وماذا بعد جائزة "آسيا جبّار " للإبداع السردي ..؟ ها نحن اليوم أمام ضجّة غير مبرّرة ، لقرّاء يفترض أنهم مثقفون بدرجات متفاوتة ، و أصل الضجّة هو فوز رواية "هوّارية" للكاتبة المترجمة الجزائرية إنعام بيوض ، أكاد أجزم أن جلّ المعارضين لفوز الرواية لم يقرؤوها مثلما لم أقرأها أنا ، و تكون إثر ذلك كلّ مبرّراتهم واهية وغير مؤسّسة... فجأة صار جلّ الجزائريين نقّادا .....!
على صعيدي الخاص لا أؤيّد ولا أعارض ، ولا أؤلّب ضد أي شخص طالما لم أقرأ جلّ الروايات المشاركة في القائمة الطويلة وحتّى القصيرة ،لكنّني وعلى صعيدي الخاص أيضا لا يمكن بأية حال من الأحوال أن أشكّك في نزاهة وحنكة اللّجنة المكوّنة من السيد بورايو والسيدة آمنة بلعلى ،قامات نقدية عالية ، لها باع في مجال النقد الروائي والأدبي . و في هذا المنعطف الإبداعي أثيرت قضية بذاءة اللغة الموظّفة في الرواية الفائزة ، واتهامها بالفجاجة التعبيرية و الفحش اللّفظي المخلّ بالحياء على حدّ قولهم، و حسب آرائهم (كوني لم أقرأ الرواية) . أرى من وجهة نظري أنّ تلك المواقف من لغة الرواية في معظمها تطبيع من مواقف الأغلبية و حساسية لغوية منبثقة بدورها عن جرأة الكاتبة التي استدعت شجاعتها لطرق الموضوعات الاجتماعية الصعبة وتجاوزها و تفاعلها مع السياقات التاريخية . أرى أنّه مهما يكن أمر النّقد والرفض والاستهجان، لا يصل ببعضهم الأمر إلى إقحام الرأي الرسمي ــــ المتمثل في سلطة القانون ـــ في تسييس الجائزة وافتكاكها من صاحبتها ، و إلاّ فإنّ الاتهام يوجّه بطريقة مباشرة للجنة الانتقاء و التحكيم و هو الأمر المرفوض جملة و تفصيلا ، لأفاجأ بمعاقبة صاحبة دار النشر " ميم" بغلق المطبعة بحجّة طباعة ونشر الرواية ... أيّ قسطاس تزنون به يا أهل الدراية والرأي السديد ادعاء ؟! فلو كان الأمر كذلك فسنخضع بعض الروايات المقصاة لعدل السلطة حسب رأيكم ، بحجّة أنّها لم تأخذ حقّها ، أم أنّها أقصيت بسبب طرقها لأحداث العشرية السوداء و إقحام أسماء شخصيات لا يستحسن بعض من بالسلطة سماعها ؟! ، إنّني بذلك أقصد رائعة " برج شهرزاد" للروائية " زكية علال " ... و أعلن بذلك رأيي وموقفي الصريح : أن انؤوا بأحقادكم عن الابداع الإنساني ... لا تسيّسوه و لا تؤدلجوه ،لا تخضعوه للأحادية و النمذجة ... نعم هذّبوه لكن بأياد مبدعة لا مسيّسة . فإنّ النموذج والقبول يحدّ من الابداع والاستمرارية بل يقتله وينهيه .
