مقتطف محمد إبراهيم محمد عمر همد محمود. - الحفل: مقتطف من رواية "أضواء النفق الجنوبي"

شرع الجنود في التفتيش العاري للأسرى، هذه أول مرة يتعرض فيها لتفتيش كهذا، وهاهو الجندي ديفيد يعبث به، ويطلق قفشاته الماجنة، والتي يصف فيها جسده النحيل، هذا الجندي قد تجاوز حدود الوقاحة وهو الآن على مشارف حدود المجون والخلاعة، إذ يصف أعضاء حساسة لنبيل الدباغ حتى نبيل نفسه لم يلاحظ ذلك فيها، وكان ذلك أكثر مما يحتمل صبرھ ، ولو كان يحتمل شيئاً من هذا الإذلال الذي يتعرض له الآن لما كان هنا في السجن محكوماً عليه بسبعة عشر عاماً من الأصل، ما يزيده غيظاً أنه لا أحد من زملائه الأسرى يبدي اكتراثاً للتفتيش العاري، يبدو أن المناطق الحساسة في هذه الأجساد قد فقدت حساسيتها منذ وقت طويل، ولا بأس من عرضها على العامة بين الفينة والأخرى، ولو علم بعدد المرات التي تعرضت فيه هذه الأجساد لتفتيش كهذا لما أبدى استغراباً أو غيظاً منهم، من الصعب أن يعد الإنسان منطقة ما عورة من جسدھ وھو قد تعرض لتفتيش عار أمام الملأ أكثر من من خمسمائة مرة، لابد أن كل سجين وسجان هنا لديه معلومات جغرافية وافية عن تقاطيع جسد أي سجين آخر هنا، إذاً هذا الحفل العاري صنع خصيصاً من أجله هو، لذلك انفجر بركان الغضب في صدره، وبدأت أبخرته تتصاعد عبر كل فتحة من فتحات وجهه ورأسه، وبكل ما يغلي فيه من غضب وتوتر أهوى برأسه على رأس ديفيد، ليسقط الأخير مغشياً عليه من هول الضربة، والدماء تغطي وجهه، يبدو أن هؤلاء الجنود يمتلكون مخزوناً دموياً سطحياً يسيل بأصغر وخزة على أجسادهم، وقد تمدد الورم الناتج عن الضربة بسرعة ليذيب المعالم الواضحة لشفتيه وأنفه، من يصدق أن هذا الوجه المتميع كقطعة من اللادن في فم فتاة مغناج يعود لديفيد، ديفيد الذي يحرص أشد الحرص على قمع السجناء بكل وحشية وقسوة، الآن علم سبب هذه القسوة المبالغ فيها، ألا وهو الحاجة إلى أن يبدو أقوى من زملائه الجنود الذين يعانون من المشكلة ذاتها، وهذا ما جعل بعض زملاؤه يهرعون في مساعدته، ولا إرادياً أهوى بعضهم بكعوب بنادقهم على جسد يتناوبون عليه في الضرب، في البداية لم يحس بقوة ضرباتهم حتى صار جسمه كتلة من اللحم المفروم على عجل، وسقاه تعجزان عن حملھ بل لم يعد يحس بوجودهما، يبدو أنهما انفصلتا عن جسده منذ وقت ليس بالقصير، ثم بدأ يشعر بألم حارق في صدره يبدو أن قفصه الصدري قد تصدع من وقع الضربات، ثمة فقرات قد تهشمت وبدأت توخز أحشاءه من الداخل.وقد تمكن الجنود من قمع السجناء بالعصي وقنابل الغاز المسيل للدموع،ما بدر منهم اليوم كان كافياً للتضييق عليهم أكثر، إن لهذا السجن قواعد صارمة لا يمكن العبث بها، لذلك تم تعديل حجرات السجن إلى زنزانات صغيرة، وألقي به وسط زملائه بين الغيبوبة والوعي، والدم ينزف من جميع أجزاء جسمه، وكل خلية في جسمه تئن لوحدها، ويكاد يسمع أنينها بوضوح.
ما هذه البرودة التي يشعر بها في أطرافه، ومتى تبللت أرضية المبني بالمطر، ما هذه الأصوات القادمة من أعماق الأرض، ولم تبدو له مألوفة جداً، وبدأت تلك الأصوات تقترب رويداً رويداً، الآن يسمعها بوضوح، هذه أصوت دفوف، ثمة عرس ما على مقربة من هنا، ولكن لم لا يراه، ثمة ضوء ساطع قادم من البعد، اتضحت الرؤية تماماً، ثمة نسوة هنالك يضربن الدفوف، وقد وقفن في صفين مهيبين، يزيدهن مهابة الثياب البيضاء التي يلبسنها، وهذا ما يجعل المكان يبدو شاحباً ومخيفاً، ولا يتناسب مع هذه الأصوات التي تبعث الطرب في النفوس، تسرع بين الصفين عروس نحيلة ذات طول فارغ وذيل زفافها الأبيض يمتد خلفھا لبضعة أمتار، ويحمل طرف الذيل امرأة تماثلھا طولا ونحافة، وثمة شيء أسود يتدلى من المرأة الأخرى، وهنالك غلام يحمل ذلك الشيء المتدلي منھا وھو يسرع الخطى خلفھا،

ورأسه غير مثبت بإحكام على جسده، فهاهو يتمايل يمنة ويسرة كلما أسرع الخطى، ثم ظهر غلام آخر وأهوى بقرص ما على الغلام الأول، فسقط رأس الأول بسرعة، ولم تجد محاولات الإمساك به نفعاً، لم يكن الرأس مثبتاً بما يكفي، كما أن الضربة كانت من القوة بمكان، بينما دخلت العروس إلى بيت ما وهي تلوح بيدها لتلك المرأة التي كانت تمسك بذيل زفافها.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى