سأتحدث عن ظاهرة "الأدب الخفيف" من خلال ثلاث حالات روائية تسجل حضوراً مثيراً للجدل في الساحة الأدبية العربية والمغاربية، تجارب تطرح أسئلة جديدة على النقد ونظرية الأدب وسوسيولوجيا القراءة والقارئ، وسأحاول أن أفكك سر هذا الحضور الجماهيري اللافت الذي يحتضن هذه التجارب الإبداعية، وهل إن ما نقرأه من أدب خفيف هي سحابة صيف في واقع الأدب أم تحول جذري في بنية الأدب نصاً وقارئاً؟
يمكننا مقاربة هذه الظاهرة من خلال تجارب روائية يمارس أصحابها الكتابة بثلاث لغات مختلفة هي العربية المعيارية المدرسية أي الفصحى والدارجة أو اللغة التونسية واللغة الثالثة هي اللغة الفرنسية، ويمثل الروائي أسامة المسلم من السعودية الكتابة باللغة العربية المعيارية الفصيحة وتمثل الروائية التونسية فاتن الفازع الكتابة باللغة التونسية أي الدارجة التونسية وتمثل الروائية الجزائرية سارة ريفينس حالة الكتابة باللغة الفرنسية.
أولاً علينا الاعتراف بأن هذه الظواهر الأدبية الجديدة لم تصدرها لنا الماكينة الأدبية الغربية، بل هي أسماء صنعها واقعنا الثقافي والأدبي الراهن بكل ما فيه من أعطاب وإيجابيات.
تلتقي هذه التجارب جميعها في مجموعة من القواسم المشتركة على رغم اختلاف اللغة عند كل واحد منها. وأول مشترك بينهم هو العلاقة مع القارئ المحلي، أي العربي والمغاربي في الداخل أو في المهاجر.
وعلى رغم شح القراءة الأدبية الروائية عندنا، إذ لا يتعدى سحب الرواية الناجحة جداً في العالم العربي 500 نسخة، بل يجمع الناشرون على أنهم يطبعون وبصورة عامة ما بين 150 إلى 200 نسخة من منشوراتهم في جنس الرواية، وعلى رغم هذا القحط فإننا نلاحظ جحافل القراء تلاحق روايات هذا الأدب الخفيف الجديد، قراء بمئات الآلاف بل إن بعض هؤلاء الكتاب تحولوا إلى ظواهر ثقافية وأدبية واجتماعية مثيرة. ويظهر ذلك جلياً في معارض الكتب.
فكلما كان هناك لقاء مع أحد هؤلاء الثلاثة إلا وغص المعرض بالزوار وتحول إلى ما يشبه السوق الحقيقية وعمت الفوضى وتدخل الأمن وقد تلغى جلسات التوقيع لكثرة الازدحام وخوفاً من الانفلات الأمني، وهو ما حدث مع سارة ريفينس في بعض معارض الكتاب الأوروبية أو في جلسات توقيع داخل مكتبات البيع العامة، والأمر نفسه حدث مع الروائي السعودي أسامة المسلم داخل معرض الكتاب والنشر الأخير في الرباط بالمغرب، والصورة نفسها نشاهدها في فضاءات تونس أو في المهجر كلما نظمت جلسة بيع بالتوقيع لفاتن الفازع.
الأمر الثاني أن هؤلاء الثلاثة خرجوا كأسماء روائية من رحم وسائل التواصل الاجتماعي، أي هم الجيل الأدبي المتحرر من الترويج التقليدي والمسطح الذي تقوم به عادة وسائل الإعلام الكلاسيكية المتمثلة في التلفزيون والراديو والصحف ووكالات الأنباء. قد يستفيدون من ذلك لكنها ليست رهانهم الأساس والصلب في الرواج والترويج.
لقد بدأوا تسويق نصوصهم وإشهارها من خلال حساباتهم الخاصة على وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة والكثيرة أو على بعض المنصات العالمية، كما حصل مع روايات سارة ريفينس الجزائرية.
والأمر الثالث أن قراءهم أيضاً من جيل الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، جيل يعيش على إيقاع ثقافة منصات التواصل وبحماسة كبير يتطور جيل القراء كما جيل الكتاب في علاقة بنيوية مع وسائل التواصل الافتراضية، كتابة وتوزيعاً وقراءة. لقد كرس هذا الأدب الخفيف تقليد بيع الكتب من طريق الإنترنت في تونس والخليج العربي بصورة واضحة.
وتتميز العلاقة ما بين هؤلاء الكتاب وقرائهم بظاهرة التواصل اليومي الافتراضي بينهم، فاللقاءات المباشرة في معارض الكتب أو في جلسات البيع بالتوقيع ما هي إلا تتويج لتواصل يومي افتراضي يكاد لا ينقطع، وعلى العكس من الكاتب الكلاسيكي فكاتب الأدب الخفيف يستمع ويتفاعل مع قارئه من دون توقف ودون عقدة أبوية أو أخلاقية.
ويبدو أيضاً أن هذا الجيل من الكتاب الجدد تخلص إلى حد كبير من عقدة النخبوية، وعوضها بالنجومية القائمة على التواصل المستمر مع القارئ، وهو تواصل يجعله يراجع ويجدد في موضوعات الكتابة وفي طرق الكتابة.
وكأنما حضور القارئ من خلال هذا التواصل والتفاعل هو جزء أساس في العملية الإبداعية، وأعتقد أن هذا الجيل متحرر من عقدة الوصاية على القارئ بل هناك مساحة كبيرة من الحرية، حرية التواصل وحرية البوح والاعتراف ما بين الطرفين وبلغة واضحة، وبهذه العلاقة بين القارئ والكاتب يتم إخراج الأدب من فضاء التقديس.
القارئ امرأة
في مثل هذه الكتابة الجديدة تحضر المرأة قارئة بصورة كبيرة، فغالبية القراء وباللغات الثلاث هم من النساء وتراوح أعمارهن ما بين 17 و40 سنة، فقد تأنثت القراءة إلى حد كبير وهن يمثلن جيل التكنولوجيا الحديثة.
استطاع هذا الأدب الجديد من خلال حجم الإقبال الكبير عليه أن يحجم وإلى حد ما من ظاهرة انتشار قراءة الكتاب الديني الأيديولوجي، الذي اكتسح الشارع والجامعة ومعارض الكتب في العالم العربي حتى أحداث الـ11 من سبتمبر 2001 تقريباً.
ونافست هذه الروايات الجديدة أيضاً انتشار كتب الدعاة الدينيين النجوم، كما أنها تمكنت من تحرير القارئ العربي وإلى حد كبير من سلطة قراءة الدروشة والتهريج التي جاءت بها كتب ما يسمى التنمية البشرية التي عرفت حمى انتشار كبيرة في العالم العربي وبخاصة بين الفتيات المراهقات.
لا تتردد هذه التجارب الروائية الجديدة في طرح موضوعات مثيرة وجريئة تتصل أساساً بالحياة القلقة والمضطربة التي يعيشها هذا الجيل الجديد، وتعرض الكتابة كل صور الممنوعات كالجنس وزنا المحارم والمخدرات بكل أنواعها والتحول الجنسي واللواط والسحاق والحروب والعنف والتطرف الديني وقتل النساء والتحرش بهن والاغتيالات والأمراض السيكولوجية.
ويستعملون في مقاربة هذه الموضوعات أساليب أدبية سردية تجمع ما بين الخوارق الشعبية كالسحر والقوى الخفية والتكنولوجيا المتوحشة والخيال العلمي، ويستثمرون أيضاً في أسلوب الرواية البوليسية.
حيرة
من أين جاء هؤلاء القراء الذين يتابعون كتابات أسامة المسلم وسارة ريفينس وفاتن الفازع وبهذه الأعداد الهائلة في مجتمع لا يقرأ أصلاً؟ أم أن أدبنا الروائي الرسمي الذي يتوج بجوائز أميرية ومؤسساتية رسمية أصبح متشابهاً ومكرراً وغير مرغوب فيه؟ أم أن وما يروج له رسمياً على أنه هو الأدب الصحيح الذي يجب أن يُقرأ قد تجاوزه الزمن وأصيب بالشيخوخة، وأصبح يبتعد أكثر فأكثر من ذوق جيل جديد له هواجسه وأحلامه؟
أم أن اللغة التي يكتب بها هذا الأدب الجديد على رغم مما يلاحظ عليها من ضعف مقارنة مع الأدب الرسمي قريبة من اللغة التي يعيش بها الإنسان المغاربي والعربي؟ تلك أسئلة تحمل في رحمها أجوبة لظاهرة أدبية تفرض نفسها علينا، تتكرس يوماً بعد يوم ونصاً بعد نص وتجربة بعد أخرى في واقعنا الأدبي والثقافي.
يمكننا مقاربة هذه الظاهرة من خلال تجارب روائية يمارس أصحابها الكتابة بثلاث لغات مختلفة هي العربية المعيارية المدرسية أي الفصحى والدارجة أو اللغة التونسية واللغة الثالثة هي اللغة الفرنسية، ويمثل الروائي أسامة المسلم من السعودية الكتابة باللغة العربية المعيارية الفصيحة وتمثل الروائية التونسية فاتن الفازع الكتابة باللغة التونسية أي الدارجة التونسية وتمثل الروائية الجزائرية سارة ريفينس حالة الكتابة باللغة الفرنسية.
أولاً علينا الاعتراف بأن هذه الظواهر الأدبية الجديدة لم تصدرها لنا الماكينة الأدبية الغربية، بل هي أسماء صنعها واقعنا الثقافي والأدبي الراهن بكل ما فيه من أعطاب وإيجابيات.
تلتقي هذه التجارب جميعها في مجموعة من القواسم المشتركة على رغم اختلاف اللغة عند كل واحد منها. وأول مشترك بينهم هو العلاقة مع القارئ المحلي، أي العربي والمغاربي في الداخل أو في المهاجر.
وعلى رغم شح القراءة الأدبية الروائية عندنا، إذ لا يتعدى سحب الرواية الناجحة جداً في العالم العربي 500 نسخة، بل يجمع الناشرون على أنهم يطبعون وبصورة عامة ما بين 150 إلى 200 نسخة من منشوراتهم في جنس الرواية، وعلى رغم هذا القحط فإننا نلاحظ جحافل القراء تلاحق روايات هذا الأدب الخفيف الجديد، قراء بمئات الآلاف بل إن بعض هؤلاء الكتاب تحولوا إلى ظواهر ثقافية وأدبية واجتماعية مثيرة. ويظهر ذلك جلياً في معارض الكتب.
فكلما كان هناك لقاء مع أحد هؤلاء الثلاثة إلا وغص المعرض بالزوار وتحول إلى ما يشبه السوق الحقيقية وعمت الفوضى وتدخل الأمن وقد تلغى جلسات التوقيع لكثرة الازدحام وخوفاً من الانفلات الأمني، وهو ما حدث مع سارة ريفينس في بعض معارض الكتاب الأوروبية أو في جلسات توقيع داخل مكتبات البيع العامة، والأمر نفسه حدث مع الروائي السعودي أسامة المسلم داخل معرض الكتاب والنشر الأخير في الرباط بالمغرب، والصورة نفسها نشاهدها في فضاءات تونس أو في المهجر كلما نظمت جلسة بيع بالتوقيع لفاتن الفازع.
الأمر الثاني أن هؤلاء الثلاثة خرجوا كأسماء روائية من رحم وسائل التواصل الاجتماعي، أي هم الجيل الأدبي المتحرر من الترويج التقليدي والمسطح الذي تقوم به عادة وسائل الإعلام الكلاسيكية المتمثلة في التلفزيون والراديو والصحف ووكالات الأنباء. قد يستفيدون من ذلك لكنها ليست رهانهم الأساس والصلب في الرواج والترويج.
لقد بدأوا تسويق نصوصهم وإشهارها من خلال حساباتهم الخاصة على وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة والكثيرة أو على بعض المنصات العالمية، كما حصل مع روايات سارة ريفينس الجزائرية.
والأمر الثالث أن قراءهم أيضاً من جيل الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، جيل يعيش على إيقاع ثقافة منصات التواصل وبحماسة كبير يتطور جيل القراء كما جيل الكتاب في علاقة بنيوية مع وسائل التواصل الافتراضية، كتابة وتوزيعاً وقراءة. لقد كرس هذا الأدب الخفيف تقليد بيع الكتب من طريق الإنترنت في تونس والخليج العربي بصورة واضحة.
وتتميز العلاقة ما بين هؤلاء الكتاب وقرائهم بظاهرة التواصل اليومي الافتراضي بينهم، فاللقاءات المباشرة في معارض الكتب أو في جلسات البيع بالتوقيع ما هي إلا تتويج لتواصل يومي افتراضي يكاد لا ينقطع، وعلى العكس من الكاتب الكلاسيكي فكاتب الأدب الخفيف يستمع ويتفاعل مع قارئه من دون توقف ودون عقدة أبوية أو أخلاقية.
ويبدو أيضاً أن هذا الجيل من الكتاب الجدد تخلص إلى حد كبير من عقدة النخبوية، وعوضها بالنجومية القائمة على التواصل المستمر مع القارئ، وهو تواصل يجعله يراجع ويجدد في موضوعات الكتابة وفي طرق الكتابة.
وكأنما حضور القارئ من خلال هذا التواصل والتفاعل هو جزء أساس في العملية الإبداعية، وأعتقد أن هذا الجيل متحرر من عقدة الوصاية على القارئ بل هناك مساحة كبيرة من الحرية، حرية التواصل وحرية البوح والاعتراف ما بين الطرفين وبلغة واضحة، وبهذه العلاقة بين القارئ والكاتب يتم إخراج الأدب من فضاء التقديس.
القارئ امرأة
في مثل هذه الكتابة الجديدة تحضر المرأة قارئة بصورة كبيرة، فغالبية القراء وباللغات الثلاث هم من النساء وتراوح أعمارهن ما بين 17 و40 سنة، فقد تأنثت القراءة إلى حد كبير وهن يمثلن جيل التكنولوجيا الحديثة.
استطاع هذا الأدب الجديد من خلال حجم الإقبال الكبير عليه أن يحجم وإلى حد ما من ظاهرة انتشار قراءة الكتاب الديني الأيديولوجي، الذي اكتسح الشارع والجامعة ومعارض الكتب في العالم العربي حتى أحداث الـ11 من سبتمبر 2001 تقريباً.
ونافست هذه الروايات الجديدة أيضاً انتشار كتب الدعاة الدينيين النجوم، كما أنها تمكنت من تحرير القارئ العربي وإلى حد كبير من سلطة قراءة الدروشة والتهريج التي جاءت بها كتب ما يسمى التنمية البشرية التي عرفت حمى انتشار كبيرة في العالم العربي وبخاصة بين الفتيات المراهقات.
لا تتردد هذه التجارب الروائية الجديدة في طرح موضوعات مثيرة وجريئة تتصل أساساً بالحياة القلقة والمضطربة التي يعيشها هذا الجيل الجديد، وتعرض الكتابة كل صور الممنوعات كالجنس وزنا المحارم والمخدرات بكل أنواعها والتحول الجنسي واللواط والسحاق والحروب والعنف والتطرف الديني وقتل النساء والتحرش بهن والاغتيالات والأمراض السيكولوجية.
ويستعملون في مقاربة هذه الموضوعات أساليب أدبية سردية تجمع ما بين الخوارق الشعبية كالسحر والقوى الخفية والتكنولوجيا المتوحشة والخيال العلمي، ويستثمرون أيضاً في أسلوب الرواية البوليسية.
حيرة
من أين جاء هؤلاء القراء الذين يتابعون كتابات أسامة المسلم وسارة ريفينس وفاتن الفازع وبهذه الأعداد الهائلة في مجتمع لا يقرأ أصلاً؟ أم أن أدبنا الروائي الرسمي الذي يتوج بجوائز أميرية ومؤسساتية رسمية أصبح متشابهاً ومكرراً وغير مرغوب فيه؟ أم أن وما يروج له رسمياً على أنه هو الأدب الصحيح الذي يجب أن يُقرأ قد تجاوزه الزمن وأصيب بالشيخوخة، وأصبح يبتعد أكثر فأكثر من ذوق جيل جديد له هواجسه وأحلامه؟
أم أن اللغة التي يكتب بها هذا الأدب الجديد على رغم مما يلاحظ عليها من ضعف مقارنة مع الأدب الرسمي قريبة من اللغة التي يعيش بها الإنسان المغاربي والعربي؟ تلك أسئلة تحمل في رحمها أجوبة لظاهرة أدبية تفرض نفسها علينا، تتكرس يوماً بعد يوم ونصاً بعد نص وتجربة بعد أخرى في واقعنا الأدبي والثقافي.