د. أحمد الحطاب - بنو آدم، البشرُ والإنسانُ في القرآن الكريم

عندما نقرأُ القرآن الكريمَ من أول سورة منه إلى آخر سورة، أي من سورة الفاتحة إلى سورة الناس، لكن قراءة مُتأَنِّية، مُتريِّثة ومتروِّية، لا يمكن أن لا يطرحَ القارئ على نفسِه عدَّة أسئلة. بل، لا يمكن أن لا يروج بذهنِه كثيرٌ من الاستنتاجات.

ولعلَّ أهمَّ استنتاج يخرج به القارئ، هي أن هذا القرآن الكريم، مُخصَّصٌ، من ألفه إلى يائه، تارةً للإنسان وأخرى للبشر وأخرى لبني آدم.

فلنقل إن القرآن الكريم مُخصَّصٌ لنوعٍ جديدٍ من الكائنات الحية الذي أراده اللهُ، سبحانه وتعالى، أن يكونَ مختلفا عن الكائنات الحية الأخرى. وهذا النوع الجديد من الكائنات الحية، سمَّاه، سبحانه وتعالى، آدم. ومن هذا الإسم، أي آدم، جاءت عبارة "بنو آدم"، أي ذرية آدم.

واختلاف هذا الكائن الحي عن الكائنات الحية الأخرى، تتجسَّد في كونِه عاقلا وناطقا، أي بإمكانه التواصل مع أنداده بواسطة لغةٍ معيَّنة. وهتان الخاصِّيتان لا توجدان عند أي مخلوق حي آخر. فعندما نقول "بنو آدم"، فالأمر يتعلَّق بالكائنات الحية المنحدرة من آدم، ولها نفس خاصيات هذا الأخير، أي عاقلة وناطقة.

وحتى لا أُطيلَ هذه المقالة، لقد سبق أن تطرَّقتُ، بتفصيلٍ، لما أقصده ب"آدم" في مقالة نشرتها على صفحتي بتاريخ 21 إبريل 2024، تحت عنوان : "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً…إلى آخر الآية.

أما تسمِيةُ "الإنسان" إنسانا، فإنها تعتمد على طبعِه أو طبيعته التي تتأرجح بين ما هو خيرٌ وما هو شرٌّ. وهذا يعني أن الإنسان قد يكون من ذوي الأخلاق العالية، وقد يكون من ذوي الأخلاق السيئة. لكن، من الممكن، أن ينتقلَ الإنسانُ من الأخلاق العالية إلى الأخلاق السيئة والعكس.

وتغيير طبيعة الإنسان شيءٌ مجبولٌ عليه هذا الإنسانُ، أي شيءٌ مبتوثٌ في نفسه. والقرآن الكريم أشار إلى هذا التغيير في البعض من آياتِه، أذكر منها ما يلي :

1."وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ" (هود، 9).

2."وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا" (الإسراء، 11).

في الآية الأولى، "لَيَئُوسٌ" تعني أن الإنسانَ، بعد أن أُسْعِدَ برحمة الله، سبحانه وتعالى، يئِسَ من هذه الرَّحمة بعد أن نزعها منه، عزَّ وجلَّ. و"كَفُورٌ" تعني أن الإنسانَ يجحد نِعَمَ الله عليه. في الآية الثانية، دعاء الإنسان بالشرِّ قد يتساوى، مضمونا، بدعائه بالخير. و"عَجُولًا" تعني أن الإنسان يتسرًَع في الحكم على الأشياء. وهذا التَّسرُّع في الحكم هو الذي جعله ويجعله يضع في نفس المرتبة الدعاء بالشر والدعاء بالخير.

أليس هذا تغييرٌ في طبيعة الإنسان؟ وذلك بانتقاله من "الإنسان الطيب" إلى "الإنسان الجاحد" أو "الإنسان المُتنكِّر" لنِعَمِ الله.

وفي نفس السِّياق، تحضرني أربعة آياتٍ رقم 7، 8، 9 و 10 من سورة الشمس : "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا". وفِعل "ألهم"، في هذه الآية، يعني جعل اللهُ، سبحانه وتعالى، من نزعات النفس الإنسانية الفجور والتَّقوى. والفجور هو ارتكاب المعاصي. وهذا يعني أن نفسَ الإنسان مجبولةٌ تارةً على الميول إلى فعل الخير وتارةً على الميول إلى ارتكاب المعاصي. لكن المؤمنَ العاقلَ هو مَن يُطهِّر نفسَه (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا) بالتَّقوى والإيمان والخاسِر هو مَن يُغرقُها في المعاصي (وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا).

وما أثارَ انتباهي، هو أنه، تقريبا، مُجمَل آيات القرآن الكريم التي وردت فيها كلمة "إنسان" لها علاقة بطبيعة هذا الإنسان وبطبعه وبتصرُّفاته، ككائن حي اجتماعي en tant qu'être vivant social et sociable، أي كائن حي مخلوق للعيش في مجتمعات، أو قادرٌ على العيش في مجتمعات.

أما للتَّعريف بكلمة "بَشَرٌ"، فقد قمتُ ببحثٍ عميقٍ في بعض المعاجم العربية، فوجدتُ أن كلمةَ "بَشَرٌ" هي جمع "بَشَرَة". والبَشَرَة هي الطبقة الخارجية épiderme المشكَّلة من خلايا جلدية. وهذه الطبقة الخارجية من الجلد، هي التي تُغطِّي الجسمَ، وهي، كذلك، أول ما تراه العينُ حين تُبصِر كائنا حيا من هذا النوع. أو بعبارة أخرى، البَشَرَة، هي أول ما يراه المُبصِرُ أو ما يظهر له حين يُلقِي نظرةً على كائن حيٍّ اسمُه "بَشَرٌ".

إذن، سُمِّيَ البَشَرُ بشراً لأن بَشَرتَه ظاهرةٌ للعِيان خلافا لبَشَرة كثير من الكائنات الحية القريبة، بيولوجياً، من البَشَر، وخصوصا، الثدييات mammifères، والتي بَشَرتُها مغطَّاةٌ بالصوف أو بالوبر.

غير أن كلمةَ "بشر" مشارٌ إليها في عِدَّة آياتٍ من القرآن الكريم، أذكر منها، على سبيل المثال : "قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ" (إلراهيم، 10).

في هذه الآية، يتحدَّث، سبحانه وتعالى، عن الرسل الذين بعثهم الله للأقوام الغابرة لهدايتهم إلى الإيمان والصراط المستقيم. كما تتحدَّث الآية عن الأقوام الذين كذبوا هؤلاء الرسل. ونفس الآية تقول بأن الرسلَ والأقوام الغابرة بَشَرٌ، لكن بشرٌ من النوع العاقل والناطق.

ولهذا وحسب رأيي الشخصي، كلمة "بشرٌ" تُطلق على الكائن البشري، العاقل وغير العاقل الذي يتوفَّر على بَشَرَةٍ. وعلم الحفريات paléontologie بيَّن بأن نوعَ البشر غير العاقل كان موجودا في عدة مناطق من الأرض، منذ ما يزيد عن 4 ملايين سنة. وبغض النظر عما يدخل في علم الغيب، فلما نفخ الله، سبحانه وتعالى، من روحه في آدم، تحوَّل البشر غير العاقل إلى بشرٍ عاقل، وهو آدم. ولما بدأ بنو آدم في إعمار الأرض وتشييد المدن والمجتمعات، على الخصوص، تحوَّل بنو آدم إلى "إنسان" الذي جَمْعُُهُ "ناس".

ولهذا، فالآيات التي وردت فيها كلمة "بَشَرٌ"، جلُّها مرتبط، كما سبق الذكر، بطبيعة الناس وطَبعِهم وتصرُّفاتهم داخل المجتمعات. لكن محتوى هذه الآيات، يُفْهَمُ منه أنه خطابٌ إلهي موجَّه لبشرٍ عاقلين.

إذن، حسب ما جاء في القرآن الكريم، آدم وذريتُه بَشَرٌ عَاقِلُون. والبشر هم الكائنات البشرية (من ذوي البَشَرَة) العاقلة وغير العاقلة (وهذا رأيٌ شخصي). أما الناس (جَمْعُ إنسان)، فهم بنو آدم، أي بَشَرٌ عاقلون، لكنهم يمتازون بطبيعةٍ وتصرُّفاتٍ اجتماعية ils se distinguent par une nature et des comportements sociaux.

ولهذا، في المنطق البشري، هذه الكلمات الثلاثة، "بنو آدم"، "بشر" و "إنسان" تُستعمل وكأن لها نفسُ المعنى، بينما، حسب القرآن الكريم، كل واحدة لها معنى خاصٌّ بها. وهذا ما يُؤكِّد أن القرآن الكريم ليس فيه ترادُف synonymie.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى