د. أحمد الحطاب - مفهوم "أهلَ الذكر" في عهد الرسول (ص) وفي عصرنا الحاضر

عبارة "أهل الذكر" وردت في آيتين من القرآن الكريم، وهما :

1."وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" (النحل، 43).

2."وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" (الأنبياء، 7).

ما تعوَّدنا على سماعِه من علماء وفقهاء الدين أو ما تعوَّدنا على قراءته في كُتُبِهم، هو أن "أهلَ الذِّكر" هم حُفَّاظ القرآن الكريم، المتخصِّصون في مختلف علوم الدين من فقهٍ وشريعةٍ وسيرةٍ نبويةٍ وتفسير للقرآن الكريم والأحاديث النبوية وتوضيح المذاهب…

السؤال الذي، من المُفترض، أن يطرحَه المُتدبِّرُ في آيات القرآن الكريم على نفسِه، هو : هل المقصود من عبارة "أهل الذكر" هم حصريا، المتخصَّصون في الأمورَ التي لها علاقة بالدين، أم المقصود من هذه العبارة هو المعنى الأوسع الذي يشمل التَّخصُّصات الدينيةَ والتخصُّصات العلمية الدنيوية، أي كل ما أنتجه العقلُ البشري من أفكار ومعارف، ماضِياً، حاضِراً وما سيُنتِحه هذا العقلُ مستقبلا؟

أنا شخصيا أميل إلى الاحتمال الثاني، أي المعنى الأوسع الذي يشمل، ليس فقط، التَّخصُّصات الدينية، ولكن كذلك، التَّخصُّصات العلمية الدنيوية. والأسباب التي جعلتني أميل إلى الاحتمال الثاني كثيرة، أذكر منها، على سبيل المثال ما يلي :

أولا، إذا كانت العلوم الدنيوية إنتاجاً فكريا بشرياً، فالعلوم الدينية لم تُمطِرها السماء. إنها، هي الأخرى، إنتاجٌ أفرزته عقولٌ بشريةٌ. علماً أن هناك فرقاً واضحا بين العلوم الدنيوية والعلوم الدينية. العلوم الدنيوية تنطلق من الواقع الذي تقلِّبه من جميع الجوانب وتُخضِعُه للملاحظة والافتراض والتجريب والاستنتاج والبرهنة… بينما العلوم الدينية تنطلق من نصوصٍ قطعِية الثبوت، وهي القرآن الكريم، ومن نصوص ظنية الثبوت، وهي الأحاديث النبوية. وكيفما كان الحال، سواءً تعلق الأمر بتفسير القرآن أو بتفسير الأحاديث النبوية، فكِلاهما إنتاج فكري بشري.

ثانيا، تفسير القرآن والأحاديث النبوية لا يأتي من فراغ. إنه ناتِجٌ عن خلفياتٍ فكرية، معرفية وثقافية مرتبِطة بزمان ومكان معيَّنين. والخلفيات الفكرية، المعرفية والثقافية للمفسِّرين الذين عايشوا الرسولَ (ص)، وبالأخص، أولئك الذين ظهروا بعد وفاته بعشرات السنين، لا مجالَ لمُقارنتها مع خلفيات المفسِّرين المعاصرين. كل جيلٍ من المفسرين له زمان ومكان يؤثِّران فيه وعليه فكريا، معرفياً، علمياً وثقافياً. ولهذا، فشيءٌ طبيعيٌّ أن تختلفَ تفاسيرُ العهد القديم عن تفاسير العهد الجديد. ثم يجب أن لا ننسى أن نشرَ رسالة الإسلام كان في بدايتِه، وبالتالي، كل مظاهر الحياة كان يطغى عليها الطابع الديني. فمن الطبيعي أن يكون "أهل الذكر" هم الناس الذين لهم درايةُ بالرسالات السماوية والكتب التي نزلت معها.

ثالثا، ما وصل إليه العلم الدنيوي الحديث من تطوُّر وتقدُّم، سواءً تعلَّق الأمرُ بالعلوم الدقيقة والطبيعية أو بالعلوم الإنسانية، شيءٌ مُبهِرٌ وهائلٌ لم يسبق للبشرية أن عرفته منذ آلاف السنين. وهذا التَّطوُّر والتَّقدُّم صاحبهما انتشارٌ واسع النِّطاق لوسائل الاتصال والتواصل. وهو الشيء الذي سهَّل وساهم إلى حدٍّ كبيرٍ في انتشار المعرفة بجميع مشاربِها وفي فتح الأبواب عريضةً لمن أراد أن يستفيد منها فكرياً، ثقافياً وعملياً. ولهذا، فإن دائرةَ معارف الإنسان المعاصر الواعي أو المثقف لا مجالَ لمقارنتِها مع دائرة معرفة المفسرين القدماء.

رابعا، كلما تطوَّرت وتقدَّمت العلوم الدنيوية، بجميع اختصاصاتها، كلما تطوَّر العقل البشري، تفكيراً وذكاءً، وأصبح قادٍراً على الغوص في الواقع وفي الظواهر الاجتماعية بجميع أنواعها، وكذلك، في الظواهر الطبيعية والبيئية وإدراك كيفية اشتغالها، وبالتالي، تطويعُها لصالح البشر. وبالطبع، كلما تطوَّرت العلوم الدنيوية، كلما تطوَّر الفكرُ النقدي الذي هو أساسُ تقدُّم العلوم الدنيوية.

خامسا، رجوعاً إلى الآيتين السالفتي الذكر أعلاه، اللهُ، سبحانه وتعالى، يقول : "فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ". وبالطبع، كلامُ الله، هنا، موجَّه للمشركين أو الكُفار الذين يكذِّبون برسالة الرسول (ص). الله، سبحانه وتعالى، يطلب منهم أن يسألوا "أَهْلَ الذِّكْرِ"، أي، كما سبق الذكرُ، الناس الذين لهم درايةٌ بالرسالات الإلهية وبالكُتُب التي نزلت معها. في عهد الرسول (ص)، هذا شيءٌ طبيعي ومفروغٌ منه أن يقولَ، سبحانه وتعالى، للمشركون أو للكُفار اسألوا الناسَ الذين لهم درايةٌ، من جهة، بالرسالات الدينية التي أنزلها، سبحانه وتعالى، على الرُّسل، ومن جهة أخرى، مَن لهم كذلك درايةٌ بالكتب التي صاحَبت هذه الرسالات.

سادسا، الله، سبحانه وتعالى، يقول، في نفس الآية "إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ". والذين لَا يعْلَمُونَ موجودون في كل زمانٍ ومكانٍ، أي في جميع العصور، وخصوصا، في عصرنا الحاضر حيث التَّقدُّم العلمي والتكنولوجي، إن سهَّل الحياة وقرَّب المسافات ولطَّفَ ما هو شاق…، فإنه، في نفس الوقت، خلق مشاكلَ يوميةً كثيرةً لا يمكن حلُّها إلا من طرف المتخصِّصين.

سابعا، ما يهمُّني، أنا شخصيا، في هذه الآية، هو مفهوم "أَهْلَ الذِّكْرِ". فانطلاقا من كون القرآن صالِحٌ لكل زمان ومكان وبغض النظر عن السياق الذي نزلت فيه هاتان الآياتان المُشار إليهما أعلاه واعتمادا على ما قلتُه (من أولا إلى سادسا)، فهل المريض، الذي يعاني من مرضٍ ما، سيتوجَّه لطبيبٍ مختص أم لعالمٍ أو فقيهٍ متخصِّصٍ في علوم الدين؟

ثامنا، إذا توجَّه لعالمٍ أو فقيه متخصِّصٍ في علوم الدين، فسيقول له، دون الأخذ بالأسباب، أن الحبَّة السوداء la nigelle شفاءٌ لكل داءٍ، مع العِلم أنه لا يملك أي دليل قاطعٍ ولا يملك أيَّة نتائج مختبرية تُبرهن بأن الحبَّةَ السوداء، فعلا، شفاءٌ لكل داء. لماذا؟ لأن العالِمَ أو الفقيهَ يردِّدُ، بدون دليلٍ، ما قاله الأولون أو ما تناقله الأسلاف منذ عدة قرون. بينما الطبيب العام أو المتخصِّص، أولا وقبل كل شيءٍ، يأخذ بالأسباب، وبناءً على هذه الأسباب وعلى تجربتِه العلمية وتجربته الميدانية، ينصح المريضَ بهذا الدواء أو ذاك.

تاسعا وأخيرا، إدراك مفهوم "أَهْلَ الذِّكْرِ" في عهد الرسول ليس هو نفس الإدراك بالنسبة لعصرنا الحاضر. حسب رأيي الشخصي، مفهوم "أَهْلَ الذِّكْرِ" يشمل ليس فقط العلوم الدينية التي هي من إنتاج بشري وكل ما أنتجه الفكر البشري من معارف على امتداد العصور.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى