سلوى ادريسي - أحجية الوجود

كيف لي أن أبدأ الحكاية "بكان يا مكان" ولا مكان كان ولا زمان..!
في أحجية الوجود لن تجد ذكرا لما كان قبل أن يكون، وهذا يرجع لتعلق العقل البشري بادراكه للموجودات ولا شيء غيرها ..
إن حواسنا المحدودة تجعل من حكاياتنا إما أرقاما أو رموزا أو كتابات أدبية ولا شيء يخرج عن هذه الدائرة ..
ساحاول في هذه الفقرة أن أوضع بعض جوانب هذه الأحجية الفريدة من نوعها
في اعتقاد الحكماء ،الفلاسفة ،المفكرين المتأملين،الرسل والأنبياء ،أن كل ما عليهم فعله هو شرح كيفية عمل الوجود انطلاقا من الذات البشرية اولا ثم باقي الموجودات، وهذا أمر يمكن ادراكه بمعرفة جوهر كل شيء نراه أو نشعر به..
هذا الجوهر الثابت والذي تنتج عنه أشياء متنوعة اخرى قريبة او بعيدة من أصلها المتصور
لكن لا أحد يحاول تفسير أين كان المجود قبل أن يوجد؟
وماذا كانت طبيعته الخام ،قبل أن يصبح بطبيعته النهائية!؟

لذلك نحن ندور منذ مليارات السنين في نفس الدائرة ،دون أن يقفز أحد خارجها ويغير قوانينها
ربما لأننا جزء من القانون ولسنا الكل..بمعنى أننا لا نمثل بعقولنا المحدودة إلا جزء بسيط من تلك القطع التي تمثل الوجود..
إن احجيتنا البسيطة هذه، ماهي الا جزء من لوحة فنية بأبعاد لايمكن تصورها،ولو أتى أحدهم ومسح ذلك الجزء،فلن يؤثر على روعة وجمال وكمال تلك اللوحة، إننا فعليا نمثل الهامش بالنسبة لهذه اللوحة..أليس دور الهامش هو "تحديد إطار اللوحة" ..
إننا من جعلنا لأحجية الوجود إطارا ، وليس لزاما على باقي الموجودات ان تدخل في حيزنا الديق..
ان أحجية الوجود بالنسبة لي هي أكبر من أن تحدها لغة أو منطق، اننا نفهم الأشياء فقط انطلاقا من فهمنا لطبيعة ذواتنا ،بل ننطلق منها لفهم باقي الأشياء، فمثلا نحن نضع الحشرات في خانة الغير العاقل لنتفادى توجيه الإتهام لعقولنا المحدودة في فهم لغة الحشرات ثم نضع كائنات أخرى في موضع الذكاء فقط لأن عقولنا أدركت ذلك ..
إن جوهر كل شيء فيه ذكاء ما والا فلم يكن ليوجد ويستمر..
إننا نرسم خريطة الوعي بأيدينا ثم نقول إننا أعظم المخلوقات وأقربها لفهم الوجود..ياللغرابة!
كأننا بذلك نمجد أنفسنا دون السماح للآخر بإبداء رأيه فينا ،لمجرد أنه لا يفهم لغتنا أو ربما ليس من نفس النوع..
إن ادراكنا لما حولنا لا يعني أبدا أن باقي المخلوقات لا تدرك ما يحيط بها..
هل شاهدتم يوما حيوانات تفر من مكان ما دون سبب واضح بالنسبة لك ،ثم تدرك بعدها أنها شعرت بوجود زلزال في ذلك المكان ...
في معرفة الوجود أعتبر يقينا أن أضعف جانب يمكن البرهنة به هو" اللغة أو اللسان"
خصوصا تلك اللغة الأدبية المنمقة التي نجدها في كل الكتب،إنها مجرد تسلية ابتدعها الإنسان ليتبت لنفسه أنه قادر على مجاراة عظمة هذا الوجود بالمجاز، ويقلل من كل شيء لا يقدر على نفس فعله ،مع اعترافه بتنوع اللغات وان لكل لغة قدسيتها بالنسبة لمستخدميها..إنه يعترف ضمنيا ،أن هناك أوجه مختلفة للتعبير في اللغة الواحدة ومع ذلك يقصي كل لغة لاتعتمد على احرف أبجدية واعراب..
إن لغة النمل لا يفهمها إلا النمل! ..هل مطلوب من النمل أن يبني مستعمرته ويدون الطريقة التي فعل بها ذلك..
هل مطلوب من النمل أن يكتب قصيدة طويلة يصف فيها جمال مستعمرته؟!
هل التدوين يزيد من أهمية البناء شيئا ، أو ربما يزيد من فعالية وصلابة البناء..أكيد لا
إنه بناء كامل في ذاته وهذا أهم شيء،والنمل تفعل ذلك انطلاقا من ذاتها دون الإستعانة بعقول مفكرة ومختبرات ضخمة وتحليلات مستمرة لفعل نفس الشيء كل مرة..(ان جوهر العقل الفعلي هو قدرته على خلق الشيء دون إدراك أنه يفعله لسبب أو غاية,إنه يقوم بالفعل لأنه يعي تماما ان فعله هذا هو السبب في استمراريته ووجوده هذا كل ما في الأمر وبكل بساطة)
كأن نقول أن الإنسان يقوم بالتزاوج من أجل الإنجاب واستمرار الجنس، مع أن الأمر لا يبدو هكذا أبدا ،فالرجال والنساء في عمر السبعين مازالت لديهم النزعة الجنسية مع أنهم لن تعد لديهم القدرة على الإنجاب ،وأيضا النساء اللواتي ولدن بتشوه خلقي في الرحم وليست لديهن القدرة على الإنجاب ،لكن لديهن كل الرغبة الجنسية كما للأصحاء تماما..
في أحجية الوجود الإنسانية ،يتبين لنا أننا فقط نضيف اللغة للتزوير وتحويل مصار جوهر الأشياء..
إن شعور الأب وهو يحمل طفلا يحمل اسمه ويرث ماله ،إنما هي من المشاهد التي تجعلني أتأكد أن هذا المخلوق العاطفي غبي لأبعد الحدود..
إنه نفس شعور الفيل وهو يرى مولوده الجديد ،لكن دون لغة أدبية مزوقة ..
على الأقل الفيل لا يعتقد أنه قام بالفعل الجنسي من أجل ذلك الذي كان مجرد ماء ..
أليس الفيل وباقي الحيوانات أذكى من ان تفترض شيئا غبيا كما يفترضه الإنسان..
إذا افترضنا أننا نتخلى عن القانون والأخلاق والدين والفلسفة والإقتصاد والسياسة ،وأن نستمع بكل دقة لما يقوله جوهرنا...ترى ماذا سنسمع!
دون الإستعانة بالكلمات والمجازات ،ستصبح الأفعال هي من تقودنا ، والحركة هي من ستشكل فهمنا لذواتنا، الإنسان قادر على وضع يده في فمه ،لماذا قد يأكل بقدميه ؟ إنه قادر على النوم بشتى الوضعيات ، لماذا قد ينام واقفا..؟
إننا نملك تلك القدرة وكذلك المخلوقات الأخرى وباقي الكون..
دون إضافة أية رتوش أخرى خارجية للقيام بذلك ..
إننا سنستعمل وقتها طاقتنا الداخلية دون أي تحرج من أن يقال عنا عاقل او غير عاقل..
ومع ذلك فإننا باستطاعتنا خلق منظومة مشابهة لكل تلك الأشياء التي تم هدمها، وبكل تفاصيلها ،كاننا أمام مستعمرة للنمل تم غمرها بالمياه ،لكن هل توقف النمل عن بناء المستعمرات يوما ما..
إن الإنسان سيبني هذه الحضارة مجددا بكل تفاصيلها ليس لأنه الإنسان الواعي والعاقل ،بل لأن وجوده مرتبط بتلك الأشياء ،إن عقله مصمم للإستمرار بهذه الطريقة وليست أي طريقة أخرى ،دون أن يتصور أن طريقته هذه ذات أهمية بالغة أو ربما هي سر من أسرار الوجود..
إن حبات التراب المتساوية والمتناهية في الدقة لدى صديقتنا النملة إنما هي شبيهة بالنظام الحضاري للإنسان ،وتلك الكومة من التراب فوق جحر النمل إنما هي مثل أهرامات الجيزة في مصر،إن الفرق بيننا و بينهم هو غرورنا بما نفعل ، وهذا الغرور بيين جليا أننا ضعفاء أمام ما نصنع ولسنا قادرين على تجاوزه او الإعتراف بمحدوديته..
إن في أحجية الوجود أسرار عظيمة لن نتمكن من معرفتها أبدا وبمعنا آخر كل الأحجيات هي صحيحة من زاويتها ،لكنها لا تمثل أي حقيقة مطلقة، لأننا وبكل غرور أقولها الآن الكائنات الوحيدة التي لا يشبه أي فرد من جنسها الآخر ،وهي قدرة لا بأس بها لمعرفة بعض أجزاء اللوحة التي ذكرتها سابقا ..
سيقول البعض وهم يقرأون مقالي هذا ،وماذا عن كل هذه الإختراعات المتطورة التي خلقها الإنسان من أجل رفاهيته وبيان قدرته الخارقة ؟
سأجيبكم : هل يمكن أن تتصوروا أن ذبابة ومنذ ملايين السنين ،تطوّر من نفسها لتلحق بأحجية الوجود نفسها،وتستمر بالتواجد وجها لوجه أمامك ،كأنها تقول لك أنا هنا قبلك أيها الغبي بمفردي وانطلاقا من جوهري الكامل أنا هنا ، أزعجك كل صباح بطنيني..
لم يكن الزمن يوما محددا لقيمة الأشياء وجودتها ،الزمن مجرد وهم ،لذلك لا يمكننا أن نقيس أهمية الأشياء وذكائها من خلاله ،بل من خلال التطور الذي يحصل داخلها فقط ..
كأن نقارن سرعة الأرنب بسرعة السلحفاة كما في الحكايات..
إنه محض افتراء ولعب بعقول الصغار ،الوصول هو الأهم وليس وقت الوصول..
إنهم يبيعوننا الساعات مقابل أعمارنا أيها السادة ،إنهم لا يدعون شيئا الا وجعلوا له وقتا ،كما احجيات قبل النوم ، وقت الفرح وقت الحزن ...وقت إلخ..
لقد جعلوا للوجود أيضا وقتا، أولئك الذين يجلسون في هامش الوجود نفسه، ليصنعوا منا آلات زمنهم المحدود،ليصنعوا منا الوقت الذي لا يستطيعون الإمساك به ، ليصنعوا منا آلهة صغيرة بحجم غرام او غرامين ، كي نساعدهم في ضخ الغرور



سلوى ادريسي والي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى