إحسان الله عثمان - قراءة جمالية-معرفية في قصيدة "نحن نكابر" للشاعرة السودانية أريج محمد أحمد

- القصيدة...

"نحن نكابر"...
حين يركض العمر
ويتغاضى
عن جزع الطريق
الذي يدرك
آخر المطاف
وعن بكاء
ذراع الخنجر
التي حولت
شقوق الأرض
إلى مقابر
تخاطب النسيان
بالذكرى
فيمشي مذعوراً
شارد الفكر
يقلب النظر
بين
الأسماء والتواريخ
يحسب الفارق
الذي تعرفه كل
الروزنامات
بين
معضلةالميلاد
و
حتمية الموت
وكم تحفظه
طازجاً كالفكرة في
رأس خاوية إلا من برد
يا إنسان في زمن الحرب
تدور العجلة
عكس حروف البدء
فتصبح كل الطرق
رهائن منسية
خلف البوابات
تلد الأشجار
النايات
تتمايل من وجعٍ
الريحُ تمر
و
اللحن حزين جارح
يا إنسان في زمن الحرب
ينسى الوقت
تفاصيل الأحياء
يصلبنا أرقاماً
في لائحة المذعورين
المزروعين كأشجار الشوك
هنا وهناك
وعلى خاصرة الهامش
نتحول تعباً يكتب
على جوع نصبر
على قهر نصبر
على مرض
لا يتركنا
ولا يأخذنا نصبر
على حلم مبتور
بأيدِ القتلة
نغفو
وعلى جرحٍ يركضُ
باقي العمر
و"نحن نكابر"...



***


- القراءة...


القصيدة "نحن نكابر" لأريج محمد تحمل في طياتها رؤية شاعرية تعكس صراع الإنسان مع مرور الزمن والحرب وتجمع بين التأمل الفلسفي والإحساس العميق بالمأساة الإنسانية. في القراءة النقدية وجمالية القصيدة يمكننا النظر إلى جوانب غنية بالرمزية والبنية اللغوية والمعاني الفلسفية والسياق الأدبي والنفسي الذي يعكس تجربة الشاعرة الشابة..

* الموضوع والمضمون:
القصيدة تنطلق من معضلة وجودية تتمثل في الصراع مع الزمن والموت تعبر عنه الشاعرة من خلال تصوير الزمن كعدو يتغاضى عن الألم والموت ويستمر في جريانه غير مبالٍ بمعاناة البشر. هناك تركيز على فكرة "الكبرياء" أو "المكابرة"، حيث يحاول الإنسان إخفاء ألمه ومعاناته رغم الوجع العميق.

* اللغة والأسلوب:
اللغة المستخدمة في القصيدة تحمل طابعاً رمزياً قوياً وتعكس جماليات اللغة الشعرية من خلال استخدام الشاعرة لمفردات محملة بالدلالات العميقة؛ "العمر"، "الخنجر"، "شقوق الأرض"، و"المقابر" تضيف بعداً تصويرياً قوياً وتخلق صوراً تستدعي مشاهد من الحياة والموت، من الفرح والألم مما يعزز البعد الرمزي في النص وصوراً شعورية تجمع بين البساطة والعمق قريباً من النفس تستدعي التأمل والتفكير العميق.

الشاعرة تستخدم تقنية التكرار، مثل في جملة "يا إنسان في زمن الحرب"، لتعزيز التأكيد على حالة الإنسان في ظل ظروف الحرب. هذا التكرار يخلق إيقاعاً مؤثراً يسهم في تكثيف الشعور بالمأساة والحزن.

* البنية والإيقاع:
البنية الشعرية للقصيدة غير تقليدية حيث تعتمد على تقطيع النص إلى أسطر قصيرة مما يعكس تردد الفكرة وتمزق الإحساس. هذا التقطيع يعزز من الإيقاع الداخلي للنص ويزيد من تأثيره العاطفي. الأسلوب الحر الذي تتبعه الشاعرة يسمح بتدفق الأفكار والمشاعر دون قيود مما يعطي القصيدة قوة في التعبير عن الألم الإنساني.

* الأفكار والمعاني:
القصيدة تطرح أفكاراً حول العبثية والمعاناة في ظل الحروب والصراعات وتستخدم الحرب كرمز لكل ما يحطم الحياة والأمل. الفكرة الرئيسية هي مكابرة الإنسان أمام الألم ومحاولته الاستمرار رغم كل شيء. هناك استحضار للتاريخ والذاكرة حيث تشير الشاعرة إلى "الأسماء والتواريخ"، وهو ما يعكس عبثية الحياة والموت في ظل الظروف القاسية.

