غامض ذلك المجهول الذي يجعل طفلة هاربة من القصف أن تقف في وسط الساحة وترقص على أنغام الموسيقى ، أو ذلك الجرح الذي يتمرد ويخرج منه ورداً يتحرك وما أن تتأمل الساقين حتى تكتشف صبياً يقف شابكاً يده بيد صبياً آخر ويدبكان على أنغام أغنية فلسطينية ، يحاولان نسيان الدمار والدم وجثث الأقارب والأشلاء الطالعة من بين الردم ، غامض ذلك المجهول الذي يبتدع من القهر اصراراً ، يثقب صخور القسوة ويبني فوقها وطناً خاصاً له ، خبطات خطواتهما ترجع صدى أصوات الذين رحلوا وذكرياتهم التي كسرت وتبعثرت في مئات المنافي ، في الرقص هدنة عدم الخوف من الموت.
في دراسة أطلقها " علماء الاجتماع " أكدوا أن للرقص عدة فوائد منها :
أ - يجعلك تتعرف على ثقافات أخرى . ب- يساعد على فقدان الوزن . ت -يقلل من خطر هشاشة العظام وأمراض القلب . ث- يساعد على الاحتفاظ بطاقتك الإيجابية . ج- يقلل من التوتر والاجهاد ، ح- يجعلك أقوى . خ- يحافظ على جمالك وشبابك .
وفي رواية " زوربا " للكاتب اليوناني كازانتزاكيس ، ردد " زوربا " أن الرقص يعبر عن الحياة بكافة أشكالها ، في لحظات حزنه الشديد أو سعادته الشديدة يرقص رقصته المشهورة.
وهنا السؤال هل سيخرج علينا علماء الاجتماع وباقي المحللين في تفسير الرقصات وحلقات الدبكة التي يمارسها بفرح وقوة الصبيان والبنات في ساحات المدارس التي تعج بالنازحين وبين بقايا الثياب المعلقة على درابزين الصفوف، أمام الخيام في غزة وخان يونس ورفح وغيرها، وتنقلها المواقع الالكترونية التي تتقن نقل الأحداث بصورة الدموع والمعاناة والتعب، وتضيف رغم القتل والقصف والدمار والبيوت المتساقطة والجثث المتحللة والصراخ والبكاء وفقدان الأمان وأصوات الطائرات الزنانة والنزوح والخيام هناك من يرقص طرباً - كالطير مذبوحاً من الألم - ؟ .
أتأمل أقدام البنات وهن يخبطن على الأرض كأن مساحة الأرض تتسع حتى تحتضن السماء ، وتقامر الضحكات وتراهن أن المستقبل لهن ، وعندما تصادق الوجوه عدسات الكاميرات تدوم لحظات الفرح ويتوهم أنه سيبقى ولكن لا نعرف هل تلك الأقدام بقيت في نشوة الرقص أم بترت وقطعت أو غابت الضحكة تحت الركام .
أرى اقدام الصبيان والبنات تتنفس بالرقص ، تصبح الأيدي أجنحة تطير ، تتخلص من الواقع الذي يمنع الحياة أن تعيش ، أو تتخلص من لحظات الموت القابع خلف كل ثانية قد يمعن الطيار في حلمه الذي حمله في حقيبته الدراسية والتاريخية .
لم تعد الرقصات الخارجة من الوجع الغزي ، من الساحات تمحي الزمن ، ولكنها لغة جديدة تفوح بعطر التحدي ، تتجول وتقفز وتنهض بحرية . تلعب مع الخطط الحربية لعبة مغادرة الجسد وما أن يضحك الآخر فرحاً من الموت وأرقامه التي تتصاعد كل لحظة ، حتى تعود الأقدام إلى الرقص.
طناجر القهر
هناك العديد من الصور تبقى في الذاكرة لا تغيب ، صور الأطفال الأيتام في دور الأيتام وهم يقفون في طابور طويل وكل طفل يحمل صحنه ليأخذ حصته من الوجبة، مع ملامحه التي تدل على يتمه الذي أصبح رهينة في ثياب المسؤولين وبراءة الأطفال الصامتة أمام وحشية الظروف ، هكذا بينت لنا الأفلام والمسلسلات الأجنبية ، وكذلك في السجون خاصة في أفلام هوليود ، كنا نرى السجناء في الطابور ،لكن لم نكن نشفق عليهم لأن ملامح الاجرام برزت في عيونهم وعضلاتهم .
وأذكر عندما كنا في المدرسة الإعدادية - مدرسة ست وديعة في مدينة الناصرة - كان في المدرسة مطبخاً، حيث ندفع مبلغاً مالياً شهرياً مقابل وجبة الظهر، وكان هناك العديد من الطالبات لا يستطعن الدفع فينظرن بحسرة الينا - مع العلم أن إدارة المدرسة لم تكن تهتم لتلك المشاعر - عندما نذهب في - الفرصة - إلى قاعة الطعام حيث تنتظرنا الطباخة " أم عفيف " التي لم تكن تسمح لنا بالوقوف والانتظار بالطابور ، بل تأتي هي لكل طاولة وتسكب الطعام لكل طالبة.
ولكن " طناجر القهر " في غزة أصبحت تُشكل صورة كبيرة لتشرد مغطى بالقهر والخوف والموت المجاني ، تشرد يركض و يدعى " الجوع " الذي قطع شرايين الإنسانية، والذي يريد معرفة ما معنى الجوع فلينظر إلى عيون الأطفال الذين ينتظرون تلك الطناجر الكبيرة التي ترقد على نار الحطب الهادئ الذي يأخذ ساعات في الطهي ، حيث كل طفل يحمل صحنه منتظراً لحظة تقديم الوجبة .
لقد أطلقت على تلك الطناجر " طناجر القهر " واذا ردد " زياد الرحباني " الجوع كافر " ففي غزة ورفح وخان يونس وباقي أجزاء القلب ، الجوع تحول إلى خيانة إنسانية، الجوع تحول إلى قضية ستطارد التاريخ غداً ، وكلنا نعلم أن التاريخ مهما كان قواداً لا يستطيع إخفاء عهره طوال الوقت .
" طناجر القهر " ليست مجرد طبخات عادية تسد رمق الجوع الذي أصبح يعشش ويبيض ويفرخ في كل مكان في القطاع ، بل هو مواقف لشعوب أخرى تحمل ضوء الحرية ولكنها في أعماقها غابات من الوحشية .
شوقية عروق منصور
في دراسة أطلقها " علماء الاجتماع " أكدوا أن للرقص عدة فوائد منها :
أ - يجعلك تتعرف على ثقافات أخرى . ب- يساعد على فقدان الوزن . ت -يقلل من خطر هشاشة العظام وأمراض القلب . ث- يساعد على الاحتفاظ بطاقتك الإيجابية . ج- يقلل من التوتر والاجهاد ، ح- يجعلك أقوى . خ- يحافظ على جمالك وشبابك .
وفي رواية " زوربا " للكاتب اليوناني كازانتزاكيس ، ردد " زوربا " أن الرقص يعبر عن الحياة بكافة أشكالها ، في لحظات حزنه الشديد أو سعادته الشديدة يرقص رقصته المشهورة.
وهنا السؤال هل سيخرج علينا علماء الاجتماع وباقي المحللين في تفسير الرقصات وحلقات الدبكة التي يمارسها بفرح وقوة الصبيان والبنات في ساحات المدارس التي تعج بالنازحين وبين بقايا الثياب المعلقة على درابزين الصفوف، أمام الخيام في غزة وخان يونس ورفح وغيرها، وتنقلها المواقع الالكترونية التي تتقن نقل الأحداث بصورة الدموع والمعاناة والتعب، وتضيف رغم القتل والقصف والدمار والبيوت المتساقطة والجثث المتحللة والصراخ والبكاء وفقدان الأمان وأصوات الطائرات الزنانة والنزوح والخيام هناك من يرقص طرباً - كالطير مذبوحاً من الألم - ؟ .
