مصطفى نصر - حكايات الحب المفقود في حياتنا...

شحيحة جدا قصص الحب في تاريخنا العربي، فمازلنا نحكي عن حب قيس لليلي، وحب عنترة لعبلة، وطوال السنوات الكثيرة جدا التالية لهذا الزمن البعيد لم تقابلنا قصة حب نشدو ونقسم بها أمام محبينا، فنحاول أن نخلق قصصا مثل حب الشاعر أحمد رامي العجيب والمثير لآم كلثوم، ثم حب محمد القصبحي وعشقه لها، لدرجة إنه الموسيقى البارع، يقبل أن يكون مجرد عازف على آلة العود في فرقتها الموسيقية. أو نحكي عن قصة الحب الغامضة التي حدثت بين الشاعر إبراهيم ناحي وزوزو حمدي الحكيم التي كتب فيها رائعته الأطلال.
وسأحاول هنا أن أبحث عن قصص حب قريبة العهد حدثت في عالمنا العربي الحديث.
فقد إكتشفتُ جبران خليل جبران فقرأت روايته الأولى "الأجنحة المتكسرة" في فترة مبكرة من حياتي، وهي تحكي عن حياته عندما كان في الثامنة عشرة من عمره، إذ ترك بلدته "بشري" وسافر إلى بيروت، فقابل هناك تاجراً غنياً كان صديقاً لوالده في شبابه، أعجب الرجل به ودعاه إلى بيته وقدمه إلى ابنته الجميلة - سلمى - فنشأت بينهما قصة حب جميلة وطاهرة، فيقول عن ذلك: "في تلك السنة شاهدت ملائكة السماء تنظر إليّ من وراء أجفان امرأة جميلة وفيها رأيت أبالسة الجحيم يضجون ويتراكضون في صدر رجل مجرم" (صفحة 24)
هذا الرجل هو مطران الضاحية، شخص يأتلف في شخصه الطمع بالرياء والخبث بالدهاء، وهو رئيس دين في بلاد الأديان والمذاهب (صفحة 24)
ولهذا المطران ابن أخ تتصارع في نفسه عناصر المفاسد والمكاره مثلما تنقلب العقارب والأفاعي على جوانب الكهوف والمستنقعات (صفحة 24)
لقد أراد هذا المطران الفتاة الجميلة الغنية لإبن أخيه طمعاً في مال أبيها، ولم يستطع التاجر الطيب أن يخالف أمر المطران وإلا خطب في الكنيسة وهاجمه، وزوّج إبنته إلى هذا الشاب الفاسد مضطرا، فانجب منها طفلاً ثم قضى عليها بطمعه ومجونه، وماتت بعد وقت قصير، ووقف جبران أمام قبرها يبكي بينما المطران وابن أخيه يتقبلان العزاء: أما أنا فبقيتُ واقفا منفردا وحدي وليس من يعزيني على مصيبتي، كأن سلمى وطفلها لم يكونا أقرب الناس إلى ّ(صفحة 132)
.....
أرسل حسين شداد رسالة إلى صديقه كمال عبد الجواد يبلغه فيها بأنه هو وصديقاه حسن سليم وإسماعيل لطيف قد عادوا من المصيف، ويدعوه حسين شداد لمقابلته في قصرهم بالعباسية.
يحب كمال عبد الجواد منطقة العباسية ويعجب بنظافتها وهندستها، والهدوء المريح فيها، ويحبها لأنها موطن قلبه ومنزل وحي حبه.
يالهذا العشق العجيب، فهو سعيد برسالة حسين شداد إليه، على أمل أن تكون حبيبته عايدة قد شاهدت هذا الخطاب بعينيها الجميلتين، أو لمسته بأصابعها، وأخذ يعيد قراءته للخطاب لمرات عديدة، كأن عايدة هي التي كتبته وهي التي تطلب مقابلته.
يدور الحديث بين كمال عبد الجواد واصدقائه حسين شداد وحسن سليم وإسماعيل لطيف في مواضيع كثيرة. إلى أن تجيء عايدة ممسكة بأختها الصغيرة بدور ابنة الأعوام الثلاثة.
بدور متعلقة بكمال عبد الجواد، تنام على كتفه لفترات طويلة، تحكي عايدة هذا لافراد العائلة، فيضحك والدهم عبد الحميد شداد لإبنته الصغيرة بدورويسألها: ترغبين في الزواج من كمال عبدالجواد؟
فتجيبه: نعم أتريد أن اتزوجه.
يتزوج حسن سليم من عايدة ويسافر بها لفرنسا فهو يعمل بسفارتنا بباريس.
يخسر عبدالحميد بك شداد أمواله في التجارة، فلا يستطيع تحمل الصدمة، فينتحر. فتنتقل زوجته سنية هانم لشقة صغيرة في العباسية إيجارها لا يصل لثلاثة جنيهات، وتعيش على معاش شهري قدره خمسة عشر جنيها من ريع وقف لها. هي وابنتها الصغيرة بدور ابنة الرابعة عشر. فحسين شداد وعايدة سافرا لفرنسا.
يعلم كمال عبدالجواد بأن عايدة وزوجها حسن سليم قد هربا من باريس قبل ان تصل القوات الألمانية إليهما عند إحتلال فرنسا، فسافرا إلى إيران، وأنهما قد أنجبا إبنا في الرابعة عشر وإبنة في العاشرة.
وقد إكتشفت عايدة وتأكدت من أن زوجها على علاقة بموظفة بمفوضية بلجيكا بإيران، فغضبت وأصرت على طلب الإنفصال عنه، فعادت بابنها وابنتها. ثم تزوجت من آخر.
عاش كمال عبد الجواد دون زواج، يحلم بأن يلتقي يوما بعايدة، الغريب إنه يرى فتاة في العشرين من عمرها تقريبا قريبة الشبه من عايدة، اتضح إنها بدور – الفتاة الصغيرة ذات السنوات الثلاثة – التي كانت ترتاح على كتفه – ثم رآها تسير مع شاب توقع أن يكون خطيبها.
وعند تقاطع شارعي شريف وقصر النيل، وأمام مقهى رتز، يجد كمال، حسين شداد أمامه، يقابله لكي يكشف له عن حقائق كثيرة كانت غائبة عنه. فبدور قد تزوجت منذ عام، وعايدة – حبيبته – قد ماتت وهي متزوجة من أنور بك زكي كبير مفتشي اللغة الإنجليزية الذي يشرف على عمل كمال عبدالجواد.
ويسرح كمال ويندهش من عجائب القدر، فلقد سار في جنازة حبيبته عايدة دون أن يعلم إنها هي، فقد أبلغوه في المدرسة التي يعمل بها عن موت حرم كبير المفتشين، فذهب مع زملائه دون أن يطلع على النعي في الصحف، وسار بين المشيعين حتى جامع شركس. كان ذلك منذ عام لكنه مازال يذكر كل شيء وكأنه حدث بالأمس.
فقد تقدم من أنور بك معزيا، ثم جلس بين المشيعين، فقالوا: قياما، فلقد حضر نعش المتوفاه.
رأي كمال عبدالجواد نعشا جميلا، مكللا بالحرير الأبيض. حتى تهامس بعض زملائه المدرسين: إنها عروس، إنها الزوجة الثانية لكبير المفتشين، وقد ذهبت ضحية الألتهاب الرئوي.
ودع كمال عبد الجواد النعش وهو لا يدري إنه يودع ماضيه، ومن كان زوجها؟ رجل فوق الخمسين ذو زوجة وأبناء، فكيف رضوا بأن يزوجوها له، كيف رضوا لها أن تكون زوجة ثانية؟!
.....
وجمال عبد الناصر قد أحب فتاة رآها في حفل مدرسة النهضة الثانوية الذي يقام مرة واحدة كل عام، فنما الحب في قلبه، لكنه لم يستطع أن يتقدم إليها، طالبا يدها إلا بعد أن يكمل تعليمه ويعمل ويستطيع أن يقف على أرض ثابتة حتى تقبله أسرتها.
هناك أشياء كثيرة في حياة جمال عبد الناصر تكشفها علاقته بصديقه حسن النشار – الدكتور بآداب الإسكندرية – معلومات خطيرة تتعلق بحبه الذي نحكي عنه، وتتعلق بأسرته، فيقول له في خطاب أرسله إليه بتاريخ 28 مايو 1939:أظنني قلت لك بأنني عزلت إلى شارع زغلول بالضاهر، وبينما أتجول في أحد الأيام وجدت سين هانم وطبعا أظنك تقدر تعرف إيه اللى جري لي في تلك الساعة، ومن يومها وأنا أبحث عن منزلها في المنطقة حتى عثرت عليه أخيرا بعد جهد وهو يقع في شارع الخليج أمام سينما فكتوريا.وبما أنه عندي عمل بعد الظهر في يومي السبت والثلاثاء، فإنني أمتع نظري باقي أيام الأسبوع، ويشهد الله بأني لم أحاول تتبعها ولا معاكستها، حتى أنزه نفسي عن عبث الشباب الحديث، وحتى لا يقال عنها القيل والقال، وأظن أن هذا يا أستاذ ما عاقني عن السؤال عنك ولا مؤاخذة، وإن شاء الله سأقابلك قريبا، وتشوف مين فينا يغلب التاني ويجيب الحق عليه.
قد سألت عنها فعرفت أنها في مدرسة الفنون الطرازية بشبرا وأن لها أختان أكبر منها، وأنها لا يمكن زواجها إلا بعد زواجهما، وإني أعمل كل جهدي الآن حتى أنقل لمصر.
وعشمي أن يصلني منك جواب على سلاح الإشارة قريبا، وإن شاء الله بعد الامتحان بتاعك سأضايقك من الزيارات، وسلام إلى الوالدة والسيد الوالدة والإخوة طبعا، وتقبل سلام وقبلات.
....
أحب جمال عبدالناصر هذه الفتاة كما أحب جبران خليل جبران حبيبته سلمي – ابنة التاجر في بيروت، صديق والده، وكما أحب كمال عبد الجواد عايدة عبد الحميد شداد، لكن ثلاثتهم لم يتمكنوا من الوصول لحبهم، فقابل جبران هذا المطران الذي زوج سلمى لابن أخيه طمعا في مال أبيها، وعايدة الغنية تزوجت حسن سليم – ابن الأغنياء – والذي عينته أسرته الكبيرة في وزارة الخارجية بسفارة مصر بباريس. وجمال عبدالناصر لم يستطع أن يتزوج حبيبته، فعندما تدخلت والدة صديقه حسن النشار، والتي تدعى نينة وهيبة، لكي تتوسط له عند أسرة هذه الفتاة، صفعته الصدمة، فقد رفضوه زوجا لسببين: الأول إنه مازال طالبا لم يكمل تعليمه، والسبب الثاني إنها الثالثة في ترتيب أخواتها، ولابد أن تنتظر زواج أختيها.
انشغل جمال عبد الناصر بدراسته، ثم بعمله السياسية والتخطيط للثورة الذي أخذ منه الكثير. وضاع حبه مثلما ضاع حب جبران خليل جبران وحب كمال عبدالجواد، لكنه لم ينسه العمر كله.
فقد توفيت الفتاة التي أحبها جمال عبد الناصر عام 1970، وقتها كان هو موضع اهتمام العالم كله، وكانت جنازتها توافق يوم 17 مايو من هذا العام، فحضر جمال عبدالناصر الجنازة، وهو يضع على عينيه نظارة سوداء حتى لا يراه أحد، في لقطة تشبه لقطات السينما، بسيارته الصغيرة، وكان يسير بها خلف الجنازة، دون أن يشعر به أحد، فيفسد عليه جلال اللحظة، لحظة وفائه للأمس، وإخلاصه للحاضر ووداعه الأخير للمرأة التي خفق لها قلبه زمان ولم يحدث نصيب، كما سار كمال عبد الجواد في جنازة عايدة، دون أن يعلم إنها حبيته ومعبودته.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى