مقدمة:
لا يمكننا أن ننكر ما تشهده الرواية الحديثة من تلاقح بين الأجناس الأدبية المختلفة و كسر للحدود بينها فكتبت الرواية بلغة شعرية و صار الشعر نصا مليئا بالسرد ، و هذا ما أعطى أشكالا ابداعية جديدة لا تؤمن بالحدود.
و تعنى الشعرية بقواعد الابداع الأدبي و الفني و الجمالي و البحث في مكوناته الداخلية و ترصد الإنزياحات اللغوية وما يعتري الجمل و الألفاظ من تغيرات في الدلالات و المعاني فهي إذا اشتغال على اللغة التي تتحول عن السياق العادي .فهي لم تعد وسيلة للتعبير بقدر ما أصبحت هدفا في حد ذاته و قصة جميلة نرصدها بين ثنايا الرواية فتصيبها بالتخم الشعري و تحول السرد إلى قصيدة نثرية توشي كل فصول الرواية ..
و في هذه المداخلة التي عنونتها بعناق الحكائي و الشعري في احلام أخرى ممكنة سننفتح على الرواية إذ هي الجنس الأكثر ليونة و تقبلا و احتواء للأجناس الأخرى ..
تقع هذه الرواية في 160 صفحة و تنقسم إلى 7 فصول صدر كل فصل ببيت أو مقولة لشخصيّة أدبيّة معروفة.( التصدير هو آلية من آليات توجيه اهتمام القارئ إلى فكرة بعينها .. )
صُدّرت الرّواية و فصولها بأقوال من الفكر الإنساني ..شارك كتابة النص محمود درويش، ابن الفارض محمد شكري، زبيدة بشير ،حنا مينا، هاروكي موراكامي، مصطفى عبد الرحمان، ديستوفسكي، أليف شافاك و الفنان ماجد المهندس..
في أحلام أخرى ممكنة أجناس أدبية مختلفة فهي مهرجان تتفاعل فيه الأجناس الأدبيّة الشعر الغناء المسرح ( بعض الحوارات المطولة خاصة في فصل نجمة )
و سأسعى من خلال هذه المداخلة إلى رصد تجليات الشعريّة في أحلام أخرى ممكنة ..
1/ الشعرية في عتبات أحلام أخرى ممكنة :
- العنوان و صورة الغلاف :
العنوان هو واجهة الرواية هو الجزء الذي يؤشر على معنى ما و وسيلة للكشف عما يحتويه المتن ..هو خطاب دلالي ومكمل جمالي يتميز بالايحاء و بالجمالية فهو من يجعلنا نغوص في ثنايا النص للبحث عن صدقية هذه الايحاءات ..
أحلام أخرى ممكنة :
هو بداية الرواية و منتهاها ..تبدا الرواية بالحلم / الكابوس العقم الذي يقض مضجع البطلة و ينتهي بتحقيق الحلم : ولادة الطفلة احلام في انفتاح على مستقبل اجمل..
عنوان يؤسس لامكانية الحلم / لشعرية الحلم
أحلام: جمع حلم /ما يراه النائم في نومه / مجازا : ما نريد تحقيقه و هو بعيد عن الواقع ..
أحلام هو اسم بطلة الفصل الاول / اسم الطفلة التي ولدت آخر الرواية ..
أخرى: بمعنى إضافية أو مختلفة أو جديدة أو هي احلام تقطع مع مع ما مضى لتنسج مع ما سيأتي ..
ممكنة : قابلة لأن تصير واقعا ..
العنوان انفتاح على واقع أجمل و تعبير عن دواخل الروح، الأحلام انسانية وهي ليست هروبا من الواقع بل تحقيق انساني لواقع آخر بواسطة الكتابة و الكتابة هي في الحقيقة حلم من أحلام الكاتبة فهذه الرواية أصلا تجسد العنوان.
و العنوان عموما يوحي بمسارات الرواية و يجعلنا نقبل عليها فالأحلام هي اذا رصد لاختلاجات النفس البشرية بالمعنى اللغوي و بالمعنى المجازي و هذه خاصية من خاصيات الشعر ..