و أنا برأيي أستحضر رأي الفيلسوف والناقد الروسي ميخائيل باختين في الاستعمال المرن للغة الرواية و تجنّب الأحادية في استخدام اللّغة السردية فتعدّ لغة الرواية عند باختين نسقا أدبيا من اللّغات للمهن و للأجناس التعبيرية و لمختلف الفئات الاجتماعية ،ولطرائق الكلام التي تترابط وتنسجم فيما بينها في شكل حواري ؛ ممّا يتيح تعدّدا لسانيا اجتماعيا للرواية ينتج عنه تعدّدا صوتيا وذلك بتعدد الأصوات الاجتماعية داخل الرواية. هاته الأخيرة تعدّ فنّا متفرّدا و شكلا من أشكال الأدب الشعبي، أو الأدب التفاعلي الذي يعدّ جنسا أدبيا منحدرا من معاناة الأوساط الشعبية البسيطة و أداة للتعبير عن آلامها و أمالها ، وهنا يكمن السر في تنوع منطلقاتها الحوارية العامية بألفاظها البسيطة العفوية إن لم نقل البذيئة ، فهي كلمات وليدة المكان واللّحظة لا تخضع لبروتوكولات و إعداد مسبق يجعل منها مخملية تضاهي الكلام المخملي للطبقات الارستقراطية المبسوطة المنعّمة... ليجد الرّوائي نفسه يتماهى مع مجتمع الرواية ويتعاطى مع الشخصيات والمكان فينقل الأحداث بحيثياتها كما تمثّلت على لسان أصحابها ليعكس لنا صدقه في نقل وتصوير الأحداث وحيوية التفاعل بين القوى الاجتماعية ... ومن هذا المنطلق أجد أنّ الروائية وقعت ضحيّة جدلية الانتهاكية و الواقعية ، بين أنّها تصوّر مجتمعا بطبيعته ومعاناته وبين ما يفترض أن يكون عليه ، فآخذوها على صدقها وعفويتها في توظيف اللّغة الساردة .... فاللّغة تعكس مختلف التحوّلات التي تطرأ على المجتمع فهي تصوّر بشكل دقيق مختلف الصراعات الاجتماعية في الحياة اليومية ، وهذا التنوّع اللّغوي يحرر النص الروائي من سلطة اللّغة الواحدة التي تفرضها سلطة الرؤية الواحدة و السياسة الإديولوجية الواحدة التي تؤول إلى ضرورة تصنيع أفراد ذوو الرؤية الأحادية الضّيّقة التي تجعل من أحدهم نموذجا يفرض على الآخرين أن يكونوا مثله ... فتغدو النمذجة هي أهمّ أسباب التخلّف خاصة في مجتمعاتنا العربية ، لذلك يجرّنا الحديث إلى رأي فوكو في هيمنة السلطة على الإبداع الإنساني سواء في المجال الأدبي أو المجالين الفني و العلمي وحتّى الفكري الفلسفي منه .
في حوار أجراه الصّحفي المثقف مايكل بويس مع الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو زعيم اللاعقلانية ، وكان سؤاله حول الأخلاق والمثقف و السلطة فكان من أهمّ ما قاله : لنغير اللّعبة. لنفترض أن المثقفين لم يعد لهم دور في قول ما هو خير. عندئذ سيكون الأمر متروكا للناس أنفسهم، استنادا إلى حكمهم على التحليلات المختلفة للواقع التي يتم تقديمها لهم، للعمل أو التصرف بشكل عفوي، حتى يتمكنوا من تحديد ما هو خير لهم.
و كان فوكو من خلال حواره المهم قد حصر مفهومه لفلسفته الأخلاقية في معاني الوجود الإنساني كونه مصدر الحرية البشرية ، واعتبره من أهم مهام الفيلسوف و المثقف ،ليخلص إلى أنّ مهام المثقف أن لا يخضع للسلطة وإملاءاتها المقيدة المتعسّفة ، و تطويع الفرد في المجتمع لاحتضان فكر الرّفض والتغيير والابتكار ، لدرجة أنّه انتقد المدارس الحكومية التي تدجّن الانسان وتخضعه لنموذج واحد السلطة هي التي رسمت معالمه من خلال المناهج المسطّرة ... يرى فوكو أن من أهم مهام المثقف ألا يقبل أبدا أي شيء على أنه نهائي، أو لا يمكن المساس به أو واضح أو ثابت. لا ينبغي السماح لأي جانب من جوانب الواقع بأن يصبح قانونا نهائيا وغير إنساني بالنسبة إلينا. تعود فكرة الكتاب بنا إلى أعمال فوكو الصّادمة في السبعينيات مع ميلاد تاريخ الجنسانية، فقد كان الجانب الأهم في إرادة المعرفة في هذا المجلّد هو التعرض لفكرة القمع التي تميز بها الفكر البرجوازي والذي تمثله السلطة في عصرنا .
إنّ إقحام رأي فوكو في هذا السياق ليس من أجل دراسة فكره وفلسفته ، إنّما هو من أجل الاستشهاد بشق مهمّ من نظريته ، و المتمثّل في عدم إقحام السلطة في تقييد الإبداع الإنساني ، فيفضي بنا الرأي هنا إلى استنكار رأي الغوغاء ـــ ممن هم ليسوا من أهل الأدب ولا النقد ولا حتّى من أهل القراءة والثقافة ـــ الذين يطالبون بافتكاك الجائزة من صاحبتها بحجّة الإساءة للذوق العام والمخلّة بالحياء ...
كان بالإمكان نقد اللغة ويبقى النقد في إطاره المعهود ليس إلاّ ، أماّ تحوير الغاية لتشذّ عن قاعدة الطقوس الأدبية فهي في حدّ ذاتها إساءة لشخص الكاتبة و اللّجنة القائمة على تقييم الأعمال المشاركة .
ليلى تبّاني ... قسنطينة ...الجزائر .
على صعيدي الخاص لا أؤيّد ولا أعارض ، ولا أؤلّب ضد أي شخص طالما لم أقرأ جلّ الروايات المشاركة في القائمة الطويلة وحتّى القصيرة ،لكنّني وعلى صعيدي الخاص أيضا لا يمكن بأية حال من الأحوال أن أشكّك في نزاهة وحنكة اللّجنة المكوّنة من السيد بورايو والسيدة آمنة بلعلى ،قامات نقدية عالية ، لها باع في مجال النقد الروائي والأدبي . و في هذا المنعطف الإبداعي أثيرت قضية بذاءة اللغة الموظّفة في الرواية الفائزة ، واتهامها بالفجاجة التعبيرية و الفحش اللّفظي المخلّ بالحياء على حدّ قولهم، و حسب آرائهم (كوني لم أقرأ الرواية) . أرى من وجهة نظري أنّ تلك المواقف من لغة الرواية في معظمها تطبيع من مواقف الأغلبية و حساسية لغوية منبثقة بدورها عن جرأة الكاتبة التي استدعت شجاعتها لطرق الموضوعات الاجتماعية الصعبة وتجاوزها و تفاعلها مع السياقات التاريخية . أرى أنّه مهما يكن أمر النّقد والرفض والاستهجان، لا يصل ببعضهم الأمر إلى إقحام الرأي الرسمي ــــ المتمثل في سلطة القانون ـــ في تسييس الجائزة وافتكاكها من صاحبتها ، و إلاّ فإنّ الاتهام يوجّه بطريقة مباشرة للجنة الانتقاء و التحكيم و هو الأمر المرفوض جملة و تفصيلا ، لأفاجأ بمعاقبة صاحبة دار النشر " ميم" بغلق المطبعة بحجّة طباعة ونشر الرواية ... أيّ قسطاس تزنون به يا أهل الدراية والرأي السديد ادعاء ؟! فلو كان الأمر كذلك فسنخضع بعض الروايات المقصاة لعدل السلطة حسب رأيكم ، بحجّة أنّها لم تأخذ حقّها ، أم أنّها أقصيت بسبب طرقها لأحداث العشرية السوداء و إقحام أسماء شخصيات لا يستحسن بعض من بالسلطة سماعها ؟! ، إنّني بذلك أقصد رائعة " برج شهرزاد" للروائية " زكية علال " ... و أعلن بذلك رأيي وموقفي الصريح : أن انؤوا بأحقادكم عن الابداع الإنساني ... لا تسيّسوه و لا تؤدلجوه ،لا تخضعوه للأحادية و النمذجة ... نعم هذّبوه لكن بأياد مبدعة لا مسيّسة . فإنّ النموذج والقبول يحدّ من الابداع والاستمرارية بل يقتله وينهيه .
و أنا برأيي أستحضر رأي الفيلسوف والناقد الروسي ميخائيل باختين في الاستعمال المرن للغة الرواية و تجنّب الأحادية في استخدام اللّغة السردية فتعدّ لغة الرواية عند باختين نسقا أدبيا من اللّغات للمهن و للأجناس التعبيرية و لمختلف الفئات الاجتماعية ،ولطرائق الكلام التي تترابط وتنسجم فيما بينها في شكل حواري ؛ ممّا يتيح تعدّدا لسانيا اجتماعيا للرواية ينتج عنه تعدّدا صوتيا وذلك بتعدد الأصوات الاجتماعية داخل الرواية. هاته الأخيرة تعدّ فنّا متفرّدا و شكلا من أشكال الأدب الشعبي، أو الأدب التفاعلي الذي يعدّ جنسا أدبيا منحدرا من معاناة الأوساط الشعبية البسيطة و أداة للتعبير عن آلامها و أمالها ، وهنا يكمن السر في تنوع منطلقاتها الحوارية العامية بألفاظها البسيطة العفوية إن لم نقل البذيئة ، فهي كلمات وليدة المكان واللّحظة لا تخضع لبروتوكولات و إعداد مسبق يجعل منها مخملية تضاهي الكلام المخملي للطبقات الارستقراطية المبسوطة المنعّمة... ليجد الرّوائي نفسه يتماهى مع مجتمع الرواية ويتعاطى مع الشخصيات والمكان فينقل الأحداث بحيثياتها كما تمثّلت على لسان أصحابها ليعكس لنا صدقه في نقل وتصوير الأحداث وحيوية التفاعل بين القوى الاجتماعية ... ومن هذا المنطلق أجد أنّ الروائية وقعت ضحيّة جدلية الانتهاكية و الواقعية ، بين أنّها تصوّر مجتمعا بطبيعته ومعاناته وبين ما يفترض أن يكون عليه ، فآخذوها على صدقها وعفويتها في توظيف اللّغة الساردة .... فاللّغة تعكس مختلف التحوّلات التي تطرأ على المجتمع فهي تصوّر بشكل دقيق مختلف الصراعات الاجتماعية في الحياة اليومية ، وهذا التنوّع اللّغوي يحرر النص الروائي من سلطة اللّغة الواحدة التي تفرضها سلطة الرؤية الواحدة و السياسة الإديولوجية الواحدة التي تؤول إلى ضرورة تصنيع أفراد ذوو الرؤية الأحادية الضّيّقة التي تجعل من أحدهم نموذجا يفرض على الآخرين أن يكونوا مثله ... فتغدو النمذجة هي أهمّ أسباب التخلّف خاصة في مجتمعاتنا العربية ، لذلك يجرّنا الحديث إلى رأي فوكو في هيمنة السلطة على الإبداع الإنساني سواء في المجال الأدبي أو المجالين الفني و العلمي وحتّى الفكري الفلسفي منه .
في حوار أجراه الصّحفي المثقف مايكل بويس مع الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو زعيم اللاعقلانية ، وكان سؤاله حول الأخلاق والمثقف و السلطة فكان من أهمّ ما قاله : لنغير اللّعبة. لنفترض أن المثقفين لم يعد لهم دور في قول ما هو خير. عندئذ سيكون الأمر متروكا للناس أنفسهم، استنادا إلى حكمهم على التحليلات المختلفة للواقع التي يتم تقديمها لهم، للعمل أو التصرف بشكل عفوي، حتى يتمكنوا من تحديد ما هو خير لهم.
و كان فوكو من خلال حواره المهم قد حصر مفهومه لفلسفته الأخلاقية في معاني الوجود الإنساني كونه مصدر الحرية البشرية ، واعتبره من أهم مهام الفيلسوف و المثقف ،ليخلص إلى أنّ مهام المثقف أن لا يخضع للسلطة وإملاءاتها المقيدة المتعسّفة ، و تطويع الفرد في المجتمع لاحتضان فكر الرّفض والتغيير والابتكار ، لدرجة أنّه انتقد المدارس الحكومية التي تدجّن الانسان وتخضعه لنموذج واحد السلطة هي التي رسمت معالمه من خلال المناهج المسطّرة ... يرى فوكو أن من أهم مهام المثقف ألا يقبل أبدا أي شيء على أنه نهائي، أو لا يمكن المساس به أو واضح أو ثابت. لا ينبغي السماح لأي جانب من جوانب الواقع بأن يصبح قانونا نهائيا وغير إنساني بالنسبة إلينا. تعود فكرة الكتاب بنا إلى أعمال فوكو الصّادمة في السبعينيات مع ميلاد تاريخ الجنسانية، فقد كان الجانب الأهم في إرادة المعرفة في هذا المجلّد هو التعرض لفكرة القمع التي تميز بها الفكر البرجوازي والذي تمثله السلطة في عصرنا .
إنّ إقحام رأي فوكو في هذا السياق ليس من أجل دراسة فكره وفلسفته ، إنّما هو من أجل الاستشهاد بشق مهمّ من نظريته ، و المتمثّل في عدم إقحام السلطة في تقييد الإبداع الإنساني ، فيفضي بنا الرأي هنا إلى استنكار رأي الغوغاء ـــ ممن هم ليسوا من أهل الأدب ولا النقد ولا حتّى من أهل القراءة والثقافة ـــ الذين يطالبون بافتكاك الجائزة من صاحبتها بحجّة الإساءة للذوق العام والمخلّة بالحياء ...
كان بالإمكان نقد اللغة ويبقى النقد في إطاره المعهود ليس إلاّ ، أماّ تحوير الغاية لتشذّ عن قاعدة الطقوس الأدبية فهي في حدّ ذاتها إساءة لشخص الكاتبة و اللّجنة القائمة على تقييم الأعمال المشاركة .
ليلى تبّاني ... قسنطينة ...الجزائر .