سؤال طالما طرحته على نفسي، اكثر من اربعين عاما هي فترة معاقرتي للكلام، وأنا اطرح هذا السؤال، في البداية كنت اطرحه على نفسي، أما فيما بعد، بعد أن بت واحدا من كتاب القصة وصدرت لي مجموعات قصصية عديدة، تضمن بعضها قصصا بات يدرس ضمن المنهاج التدريسي حيث أقيم، في بلادي، فقد بات آخرون يطرحون هذا السؤال.
في كل مكان اذهب إليه تقريبا يطرح علي مثل هذا السؤال، لا سيما من قبل الطلاب الذين أقوم بتعليمهم الكتابة الإبداعية في مجال كتابة القصة.
فكيف تكتب القصة؟ وماذا عليك أن تفعل كي تتمكن من كتابة قصة تلقى القبول وتحظى باهتمام القراء؟ وماذا يطلب منك كي تنضم إلى نادي كتاب القصة؟
أجيب بداية، أن حال كاتب القصة نادرا ما يختلف عن حال سواه من كتاب القصة، المجلين في مجالها، فهو إنسان حساس، يمتلك درجة عالية جدا من الحساسية، يعمل أربعا وعشرين ساعة في اليوم، كما يقول الكاتب دي فوتو في كتابه الآسر عن " عالم القصة"، ويجسد حساسية دائمة الاشتعال ومتميزة تجاه الواقع، كما يري فرانك اوكونور في كتابه الهام في مجال الفن القصصي" الصوت المنفرد".
هذا الانشغال المتواصل وهذه الحساسية المتميزة، تدفعان بصاحبهما، لان ينشغل بكل ما يحيط به، فتراه يتوقف منشغلا بالمرأة المسنة الذي رآها وقد استقلت باص الساعة السابعة المسافر من مدينته الناصرة إلى المدينة القريبة حيفا، ويرى ما وضعته على وجهها من أصباغ وعطور لا يمكن لعطار أن يعيد إليه بهاء كان، فيقول لسان حاله إن العطار لا يصلح ما أفسده الدهر، وقد ينشغل بهذه المرأة المسنة، وينساها ثم يعود إليها ليتذكرها مجددا، فإذا ما بقيت، انتابه إحساس، مثل ذاك الذي انتاب الكاتب العربي المصري يوسف إدريس، بقيمة ما وقعت عينه عليه من إيحاءات، أما إذا نسيها، فانه يتأكد من أنها لا تستحق عناء التذكر وينساها إلى لا رجعة إليها، آملا في قدحة أخرى، يبعثها" سقط زند" آخر على طريقة أبي العلاء المعري.
إلحاح هذه المسنة قد يدفع الكاتب مع مضي الوقت، لان يوغل في عالم متخيل لتلك المرأة، فهي مسنة، إذن هي عاشت في زمن النضال الفلسطيني، في عام النكبة الفلسطينية، أما سبب سفرتها تلك فلا بد من أن يكمن وراءها سر، فما هو؟ انه خبر غريب مذهل تلقته تلك المرأة، على حين غرة، من محبوب لها كان مقاتلا إبان الفترة المشار إليها، ذاك المحبوب كتب إليها ما مفاده، انه أقام منذ عام النكبة في حيفا متشبثا بأرض الوطن، وانه لم يتصل بها منذ ذلك الوقت لسبب بسيط هو انه لم يشأ أن يكون سببا للتنغيص عليها وعلى حياتها الشخصية مع زوجها!! أما دافع كتابته لها، فانه يكمن في سبب لا يقل أهمية عن ذاك الذي جمع بينهما أيام فلسطين، هذا الدافع يتمثل في انه بات يشعر بان أيامه قليلة على هذه الأرض، وانه يريد أن يراها في لحظاته الأخيرة.
تلك المرأة، وقد باتت واضحة المعالم وأطلق عليها خالقها مجددا اسم كلاريس، حملت نفسها يوم الأحد، وانطلقت في باص الساعة السابعة إلى حيفا، بيدها عنوان ذاك الرجل الذي كان، على أمل أن تلتقي به ولو في لحظاته الأخيرة، لقد بات واضحا أن تلك المرأة إنما تزينت واستقلت الباص، في تلك الساعة، لتلقي بحلم كان وآن لها أن تلتقي به ولو في لحظات رحيله الأخيرة. لكن هل ستلتقي حلمها ممثلا بذلك الرجل؟ سؤال لا تجد له أية إجابة، لهذا تواصل السفر وفي عينيها أكثر من حلم.
يتوقف الباص أخيرا في حيفا، هناك تسارع للنزول منه، ترتقي درج البيت في الدور الذي حدده لها، قبل أن تصل بخمس من الدقائق، تنطلق صرخة، إنها صرخة مدوية تنبئ بموت الفته وعرفت بأية نبرة من الصوت يـُعبـّر عنه الناس.