كتب العنوان باللون الأبيض وهو لون السلام والمحبة، ويعبر عن النقاء والصفاء والعقلانية والاتزان، والحيويةو جاء موزعا على شقي الغلاف اي بين اللونين الأحمر و الأخضر ..هذا التزاوج بين الألوان الحارة ( الاحمر و الاثارة و الطاقة و الحب ) و ما يحمله من معاني و الباردة ( الأخضر و ما يعنيه من خصب و تجدد و نمو ) يحمل زاوية نظر الحلم و اشراقاته و يتجسد في تلك الصرخة التي تطلقها المرأة ، صرخة الولادة من العدم و كأنها تخرج من فوهة البركان لتعاقر الحلم و الامكان ...
شعرية المكان و الزمان :
في رواية أحلام أخرى ممكنة، المكان هو أبرز العناصر التي تتجلّى فيها جمالية النص و تضفي عليه الكاتبة من روحها فالمكان عنصر فاعل في الأحداث يحيط بالشخصية و يعمدها بالنور و الهدوء و السكون و السكينة و يصنع منها امرأة تجيد القرب من الله طورا و طورا يتحول الى سجن تتأبد فيه المأساة و تذبل فيه الروح و تذوي ..
تتعدد الأمكنة في الرواية و لكنني اخترت الحديث و التركيز على مكانين
الريف (الربوة ) و المدينة ( بيت أحلام) ..
1/ الريف / الربوة :
الفضاء الروائي هنا هو الريف أغلبية الأحداث تقع في الريف ( المنزل / الربوة ) / أحلام ونجمة و حياة و إسماعيل لكل شخصية علاقة متفردة بالمكان و حكاية مع المكان هذا المكان المميز الجميل
"صعدت إلى الربوة الممتدة وراء بيتنا على مرمى النظر" أحلام
" عوض أن أعود الى منزلي صعدت إلى الربوة لأختلي بكنزي الثمين، تخيرت مكانا قصيا يشرف على البلدة .."نجمة
" بسرعة الواثق طلب منها إسماعيل أن يلتقيا عندما يسدل الليل سواده على الربوة قرب النخلة "
" ما أجمل النجوم في هذه الليلة إنّها تبتسم لي و تنير لي الطريق، طريق الربوة حيث سألتقيه " حياة
شاهدت البارحة ضوء يظهر و يختفي خلف الربوة ..المنذر
هذا المكان " الربوة" تواجد في أغلب الفصول و كان مشاركا في الأحداث فمثل خلفية مرحلة معينة من مسار الحكاية في علاقة بأغلب الشخصيات كما رأينا ..
و قد زاد الوصف و هو من أهم إبداعات السرد من أهميّة المكان و إضفاء نوع من التفرّد و الجمالية إليه فهو مكان تجسد فيه الله لأحلام ، تقول في الصفحة 21 / السطر 9" في هذا المكان لم أجد لي غيرك فيه تتجلى كأبهى ما يكون ..هذه السماء لك و هذا الكون لك و هذه روائحك تعطر المكان بالريحان و الرطب و التين و الزيتون و العنب..سماؤك رحبة و ارضك ارحب"..
" يممت وجهها صوب صنائعه في ذلك المكان البهي ..احست انهم ندماؤها يشاركونها العشق و التضرع اشجار التين الضاربة في القدم و في اعماق الارض تبحث جذورها عن الرطوبة و عن الحياة هل هي اقرب الى الله منها ام النخلة الشامخة تلك الشجرة الطيبة نضيدة الطلع ثابتة الأصل الفارعة و كأنها تعانق السماء " ..
و هكذا يصبح المكان عنصرا فاعلا في الشخصية الروائية يأخذ منها و يعطيها " غشيتها روائح الزعتر على مقربة منها تنفستها ملء القلب و الروح شعرت انها ريحه و روحه التي نفخها فيها فعادت اليها نفسها مطمئنة راضية مرضية "
ها المكان يصالح أحلام مع الله فتتماهى معه و تطمئن و تعود اليها روحها راضية مرضية.
وهبها المكان حياة جديدة صارت فيها قريبة من الله..و لكن هذه العلاقة التي أسستها أحلام مع الربوة ليست علاقة ثابتة فبعد مرحلة الانسجام و التماهي مع المكان، تأتي مرحلة التوتر معه فعلى قدر اتساع المكان و رحابته في بداية الرواية: ص 17" كم أحبت المكان فقط من اجل النور الذي تبتدئ به يومها فيطهر نفسها و يغسلها من كل ادران الحياة" ،ضاق عليها وعلى أحلامها في أخرها و هذه المفارقة بين المنشود و ما تحقق غيرت علاقتها بالمكان فآثرت تغييره و هنا تتطور الحكاية و تتحول أحلام الى المدينة لتنغلق على نفسها"صرت أزورها في شقتها في المدينة ،شقة صغيرة تتسع لوحدتها و خيباتها"
صار المكان في المدينة حضنا للخيبة و للوحدة و لانكسار الأحلام بمعنييها في البداية و لكننا نشهد تطورا آخر للأحداث لينفتح المكان في آخر الرواية على آفاق جديدة لأحلام ،الشخصية و يستقبل حلما من أحلامها و قد تحقق .. ولادة جديدة تبشر بها نجمة أحلام و هي تمد إليها بطفلتها : " سمّي باسم الله هذه ابنتنا أحلام .."
نسبت نجمة المولودة اليهما معا(ابنتنا) / و أسمتها أحلام وهو اسم الشخصية الرئيسية / أحلام التي حرمت من الأمومة هاهي تصبح أما بالاشتراك مع نجمة و ها هي أحلام أخرى تولد من رحم القتامة و ها هو الأمل يزهر نورا في آخر النفق . " كان الصباح ينثر على الدنيا أنواره و عبق نسائمه يتضوع في كل الأرجاء عندما أرسلت الشمس خيوطها المترعة بالذهب تغمر وجه أحلام فتتلألأ عيناها و يشع منهما بريق يضيء وجهها و المكان".
المكان يضيء أخيرا و يمتلأ بالدفء كما وجه أحلام ، يتماهى المكان مع الشخصية فيصيران واحدا يحققان حلمها بالامتلاء ، بالحب و يسترجعان كل الألق ..
لحياة أيضا مكانان واحد للموت و آخر للحياة ( الربوة/ المنزل ): " ماتت حياة مرتين و عاشت مرة واحدة"
ماتت في منزلها البارد " كانت ضعيفة امامه رغم قوة حجتها و لا تملك الا الطاعة / اشترت راحتها بتلك المناديل /البارحة ضربني /كانت منطفئة..
المنزل : عاشت فيه حياة لأول مرة إحساس الأنثى رغم زواجها و إنجابها لطفلين: " فتح ذراعيه لها مذ لحظتها عيناه تتسلق اليه بخفة كيف لها ان تتغافل عن هذين الذراعين المفتوحتين على الرغبة و على الحياة " ..
" ابتسمت عيناها أيضا و قالت:حتى لو مت الآن فلن أبالي لم أشعر بسعادة كهذه قبل هذه اللحظة" ..
مع حياة و اسماعيل يصبح المكان ( الربوة) مكانا مناسبا للرغبة و الحب المسروق و للمنذر و لأحلام مكانا للخيانة وقد رأت بعينيها زوجها مع حياة فوق الربوة ..
هكذا تصبح الربوة مكانا مدنسا بعد ان كان مقدسا " منذ ثلاثة أيام وهو يأتي إلى هنا عند المغيب.." (ص 148) بعد ان كانت مكانا تجلى فيه الله ..
2/ الزمن :
لم يعد الزمن متسلسلا في الروايات و صار هناك ما يسمى بالزمن النفسي فنغوص في عمق الإنسان و نتتبع اللحظات الخالدة في شعوره
الزمن لم يعد كرونولوجيا بحتا بل صار نقلة ديناميكية بين الماضي و الحاضر و المستقبل
تتداخل الازمنة في الداخل الانساني و تعيد تشكيل الحياة ( الزمن الداخلي)
في أحلام أخرى ممكنة الزمن ليس مرتبا ترتيبا زمنيا كرونولوجيا بل تتصرف الكاتبة في الأحداث وفق غايات فنية يقتضيها البناء الروائي فنلاحظ خلخلة في زمن القص تشكلت من الاسترجاع (أي ذاكرة النص) فيتوقف السارد في مرحلة من مراحل السرد و يترك مجرى الأحداث ليعود إلى الماضي .
تنفتح الرواية على الحلم ..اعادة امتلاك الحياة عبر الذاكرة/ عبر الحلم
وهو انفلات من المكان و الزمان و من قيود الواقعية :
زمن الرّواية هو زمن ماض قريب و قع اعتماد القصّ غير الخطّي و استعملت تقنية استرجاع الذكريات و استحضارها. و هذه التقنية في الكتابة الروائية أسهمت في التدفّق السردي.و قد نهض أيضا السرد في مقاطع الاسترجاع و استحضار الماضي بمزيد تعريف القارئ بشخصيّات الرواية ليتمثّلها و يتعرّف إلى هويّتها من خلال أعمالها و أقوالها في المقاطع الحواريّة المبثوثة في غضون هذه الرواية.
التقديم و التاخير : فصل حياة مثلا يبدأ بنهاية الأحداث :" في تلك الليلة احترقت حياة و زوجها يشعل في قلبها لهيب كلماته " ..و في آخر الفصل يروي لنا السارد كيف تعرفا على بعضيهما ..
الاستباق : ص 29: " ماتت حياة مرتين و عاشت مرة واحدة"
الشخصيات:
في أحلام أخرى ممكنة ،شخصيات مختلفة من مشارب مختلفة ترصد واقعا همشت فيه المرأة بطرائق شتى فساءت العلاقات و تشعبت الرؤى و الانتظارات ..لكل شخصية منهم حكاية و بين الحكايات رابط كخيط الحرير ..
يصنع الكاتب الشخصية فهي كائنات من ورق كما يقال و التخييل و اللغة يشكلانها ..
في هذه الرواية يخبرنا الكاتب عن الشخصيات : "تمتلك من الحضور ما تملكه و حاز على اعجابه هو المغرم الدائم بالجمال النسوي.."ص 16
كما تخبرنا الشخصيات عن نفسها :" عدت من المدينة و قد تملكني الفراغ و تلبستني الوحدة.." ص 73
تتشكل الشخصيات في الرواية وفق رؤية الكاتب السردية و تبدأ في النمو مع تقدم السرد و القارئ هو من يشكل صورتها النهائية ..
نلاحظ في الرواية التي تتقاسم بطولتها شخصيات نسائية مختلفة تتصدر كل واحدة منهن المشهد في فصل من فصول الرواية.. تروي لنا حكايتها فنجد انها تقبع تحت طائلة القهر و الاستلاب الذي يختلف حسب اختلاف الشخصية و بيئتها و ثقافتها .. فالمراة هنا مسلوبة الحقوق العاطفية الثقافية الاجتماعية و الاقتصادية..
و هكذا تبدو المرأة في هذه الرواية كانها شخصية واحدة و ان توزعت على جسوم كثيرة ..
شخصية أحلام نجدها في أغلب الفصول و بحضور متفاوت يبلغ أوجه في الفصل الأول صرت الى الله اقرب و في نهاية الرواية " الصباح الجديد" ..
و صُوّرت أحلام و صراعاتها الداخلية مع ذاتها و الخارجية مع زوجها عبر العديد من التقنيات التي أضفت تنوعا و شعرية على الرواية و جعلت القارئ يتماهى مع الشخصية و يكون عنها صورة في خياله و ربما احالته حتى على ذاته:
1/ السرد الذاتي :
تتطور شخصية أحلام بتقدم السرد و تكون هي الساردة في أغلب مراحله
تحضر " أنا " أحلام بشكل متاوتر في السرد : " شكرتها بقبلة حانية على خدها و مضينا ننزل الربوة معا.." / /" صمت فعدت إلى الأكل.."
1/تقنية الحلم : الرواية تنفتح على كابوس غامض تعيشه أحلام و يتكرر معها دون تفسير واضح : "هو ذاك الكابوس الذي يضيق له صدري و يكدر خاطري.."/ " أما زال يعاودك؟"
2/ الاسترجاع: تقوم الرواية على الاسترجاع: " يومها قلت له و لم يعد لي عليه صبرا "/ " منذ زمن بعيد فقدت صلاتها خشوعها"/"عندما عدت الى المنزل بالأمس وجدت كيسا بلاستيكيا كبيرا موضوعا على طاولة المطبخ فتحته فوجدت فيه ... "
3/ الحوار : يخلق حركية في الرواية / مسرحة الرواية/ يعري دواخل الشخصية
او التعدد الصوتي تعددت الحوارات في الرواية لكسر رتابة السرد و مسرحته و هو نوع من التنويع ايضا الى جانب الحوار الباطني في اساليب القص ..
اعطى الحوار للرواية نسقا جديدا و للشخصيات ملامح واضحة و اصواتا عالية مسرحت بعض الفصول حتى اننا وجدنا في فصل "نجمة" على سبيل المثال حوارات طويلة حتى ان يحي في حواره مع نجمة سرد عليها حلما طويلا امتد من الصفحة 97 حتى الصفحة 98 ( 19 سطرا)
تتكلم الشخصيات في الحوارات حسب ثقافتها فكان الحوار بين نجمة و يحي سلسا رشيقا مناسبا لحالتيهما الوجدانية و لثقافتيهما و تشبعهما بالادب ..جاء زاخرا بالمجازات
يقول في الصفحة95 " لا تخافي مني انا رجل بسيط كطعام اليتامى اما انت فبستان احلامهم " و يقول أيضا :" بياضك اغنية و ضحكتك حقول من القمح في سنة ممطرة " تقول نجمة مخاطبة يحي ص 115 " يبدو انك سرقت زرقة البحر لتملا بها عينيك و تركت بياضه شاحبا" .. الى غير ذلك من المجازات الجميلة ..
تُطور الحوارات أيضا من الأحداث فتبدأ في فصل نجمة مثلا ،بالقطيعة و الرفض لطلب يحي : "..فات الاوان و المنديل رمي منذ زمن و لا احد قادر على رده ..دعني و احزاني" لتنتهي بعد أكثر من 42 صفحة تراوحت بين استرجاع حكايتهما سردا و حوارا متوترا بين الشخصيتين إلى القبول و المصالحة و عودة الروح بينهما في حوار شاعري مليئا بالمجازات و الصور لا أملك إلا أن أقرأه عليكم: يقول يحي:
"..في قلبي تنور يخبز الحب و الحياة و لا يبالي بالعواصف و ان عتت هذا انا و ان كان الحزن يغويني احيانا حتى يصبح بحجم حبة قمح و لكنني الفته و الفني حتى صرنا صديقين"
تجيبه نجمة و قد ألقت بكل القيود و استسلمت لقلبها :" هل لي بقطعة من تنور قلبك فيقول لها : " خذي قلبي كله فهو لا يصنع الخبز الا لاجلك"
احلام اخرى ممكنة صفحة 124
اللغة :
لغة احلام اخرى ممكنة لغة شعرية طافحة بالمجاز ،تتكاثف تشبيها ، ايقاعا، تقديما و تاخيرا، استعارة و كناية و تتناسل لصنع المعنى فقد حاكت الكاتبة للرواية ثوبا لغويا انيقا يكسر المألوف و يؤسس للغة شعرية مميزة لتصبح اللغة البطل الرئيسي للرواية لانها من شكلت كل شيء و اعادت صياغة الاحداث بطريقة جعلت السرد يتحول الى ما يشبه القصيدة النثرية (ص59 ): " ما أتناساه في يومي يضج به ليلي و تصبح أحلامي كوابيسا ينتفض قلبي عندها طاردا عني النوم فينصاع له عقلي صاغرا ...أذكر أن الرغبة في الكتابة لا تشتعل بي إلا و أنا أعلن انهزامي في معركة الأرق...في غياب إشتعالات أخرى أطفئ رغبتي عادة على طاولة المطبخ ..على طاولة المطبخ نزعت أسلحتي ببطء متعمد قطعة اثر أخرى حتى صرت عارية إلا منك ..."
الوصف :
يقول الاستاذ لطفي بوخريص متحدثا عن الوصف في أحلام أخرى ممكنة :
تتخلّل الرواية مقاطع وصفيّة أغنت السرد و قد تميّز الوصف بعدّة ميزات
.فالوصف في عديد المقاطع لا يخلو من شاعرية تحول النثر إلى لغة شعريّة :" عندما التقته أول مرّة على ذلك الشاطئ البعيد وقعت أسيرة لعينيه، عينان تكتظان بالعسل سبحت في لجّتهما فلم تر منه غيرهما "
و تتنامى هذه اللغة الشعرية لتبلغ درجة رومانسية الخطاب الثوري ( ص 89/90):لم يكن هناك أجمل من تلك اللحظات التي عشناها،تفتح الحلم أمامنا مورّدا، تونس أخرى تعبق بالجمال نزرع في كل ركن منها الأزهار فتفوح من شوارعها و أزقّتها روائح زكية عطرة روائح الحريّة و عطر نسائم فجر جديد .."
و نجد في الرواية ان لغة الوصف تدور على غير ما وضعت له في الأصل فتفارق منابتها الأولى لتحلق في رحاب الخيال فتكتسب من اتساعه و رحابته معاني متدفقة لا تنضب. " خدان اسيلان قدا من خمر معتقة و ثغر بلون الارجوان ينفتح على حبات من لؤلؤ منثور" ص 30 ..
التكرار :
يعزز التكرار الاسلوب الشعري و يحدث ايقاعا داخل النص و يشحن اللغة بالدلالات نأخذ هذا المثال صفحة 38 " هو الان يسبلها على ارضية المطبخ العارية يحاذر وهو يضعها برفق على ارضية المطبخ العارية ارضية المنطبخ العارية احتضنت جسدها المنطفئ و جسده ايضا..
في هذا التكرار تركيز على المكان الذي صار مجردا من كل عمق انساني
الاستعارة: " مزقت تونس أغلالها و ارتدت فستانا من الأمل .."
التشبيه: ص 95:" سيبقى راسخا في ذاكرتي عالقا كالوشم حارقا كالشمس متوهجا كالقمر ساحرا و مربكا و مغريا مثل عيونك مثل الطريق البكر"..
نلاحظ تواتر التشبيهات و تواتر وجه الشبه مما يعمق شعرية هذه المقاطع
و هذا التشبيه أيضا :
"بدت في عيوني كسنابل القمح في اوج اخضرارها او كشقائق النعمان او كموجة بحر على رمل شاطئ في ساعة مد .."
الايقاع :
اللغة اتسمت بالتوازن بين المقاطع التي تؤسس لجرس خاص في الخطاب:
" وسامة زائدة نعومة زائدة سلاسة زائدة و قدرة على جعلها تصغي اليه.."
زوايا الرؤيا :البوليفونية
البوليفونية مظهر من مظاهر لشعرية
تعددت الأصوات في الرواية فانفلتت من اسر الذاتية ،انشطرت الذات المبدعة فتعددت الأصوات و الأبطال،انتفاء بطولة الفرد الواحد وزعت البطولة على مجموعة من الشخصيات .
تركت الكاتبة مساحات كبيرة للشخصيات لكي تروي فيها الحكاية و تتقاسم في ما بينها فعل القص ..
تقول الكاتبة في الافتتاحية :" كتبتني الشخصيات قبل ان اكتبها .."نجد هنا ان الشخصيات في احلام اخرى ممكنة شخصيات فاعلة حية قادرة على النطق بصوتها و هذا ليس الا مسرحة للرواية و اضفاء جو من الواقعية و الصدقية على أحداثها .
و هكذا أصبحت الشخصيات تنطق عن نفسها دون الخضوع لسلطة الكاتب
و تحضر لتزاحم الساردة في عملية السرد فنجد " أنا " مختلفا ينقل الافعال من زوايا نظر متعددة .. يقول الاستاذ بن حنيش:"تناوب الضمائر هذا عبر عن وحدة الانسان و الذات البشرية في اطار مرجعي هو الانسانية."
و هكذا يجد القارئ نفسه داخل هذه الانا فيتماهى معها ليجد نفسه مشاركا في الحكاية ..
خاتمة :
ختاما يمكننا أن نقول أن الشعري في رواية أحلام أخرى ممكنة هو إحدى العلامات المميزة لهذه الرواية خاصّة و أن الواقعة الشعرية تبدأ من اللغة،من الاشتغال عليها ،من الالتحام بها و الولوج فيها، من الانزياح و الصورة البلاغية، من بث روح جديدة في ثنايا الألفاظ ،من تحويل المعنى المعجمي السطحي إلى معاني أخرى تحلق في رحاب الخيال و اتساعه ، تعطي صفة الشعرية و تثير في قارئها لذة التساؤل و متعة الكشف و الانحراف عن السياقات العادية ..