في عام 2006 حضر إلى الرياض القائد الراحل ومؤسس أول تنظيم ثوري ارتري: حركة تحرير ارتريا الأستاذ محمد سعيد ناود (أبو محمود) للعلاج من إصابة في عينه إثر حادث تعرض له عندما كان حاكما لإقليم الساحل في التسعينات. كلفني السفير حينها بمتابعة رحلة علاجه في مستشفى الملك خالد التخصصي لأمراض العيون. استمرت رحلة علاج الأستاذ ثلاثة أشهر تقريبا، وكان يقيم في دار الضيافة في مجمع السفارة بحي أم الحمام، وكانت الدار خلف مكتبي مباشرة. كنت بالنهار اختلس سويعات للجلوس إليه ومؤانسته، أما في الفترات المسائية فكنت وبسبب فضولي الدفاق "أستحلب" ذكرياته حول الشخصيات الوطنية في ارتريا والسودان وتاريخ المنطقة في تلك الفترة: تحدثنا عن موغابي وزيمبابوي والسودان وارتريا ومصر، فالرجل كان معايشاً للحدث ومناضلا واسع الاطلاع منذ انضمامه للحزب الشيوعي السوداني في العشرينات من عمره ونضاله ضمن "الجبهة السودانية المعادية للاستعمار" وكان التاريخ والأشخاص هما مدار أحاديثنا وأسمارنا. وكشفت لي تلك الأسمار المفيدة علاقته الوثيقة بوالدي عضو تنظيم الحركة ولاحقا عضو قوات التحرير الشعبية، وكان الأستاذ ناود يقرض الشعر ويتوسع في الأدب (لا عجب: فالرجل صاحب أول رواية في الأدب الارتري)
أعود للكتابة عن هذه الأسمار المعرفية لأنني قضيت وقتا في قراءة كتابه (حركة تحرير ارتريا: الحقيقة والتاريخ) والذي كتبه في عام 1996. وأود في هذا التداعي أن استرجع قصتين: الأولى، عندما سألته، حينها، عن ملابسات سحب جنسيته وجواز سفره السوداني في الستينات، وهي قصة نسيت استحضارها في نقاش "ساخن" مع الأصدقاء مولانا عبد الله خيار وأحمد شيكاي وإبراهيم حالي حول الجنسية والتجنس والقبائل الحدودية قبل فترة.
والقصة الأولى حدثت عام 1967 عندما قامت مجموعة من الأمن السوداني باقتحام بيت الأستاذ ناود في بورتسودان وأخذت آلته الكاتبة ومجموعة من البيانات والوثائق وكان خائفا أن تعثر المجموعة على المسدس غير المرخص المدسوس في المنزل، ولكن أم محمود تداركت الموقف وخبأت المسدس في ملابسها فلم يتم العثور عليه. تم حبسه لفترة وإطلق سراحه لاحقا ولحل المشكلة غادر إلى الخرطوم للقاء وزير الداخلية حينها حسن عوض الله، وهو مناضل سوداني ضمن الجبهة الوطنية المعادية للاستعمار قبل الاستقلال، وقطب في الحزب الوطني الاتحادي. شرح الأستاذ ناود للوزير معاناته بسبب سحب جنسيته وجوازه وعدم القدرة على السفر، ولكن الوزير طلب منه كتابة تعهد موقع بعدم ممارسة أي نشاط سياسي ضد اثيوبيا، ووقع الأستاذ على التعهد (وإن لم يلتزم به) واستعاد جنسيته وجواز سفره.
أما القصة الثانية والتي تحمل عنوان هذا التذكر، فلقد نسيتها تماما بعد الحديث عنها آنذاك، ولم أتذكرها الا عندما بدأت قرأتها في الكتاب (حينها أشار لي الأستاذ بأنها مذكورة في الكتاب) وهي تخص الرمزين ولد آب ولد مريام من ارتريا والمفكر محمود محمد طه من السودان. الأول من رواد الكتلة الاستقلالية الارترية في الاربعينات والخمسينات وكان ممثلا لحركة تحرير ارتريا في القاهرة وله اسهامه الثقافي المؤثر بلغة التقرينية. أما محمود طه فهو مؤسس الحزب الجمهوري في السودان وصاحب اجتهادات فكرية في الدين ودوره في الحياة، وهو غني عن التعريف، وسأترك الفرصة للأستاذ ناود ليحكي القصة كما وردت في الصفحات 321-322 من كتابه المذكور آنفا. يقول الأستاذ ناود ضمن ذكرياته حول الشخصيات التي كان لها موقفا إيجابياً وداعماً لحقوق الشعب الارتري: "أذكر الأستاذ محمود محمد طه رئيس الحزب الجمهوري وكيف كان مكتبه في الخرطوم وبيته في امدرمان مفتوحان لنا. وبهذه المناسبة فإن السيد ولد آب ولد ماريام قال لنا أنه مهتم بفكر الأستاذ محمود محمد طه وطلب منا تعريفه به فأخذناه إلى منزله في حي الثورة بأمدرمان. فرحب بنا الأستاذ محمود وأكرمنا كعادته. هنا قال له ولد آب أنني أود معرفة فلسفتك وفهمك للإسلام مع أنني مسيحي. وكان الحديث بينهما بالإنجليزية. قام الأستاذ محمود وفتح أحد أدراج مكتبه وقدم للسيد ولد آب ملفاً بخط اليد باللغة الإنجليزية. وبعد أيام وبعد أن قرأ السيد ولد آب الملف بدأ يعبر عن إعجابه بالأستاذ محمود محمد وبفكره. وطلب منا أن نأخذه إليه لإعادة الملف له. وهناك قال السيد ولد آب مخاطباً الأستاذ محمود: " لقد قرأت أوراقك واقتنعت بكل ما جاء فيها فإما تكون أنت مسيحي أو أكون أنا مسلم دون أن أدري لأن فهمي للمسيحية لا يختلف مما جاء في أوراقك عن الإسلام" فرد عليه الأستاذ محمود: " كل الأديان منبعها واحد."
أعود للكتابة عن هذه الأسمار المعرفية لأنني قضيت وقتا في قراءة كتابه (حركة تحرير ارتريا: الحقيقة والتاريخ) والذي كتبه في عام 1996. وأود في هذا التداعي أن استرجع قصتين: الأولى، عندما سألته، حينها، عن ملابسات سحب جنسيته وجواز سفره السوداني في الستينات، وهي قصة نسيت استحضارها في نقاش "ساخن" مع الأصدقاء مولانا عبد الله خيار وأحمد شيكاي وإبراهيم حالي حول الجنسية والتجنس والقبائل الحدودية قبل فترة.
والقصة الأولى حدثت عام 1967 عندما قامت مجموعة من الأمن السوداني باقتحام بيت الأستاذ ناود في بورتسودان وأخذت آلته الكاتبة ومجموعة من البيانات والوثائق وكان خائفا أن تعثر المجموعة على المسدس غير المرخص المدسوس في المنزل، ولكن أم محمود تداركت الموقف وخبأت المسدس في ملابسها فلم يتم العثور عليه. تم حبسه لفترة وإطلق سراحه لاحقا ولحل المشكلة غادر إلى الخرطوم للقاء وزير الداخلية حينها حسن عوض الله، وهو مناضل سوداني ضمن الجبهة الوطنية المعادية للاستعمار قبل الاستقلال، وقطب في الحزب الوطني الاتحادي. شرح الأستاذ ناود للوزير معاناته بسبب سحب جنسيته وجوازه وعدم القدرة على السفر، ولكن الوزير طلب منه كتابة تعهد موقع بعدم ممارسة أي نشاط سياسي ضد اثيوبيا، ووقع الأستاذ على التعهد (وإن لم يلتزم به) واستعاد جنسيته وجواز سفره.
أما القصة الثانية والتي تحمل عنوان هذا التذكر، فلقد نسيتها تماما بعد الحديث عنها آنذاك، ولم أتذكرها الا عندما بدأت قرأتها في الكتاب (حينها أشار لي الأستاذ بأنها مذكورة في الكتاب) وهي تخص الرمزين ولد آب ولد مريام من ارتريا والمفكر محمود محمد طه من السودان. الأول من رواد الكتلة الاستقلالية الارترية في الاربعينات والخمسينات وكان ممثلا لحركة تحرير ارتريا في القاهرة وله اسهامه الثقافي المؤثر بلغة التقرينية. أما محمود طه فهو مؤسس الحزب الجمهوري في السودان وصاحب اجتهادات فكرية في الدين ودوره في الحياة، وهو غني عن التعريف، وسأترك الفرصة للأستاذ ناود ليحكي القصة كما وردت في الصفحات 321-322 من كتابه المذكور آنفا. يقول الأستاذ ناود ضمن ذكرياته حول الشخصيات التي كان لها موقفا إيجابياً وداعماً لحقوق الشعب الارتري: "أذكر الأستاذ محمود محمد طه رئيس الحزب الجمهوري وكيف كان مكتبه في الخرطوم وبيته في امدرمان مفتوحان لنا. وبهذه المناسبة فإن السيد ولد آب ولد ماريام قال لنا أنه مهتم بفكر الأستاذ محمود محمد طه وطلب منا تعريفه به فأخذناه إلى منزله في حي الثورة بأمدرمان. فرحب بنا الأستاذ محمود وأكرمنا كعادته. هنا قال له ولد آب أنني أود معرفة فلسفتك وفهمك للإسلام مع أنني مسيحي. وكان الحديث بينهما بالإنجليزية. قام الأستاذ محمود وفتح أحد أدراج مكتبه وقدم للسيد ولد آب ملفاً بخط اليد باللغة الإنجليزية. وبعد أيام وبعد أن قرأ السيد ولد آب الملف بدأ يعبر عن إعجابه بالأستاذ محمود محمد وبفكره. وطلب منا أن نأخذه إليه لإعادة الملف له. وهناك قال السيد ولد آب مخاطباً الأستاذ محمود: " لقد قرأت أوراقك واقتنعت بكل ما جاء فيها فإما تكون أنت مسيحي أو أكون أنا مسلم دون أن أدري لأن فهمي للمسيحية لا يختلف مما جاء في أوراقك عن الإسلام" فرد عليه الأستاذ محمود: " كل الأديان منبعها واحد."