في تلك اللحظة تدرك أنها لم تتأخر منذ ذلك العام، عام النكبة، إلى العام التي تعيش فيه، وإنما تأخرت دقائق، لا تعدو عدد أصابع اليد الواحدة، فتعود على عقبيها.
ترون والحالة هذه، أن القصة ولدت من منظر مميز ترك تأثيره الخاص في نفسية صاحب القصة، ثم تشكلت في أبعاد ذات علاقة بما عاشه الكاتب من تجربة حياتية، كونه ابنا لعائلة من المهجرين الفلسطينيين وفدوا للإقامة في مدينة الناصرة، بعد تهجير إسرائيل ألقسري لهم من قريتهما سيرين، وهي مهدمة حاليا وكانت تتبع لمنطقة بيسان. كما ترون.. القصة ابتدأت بتلك المرأة المسنة، ثم تنقلت معها لتعيش بعض من هواجسها وأفكارها، ثم انتهت تلك النهاية الفاجعة التي قادت إليها الأحداث، بكل ما تضمنته من فجائعية حفلت بها" التغريبة الفلسطينية"!
صاحب القصة، كما قد ترون أيضا، اعتمد على مخزون لا باس به من المعرفة بالنفس الإنسانية، كما استعان بتجربة حياتية يومية لها زمانها ومكانها، فهي لا تحلق في فضاء الخيال إلا لترتد الى الواقع، ولا تتضاد مع الواقع إلا لتلتصق به أكثر، هي باختصار تحاول أن توجد مساحتها المتخيلة الذاتية، غير أنها لا تقوم بأي تعاكس مع الواقع، بقدر ما تحاول أن تتصالح معه عبر فتحها لنافذة جديدة على الرؤيا، تضيف إليه، ولا تنتقص من حدته بأي من الأحوال.
بناء على هذا كله، يمكننا ملاحظة أن صاحب القصة إنما يعيش تجربة فريدة من نوعها ويحاول دائما أن يقدمها إلينا على أنها الواقع، علما أنها ليست الواقع بحذافيره، وإنما هي واقع متخيل قد يكون اشد صدقا من الواقع، أقول هذا لسببين احدهما أننا في القصة نلمس واقعا متكاملا، وليس مجتزءا، كما هو الشأن في الحياة اليومية المعيشة، والآخر انه يقف وراء القصة، كاتب ذو حساسية دائمة الاشتعال، لا يخبو لها أوار طوال ساعات اليوم، وهو ما يمكّن صاحبها من تقديم واقع متخيل ومتكامل أيضا.
في كل مكان اذهب إليه تقريبا يطرح علي مثل هذا السؤال، لا سيما من قبل الطلاب الذين أقوم بتعليمهم الكتابة الإبداعية في مجال كتابة القصة.
فكيف تكتب القصة؟ وماذا عليك أن تفعل كي تتمكن من كتابة قصة تلقى القبول وتحظى باهتمام القراء؟ وماذا يطلب منك كي تنضم إلى نادي كتاب القصة؟
أجيب بداية، أن حال كاتب القصة نادرا ما يختلف عن حال سواه من كتاب القصة، المجلين في مجالها، فهو إنسان حساس، يمتلك درجة عالية جدا من الحساسية، يعمل أربعا وعشرين ساعة في اليوم، كما يقول الكاتب دي فوتو في كتابه الآسر عن " عالم القصة"، ويجسد حساسية دائمة الاشتعال ومتميزة تجاه الواقع، كما يري فرانك اوكونور في كتابه الهام في مجال الفن القصصي" الصوت المنفرد".
هذا الانشغال المتواصل وهذه الحساسية المتميزة، تدفعان بصاحبهما، لان ينشغل بكل ما يحيط به، فتراه يتوقف منشغلا بالمرأة المسنة الذي رآها وقد استقلت باص الساعة السابعة المسافر من مدينته الناصرة إلى المدينة القريبة حيفا، ويرى ما وضعته على وجهها من أصباغ وعطور لا يمكن لعطار أن يعيد إليه بهاء كان، فيقول لسان حاله إن العطار لا يصلح ما أفسده الدهر، وقد ينشغل بهذه المرأة المسنة، وينساها ثم يعود إليها ليتذكرها مجددا، فإذا ما بقيت، انتابه إحساس، مثل ذاك الذي انتاب الكاتب العربي المصري يوسف إدريس، بقيمة ما وقعت عينه عليه من إيحاءات، أما إذا نسيها، فانه يتأكد من أنها لا تستحق عناء التذكر وينساها إلى لا رجعة إليها، آملا في قدحة أخرى، يبعثها" سقط زند" آخر على طريقة أبي العلاء المعري.
إلحاح هذه المسنة قد يدفع الكاتب مع مضي الوقت، لان يوغل في عالم متخيل لتلك المرأة، فهي مسنة، إذن هي عاشت في زمن النضال الفلسطيني، في عام النكبة الفلسطينية، أما سبب سفرتها تلك فلا بد من أن يكمن وراءها سر، فما هو؟ انه خبر غريب مذهل تلقته تلك المرأة، على حين غرة، من محبوب لها كان مقاتلا إبان الفترة المشار إليها، ذاك المحبوب كتب إليها ما مفاده، انه أقام منذ عام النكبة في حيفا متشبثا بأرض الوطن، وانه لم يتصل بها منذ ذلك الوقت لسبب بسيط هو انه لم يشأ أن يكون سببا للتنغيص عليها وعلى حياتها الشخصية مع زوجها!! أما دافع كتابته لها، فانه يكمن في سبب لا يقل أهمية عن ذاك الذي جمع بينهما أيام فلسطين، هذا الدافع يتمثل في انه بات يشعر بان أيامه قليلة على هذه الأرض، وانه يريد أن يراها في لحظاته الأخيرة.
تلك المرأة، وقد باتت واضحة المعالم وأطلق عليها خالقها مجددا اسم كلاريس، حملت نفسها يوم الأحد، وانطلقت في باص الساعة السابعة إلى حيفا، بيدها عنوان ذاك الرجل الذي كان، على أمل أن تلتقي به ولو في لحظاته الأخيرة، لقد بات واضحا أن تلك المرأة إنما تزينت واستقلت الباص، في تلك الساعة، لتلقي بحلم كان وآن لها أن تلتقي به ولو في لحظات رحيله الأخيرة. لكن هل ستلتقي حلمها ممثلا بذلك الرجل؟ سؤال لا تجد له أية إجابة، لهذا تواصل السفر وفي عينيها أكثر من حلم.
يتوقف الباص أخيرا في حيفا، هناك تسارع للنزول منه، ترتقي درج البيت في الدور الذي حدده لها، قبل أن تصل بخمس من الدقائق، تنطلق صرخة، إنها صرخة مدوية تنبئ بموت الفته وعرفت بأية نبرة من الصوت يـُعبـّر عنه الناس.
في تلك اللحظة تدرك أنها لم تتأخر منذ ذلك العام، عام النكبة، إلى العام التي تعيش فيه، وإنما تأخرت دقائق، لا تعدو عدد أصابع اليد الواحدة، فتعود على عقبيها.
ترون والحالة هذه، أن القصة ولدت من منظر مميز ترك تأثيره الخاص في نفسية صاحب القصة، ثم تشكلت في أبعاد ذات علاقة بما عاشه الكاتب من تجربة حياتية، كونه ابنا لعائلة من المهجرين الفلسطينيين وفدوا للإقامة في مدينة الناصرة، بعد تهجير إسرائيل ألقسري لهم من قريتهما سيرين، وهي مهدمة حاليا وكانت تتبع لمنطقة بيسان. كما ترون.. القصة ابتدأت بتلك المرأة المسنة، ثم تنقلت معها لتعيش بعض من هواجسها وأفكارها، ثم انتهت تلك النهاية الفاجعة التي قادت إليها الأحداث، بكل ما تضمنته من فجائعية حفلت بها" التغريبة الفلسطينية"!
صاحب القصة، كما قد ترون أيضا، اعتمد على مخزون لا باس به من المعرفة بالنفس الإنسانية، كما استعان بتجربة حياتية يومية لها زمانها ومكانها، فهي لا تحلق في فضاء الخيال إلا لترتد الى الواقع، ولا تتضاد مع الواقع إلا لتلتصق به أكثر، هي باختصار تحاول أن توجد مساحتها المتخيلة الذاتية، غير أنها لا تقوم بأي تعاكس مع الواقع، بقدر ما تحاول أن تتصالح معه عبر فتحها لنافذة جديدة على الرؤيا، تضيف إليه، ولا تنتقص من حدته بأي من الأحوال.
بناء على هذا كله، يمكننا ملاحظة أن صاحب القصة إنما يعيش تجربة فريدة من نوعها ويحاول دائما أن يقدمها إلينا على أنها الواقع، علما أنها ليست الواقع بحذافيره، وإنما هي واقع متخيل قد يكون اشد صدقا من الواقع، أقول هذا لسببين احدهما أننا في القصة نلمس واقعا متكاملا، وليس مجتزءا، كما هو الشأن في الحياة اليومية المعيشة، والآخر انه يقف وراء القصة، كاتب ذو حساسية دائمة الاشتعال، لا يخبو لها أوار طوال ساعات اليوم، وهو ما يمكّن صاحبها من تقديم واقع متخيل ومتكامل أيضا.