* الرمزية والمعاني المتعددة:
القصيدة تزخر بالرموز التي تتعدى معانيها الظاهرية لتصل إلى مستوى من التجريد الفلسفي:
- *"الخنجر" و"شقوق الأرض"*: هذه الرموز تعبر عن العنف والقسوة التي تحفر في الجسد والروح كما تحفر الشقوق في الأرض. الخنجر استعارة لآثار الحرب التي تترك ندوبًا دائمة في الذاكرة الإنسانية.
- *"المقابر" و"الذكرى"*: تتحول الأرض ذات الشقوق إلى مقابر، مما يشير إلى ارتباط الموت بالذاكرة. الشاعرة تصور الزمن ككيان يمشي "مذعوراً شارد الفكر" يتخبط بين الموت والحياة، بين النسيان والذكرى مما يخلق شعورًا بالضياع والقلق.

* البنية اللغوية والخيال:
- * الأسلوب التفكيكي*: الشاعرة تعتمد أسلوبًا تفكيكيًا في النص حيث يتم تجزئة الأفكار والتصورات إلى مقاطع قصيرة مما يعكس طبيعة التفكير المضطرب والمشتت للإنسان في زمن الحرب. هذا التفكيك يعبر عن الهشاشة النفسية وعدم القدرة على تماسك الأفكار أمام قسوة الواقع.
- *اللعب بالزمن*: في الفقرة "يحسب الفارق الذي تعرفه كل الروزنامات بين معضلة الميلاد وحتمية الموت"، تتناول الشاعرة مفهوم الزمن بطريقة تجريدية. الزمن هنا لا يُقاس بالساعات والأيام بل بالفرق بين "الميلاد" و"الموت" وهما اللحظتان الحاسمتان اللتان تعرفهما كل "الروزنامات"، لكن ما بينهما هو العدم الذي تعيشه الشخصيات.

* البعد الفلسفي:
- *العبثية والوجودية*: القصيدة تحمل ملامح فلسفة الوجودية خاصة في تصوير عبثية الحياة وسط الحروب. الحياة هنا تبدو بلا معنى، مجرد رحلة من "معضلة الميلاد" إلى "حتمية الموت". الإنسان يحاول "المكابرة" أمام هذا العبث لكنه في النهاية يبقى رهينة للظروف الخارجية التي تفوق قدرته على الفهم والتحكم.
- *العلاقة بين الذات والعالم*: الشاعرة تطرح سؤالاً حول العلاقة بين الذات (الإنسان) والعالم الخارجي (زمن الحرب). الذات هنا تعاني من حالة اغتراب شديدة إذ تصف نفسها بأنها "مزروعة كأشجار الشوك" على هامش الحياة. هذا الاغتراب يُشعر الإنسان بعدم الانتماء وكأنه مجرد شاهد على أحداث لا يستطيع التأثير فيها.

* السياق الأدبي:
- * التأثيرات الأدبية*: يمكن رؤية تأثيرات من الأدب الحديث خاصة الشعر الحر حيث تتحرر الشاعرة من القيود الشكلية للشعر التقليدي لتعبر بحرية عن مشاعرها وأفكارها. كما أن الأسلوب التأملي والشاعرية التي تميل إلى التفكيك والتجريد تذكرنا بأعمال شعراء الوجودية والحداثة.
- *الانعكاسات النفسية*: الشاعرة تعبر عن حالة نفسية شديدة الاضطراب حيث تسود مشاعر الحزن والقلق والخوف. هذا الاضطراب يعكس تأثيرات الحروب والصراعات على الفرد ويجعل القصيدة نوعًا من التفريغ النفسي الذي يعبر عن تجربة شخصية مؤلمة، لكنها في الوقت نفسه تعكس تجربة جماعية تعيشها الشعوب في زمن الحروب.

* الخاتمة:
"نحن نكابر" قصيدة تعبر عن روح العصر..معاناة الإنسان في زمن الحرب وقراءة عميقة في طبيعة الوجود الإنساني في عالم مليء بالتناقضات والصراعات. الشاعرة تستخدم الرمزية واللغة التفكيكية لتعبر عن تلك المشاعر المعقدة وتقدم نصًا متعدد الطبقات يمكن قراءته من زوايا مختلفة، سواء من الناحية الفلسفية، النفسية أو الأدبية كما أضفت على النص بعداً جمالياً قوياً من خلال استخدام الرموز والتكرار والإيقاع الداخلي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى