خالد جهاد - موعد على العشاء

لم تعتذر فرنسا عن الفظائع التي ارتكبتها خلال احتلالها للجزائر.. لم تعتذر فرنسا عن دورها في اتفاقية سايكس- بيكو وما نتج عنها.. لم تعتذر عن ما اقترفته بحق القارة الإفريقية إلى جانب عدد من الدول الغربية.. لم تعتذر عن الرسوم المسيئة للدينين الإسلامي والمسيحي واعتبرتهما (حرية تعبير).. لم تعتذر عن تسليح الكيان الإسرائيلي الغاصب ومساندتها له في حربه الجارية على قطاع غزة المنكوب.. لم تعتذر عن قطعها للمساعدات الهزيلة التي ترسلها للأونروا.. ولم تعتذر عن قمعها لحريات المتضامنين مع فلسطين وقضيتها وهي من لا تكف عن التغني بهذه الحرية المزيفة.. لم تعتذر عن ازدواجية موقفها في السماح لإسرائيل بالتواجد بشكل طبيعي وضمن حماية مشددة لوفدها ضمن دورة الألعاب الأولمبية الحالية فيما يشارك الروس تحت راية محايدة.. لم تعتذر عن إقالة مذيع يقدم برنامجاً فكاهياً عبر أحد إذاعاتها الرئيسية (France Inter) في نهاية الأسبوع لمجرد القائه لنكتة يسخر فيها من (نتنياهو) ومن ما آلت اليه سمعته على مستوى العالم وهي من يحتفي بفن السخرية الذي (لا سقف له).. لم تعتذر عن الرسوم التي نشرتها صحيفة (الليبراسيون) وتسخر فيها من جوع الفلسطينيين وأطفالهم خلال شهر رمضان.. لم تعتذر على تحقيقها مع نواب ومفكرين وأكاديميين واتهامهم حسب ما وصف ب(تمجيد الإرهاب) لمجرد انتقادهم لإسرائيل والمطالبة بحقوق الشعب الفلسطيني ووقف إطلاق النار.. لم تضق قيمها (العلمانية) بالإحتفال بعيد الأنوار اليهودي (الحانوكا) داخل قصر الإليزيه ولم تضق قيمها بإرتداء رئيسها للقلنسوة اليهودية فيما تحارب وتمنع جميع الرموز والمظاهر الدينية الأخرى..

فكيف لنا بعد نبذة (قصيرة جدا) من المواقف الفرنسية ليس تجاه الدول العربية فحسب بل تجاه مختلف الثقافات أن نستغرب ما أقدمت على عرضه في حفل افتتاح دورة الألعاب الأولمبية وهو حدث عالمي ولا يخص فرنسا وحدها حتى وإن تمت استضافته على أراضيها..

فليس الغريب هو ما رآه الجميع من مشاهد متناهية القبح لا أثر فيها للجمال أو الثقافة أو الفن أو التاريخ أو الرقي بغض النظر عن الجدل القائم حول محاكاة اللوحة الأصلية التي تجسد (العشاء الأخير) للسيد المسيح عليه السلام وتلاميذه، حيث انقسمت الآراء حول كونها عملاً فنياً بحتاً أو عملاً دينياً أو ذا أبعاد دينية، فنحن نرى مرةً أخرى اصراراً على انتهاك حرمة الإنسان على مرأى ومسمع العالم والنيل منه ومن مشاعره أياً كانت فيما يفترض أن تكون مقدسة.. بالتزامن مع انتهاكها وذبحها أيضًا على مرأى ومسمع العالم ولكن من خلال الإبادة في غزة المنكوبة والسودان المنسي والعديد من الدول التي تعاني أشد المعاناة، فحشر واقحام وجود المثليين في كل تجمع واحتفال ومناسبة بات من الثوابت في الغرب حتى وإن لم تكن (الحالة) تستدعي ذلك، وعلى عكس ما يروج له هناك عبر وسائل الإعلام ويحلو للبعض في بلادنا العربية الترويج له وترديده لموافقته لأهوائهم الشخصية فإن هناك تياراً كبيراً لا يتم تسليط الضوء عليه (بشكلٍ متعمد) رافض لهذا التوجه من دولهم، ورافض لإنخراط أبنائه في نمط تعليمي يجبرهم ويجبره على تبني قيم لا يؤمن بها، فقد لجأ الكثيرون إلى الهجرة الداخلية والإنتقال الى القرى البعيدة بديلاً عن المدن الكبرى، كما لجأ البعض أيضًا إلى التعليم المنزلي أو إلى حجز دورهم ضمن قائمة انتظار طويلة لمدارس تشرف عليها الكنيسة امعاناً في رفضهم لحالة الضخ والدفع بقوة تجاه فرض المثلية لتكون جزءًا من الثقافة العامة عن طريق تناولها المستمر والمبالغ فيه وكأنها حدث عادي وليست استثناءاً لا يقاس عليه بما في ذلك أثرها النفسي على الأطفال، وهو ما لا يقتصر على شريحة معينة من المجتمع كما يحاول هذا التيار الترويج له وهي شريحة المتدينين من أيٍ دينٍ كانوا، فهناك الكثير من العائلات المتحررة والتي أعرف بعضها بشكل شخصي ترفض هذا الإتجاه أيضًا وترى ذلك جزءًا من مؤامرة على الإنسانية ككل، فقد ُشغلت الشعوب حول العالم كثيراً ولوقتٍ طويل بالتركيز على الإختلافات وإذكاء الصراعات العرقية والدينية والطبقية والإجتماعية بدلاً من النظر إلى الإنسان نفسه.. إلى كيانه وقيمته ومشاعره وكرامته التي ينبغي أن تكون معاييرها واحدة في كل مكان دون تحيز لفئة على حساب أخرى..

وبرغم اعتذار فرنسا مؤخراً عن هذه العروض التي تسببت في موجة غضب عالمية، فإن مواقفها السابقة خاصةً تجاه المهاجرين والجاليات العربية والإفريقية والمسلمة والتراكمات التي سببتها مقابل حصانة لكل ما يمت لإسرائيل وللثقافة اليهودية بصلة جعلت مصداقيتها في أدنى مستوياتها، خاصةً وأن ما يحدث في غزة حالياً لم يستطع أن ينتزع منها اعترافاً صريحاً بإنسانية الفلسطينيين وحقهم في الحياة على أرضهم فيما تستميت في الدفاع عن حق بعض الأشخاص في أن يفرض خياراته علينا وعلى أطفالنا بالإكراه في شكلٍ مختلف من أشكال الإستبداد الذي لا يراه الكثيرون، بل وأن يصدرها لنا تحت شعارات التسامح والتعاطف وحرية التعبير التي ليس (لنا) نصيب منها ولا من (العشاء) الذي تقدمه..

خالد جهاد..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى