Riad Nassour), Latakia, Al Ladhiqiyah, Syria. 606 likes · 1 talking about this. رياض نصور (1923 - 2006) كاتب, قاص و شاعر. وُلد في حمص، وانتقل إلى اللاذقية عام 1948 حيث افتتح محل...
www.facebook.com