أتأمل أقدام البنات وهن يخبطن على الأرض كأن مساحة الأرض تتسع حتى تحتضن السماء ، وتقامر الضحكات وتراهن أن المستقبل لهن ، وعندما تصادق الوجوه عدسات الكاميرات تدوم لحظات الفرح ويتوهم أنه سيبقى ولكن لا نعرف هل تلك الأقدام بقيت في نشوة الرقص أم بترت وقطعت أو غابت الضحكة تحت الركام .
أرى اقدام الصبيان والبنات تتنفس بالرقص ، تصبح الأيدي أجنحة تطير ، تتخلص من الواقع الذي يمنع الحياة أن تعيش ، أو تتخلص من لحظات الموت القابع خلف كل ثانية قد يمعن الطيار في حلمه الذي حمله في حقيبته الدراسية والتاريخية .
لم تعد الرقصات الخارجة من الوجع الغزي ، من الساحات تمحي الزمن ، ولكنها لغة جديدة تفوح بعطر التحدي ، تتجول وتقفز وتنهض بحرية . تلعب مع الخطط الحربية لعبة مغادرة الجسد وما أن يضحك الآخر فرحاً من الموت وأرقامه التي تتصاعد كل لحظة ، حتى تعود الأقدام إلى الرقص.
طناجر القهر
هناك العديد من الصور تبقى في الذاكرة لا تغيب ، صور الأطفال الأيتام في دور الأيتام وهم يقفون في طابور طويل وكل طفل يحمل صحنه ليأخذ حصته من الوجبة، مع ملامحه التي تدل على يتمه الذي أصبح رهينة في ثياب المسؤولين وبراءة الأطفال الصامتة أمام وحشية الظروف ، هكذا بينت لنا الأفلام والمسلسلات الأجنبية ، وكذلك في السجون خاصة في أفلام هوليود ، كنا نرى السجناء في الطابور ،لكن لم نكن نشفق عليهم لأن ملامح الاجرام برزت في عيونهم وعضلاتهم .
وأذكر عندما كنا في المدرسة الإعدادية - مدرسة ست وديعة في مدينة الناصرة - كان في المدرسة مطبخاً، حيث ندفع مبلغاً مالياً شهرياً مقابل وجبة الظهر، وكان هناك العديد من الطالبات لا يستطعن الدفع فينظرن بحسرة الينا - مع العلم أن إدارة المدرسة لم تكن تهتم لتلك المشاعر - عندما نذهب في - الفرصة - إلى قاعة الطعام حيث تنتظرنا الطباخة " أم عفيف " التي لم تكن تسمح لنا بالوقوف والانتظار بالطابور ، بل تأتي هي لكل طاولة وتسكب الطعام لكل طالبة.
ولكن " طناجر القهر " في غزة أصبحت تُشكل صورة كبيرة لتشرد مغطى بالقهر والخوف والموت المجاني ، تشرد يركض و يدعى " الجوع " الذي قطع شرايين الإنسانية، والذي يريد معرفة ما معنى الجوع فلينظر إلى عيون الأطفال الذين ينتظرون تلك الطناجر الكبيرة التي ترقد على نار الحطب الهادئ الذي يأخذ ساعات في الطهي ، حيث كل طفل يحمل صحنه منتظراً لحظة تقديم الوجبة .
لقد أطلقت على تلك الطناجر " طناجر القهر " واذا ردد " زياد الرحباني " الجوع كافر " ففي غزة ورفح وخان يونس وباقي أجزاء القلب ، الجوع تحول إلى خيانة إنسانية، الجوع تحول إلى قضية ستطارد التاريخ غداً ، وكلنا نعلم أن التاريخ مهما كان قواداً لا يستطيع إخفاء عهره طوال الوقت .
" طناجر القهر " ليست مجرد طبخات عادية تسد رمق الجوع الذي أصبح يعشش ويبيض ويفرخ في كل مكان في القطاع ، بل هو مواقف لشعوب أخرى تحمل ضوء الحرية ولكنها في أعماقها غابات من الوحشية .
شوقية عروق منصور