(13)
جمعتني أنا وصديقتي الكثير من الذكريات التي لا تُنسى والمواقف المضحكة التي ما إن نتذكرها معًا أو نحكيها لأحد إلى الآن تأخذنا نوبة من الضحك الهستيري.
من أبرز هذه الذكريات ما يتعلق بمحاضرات مقرر (علم الأصوات) في الفرقة الثالثة . فلا أظن أنني وصديقتي استفدنا أو حتى سمعنا معلومة واحدة طوال العام ؛ لسبب واحد ، هو أننا كنا بمجرد دخولنا المدرج وجلوسنا على المقعد يأخذنا نوم عميق ، فلا نستيقظ إلا على أصوات حركة الطلاب ووقع أقدامهم على الأرض الخشبية عند مغادرتهم المدرج عقب انتهاء المحاضرة . كنا ننام على الرغم من أن هذه المحاضرة هى المحاضرة الأولى في جدول اليوم ، وعلى الرغم من الازدحام نتيجة الأعداد الرهيبة للطلاب ، وعلى الرغم من التزامنا وحرصنا على المحاضرات ، واحترامنا المكان ومراعاة السلوكات الطيبة .
لم يكن سبب النوم الذي كان يهبط علينا أن المدرج كان في البدروم حيث الأجواء الهادئة ، أو طبيعة المقرر المملة والمعقدة ، حيث كان يُعنى بتشريح الجهاز التنفسى بالرسم التوضيحي لمعرفة مخارج الأصوات ، والتي كنت أرى أنه يناسب كلية الطب أكثر ، ولم يكن السبب –أيضًا- أداء الدكتور وصوته الحنون الهاديء المتزن ، الذي كان يجلب الاسترخاء الممهد للنوم ، لم يكن كل هذا فحسب ، لكن كان بسبب طبق الفول الذي كنت أنا وصديقتي نحرص على التهامه قبل الذهاب إلى الكلية في هذا اليوم من كل أسبوع . كل المحاضرات في كليتنا كانت تبدأ من الساعة الثامنة ، فكنا - وكل البنات - ننصرف في وقت واحد ، وفي عجلة من أمرنا ، لذلك كان فطورنا خفيفًا سريعًا ، ثم نهرول إلى الجامعة . لكن في هذا اليوم تحديدًا كانت المحاضرة الأولى لي ولصديقتي متأخرة عن أقراننا ساعة ، فكنا نحرص على عمل وجبة فطور محترمة ، على رأسها طبقٌ شهيٌ من الفول بالطماطم والبصل ، وأنا أعشق الفول . نأكله بتمعن وتأنٍ وتمتعٍ ، ثم نشرب الشاى على مهل كأننا في إجازة ، ثم نمضي إلى الكلية في كامل النشاط والحيوية والانطلاق والروقان .
ولست أدري أين كان يختفي هذا النشاط ؟! وأين كانت تذهب هذه الحيوية فور دخول الدكتور وشروعه في المحاضرة ؟! فقد كنا نتوسد ذراعينا بوضعهما على الدرج ، و يبدو أن كوب الشاي لم يكن يجدي شيئًا أو يصمد أمام طبق الفول بالبصل.
ومن عجب أن النوم كان يهبط عليّ أنا وصديقتي في نفس اللحظة ، ونفيق منه في نفس اللحظة ، لتنظر الواحدة منا إلى الأخرى ، فترى احمرار العينين والوجه من أثر الاستغراق في النوم . ولم نكن نعلم سبب الإحساس بالضيق الذي كان ينتابنا وقت الإفاقة، هل هو لوم النفس وتأنيبها لارتكاب مثل هذا السلوك الغريب علينا ، والذي تضيع بسببه المحاضرة ؟ أم بسبب إزعاج الطلاب بأصوات حركتهم أثناء انصرافهم ، مما يجعلنا نستيقظ في عز النوم ولم نأخذ كفايتنا منه؟
بعد خروجنا من هذا المدرج المسكون بأشباح النوم ونحن نترنح من بقايا سطوته ، نرتقي السلم لندخل محاضرة الصرف والعروض للأستاذ القدير (رحمه الله) المعروف بخفة ظله وأجواء المرح التي يشرح فيها ، لتدب اليقظة والنشاط في الذهن والبدن ، ثم تبقى معنا حالة اليقظة والانتباه إلى آخر اليوم .
حتى إذا ما أتى يوم هذه المحاضرة من الأسبوع التالي ، تكرر نفس الموقف بتفاصيله . كل مرة كنا نلوم أنفسنا و نأخذ عهدًا غليظًا عليها ألا ننام في المحاضرة المقبلة . فكنا – لا محالة - ننام وفي نفس اللحظة .
حاولنا كثيرًا إيجاد حل جذري وصارم يضمن عدم تكرار الأمر، لكن دون جدوى. أكثر من مرة نذهب إلى المحاضرة بتحدٍ معلن وصريح للنوم ، عاقدين العزم على التمسك باليقظة باختيار المقاعد الأمامية مثلًا . ولو كان بأيدينا لقعدنا في الصفوف الأولى في مواجهة الأستاذ عسى أن يمنعنا الحياء أو الخوف من النوم ، لكن كان يتعذر هذا مع تزاحم الطلاب عند دخول المدرج ، فلا يمكننا إلا تقريب المكان بقدر الاستطاعة ، ولا فائدة فقد كنا ننام أيضًا . مرة أخرى ندخل بنفس العزم والإصرار بنية التركيز تركيزًا شديدًا مع الدكتور محاولين الفرار من النوم بالاندماج مع ما يقول ، كنا نبحلق بالنظر ونرفع الجفن ونشده لنمنعه من الإطباق. لكن ونحن على هذه الوضعية من محاولات التركيز واليقظة المفتعلة ، كان فجأة وفي ظروف غامضة يختفي كل شيء، يختفي الدكتور بالطلاب بالمدرج بكل ما حولنا ، ولا نكتشف أننا وقعنا - كالمعتاد - في براثن النوم إلا مع وقع أقدام الطلاب على الأرض عند انتهاء المحاضرة .
كنا كل أسبوع نشرع في حل جديد أو مخرج من هذه الحالة ، لكننا في الحقيقة ما اقتربت محاولاتنا مرة واحدة من الامتناع أو التنازل عن التهام طبق الفول بالبصل.
***
(14)
رغم آواصر المحبة والتقارب والتوافق التي جمعتني بصديقتي و شريكتنا الدمياطية وغيرهما ، استطاعت كل منا الاحتفاظ بكيانها وسمات شخصيتها وتفردها . فلم تفرض إحدانا على الأخرى أي طابع يخصها ، لا في الميول ولا العادات ولا الاهتمامات ، ولا في طعام أو شراب . ولم تحاول استمالة الأخرى إلى ما يتفق معها . و في رأيي أنه ليس ثمة تناقض بين الاثنين ، بل إن هذا هو عين التوافق والانسجام. فقد احتفظت كل منا بعالمها الخاص بما فيه من أحلام وآمال وتطلعات. ولم تنشغل إحدانا بانتزاع الأخرى من عالمها وإدماجها في عالمها هي .
فلم تشاركاني – مثلًا - حب القراءة ، وشغف ابتياع الكتب سواء من معارض الكلية أو من أمام سور الجامعة ، حيث كان من الممكن أن أفني مصروفي في سبيل اقتنائها . كنت دائمًا أثناء خروجنا من باب الجامعة أمر على بائع الكتب الذي يفترش الرصيف ، أبدأ بالطواف بعيني سريعًا على الكتب المرصوصة أثناء المضي، استرق النظر إلى العناوين والأغلفة ، ثم أُبطئ المسير لتعلق عيني بأحدها ، ثم أقرر الشراء . كان هذا المشهد يتكرر كثيرًا ، حتى أنهما كانتا تمسكان بي لتمنعاني عن مجرد مطالعة العناوين ؛ لأنهما تعرفان النتيجة ، وهي تدمير مصروفي . وكنت أعذرهما في منعي من هذا التهور ، حتى أنني اقترحت – مرة - أن نغير الطريق تجنبًا لوقوعي في حبائل الشراء.
ذات يوم دعتني صديقتي إلى مشاهدة حلقة من مسلسل (ليالي الحلمية) ، وكانت قد شاهدت بعض حلقاته في إحدى سفرياتها إلى السويس وأعجبها ، وأرادت استكمال متابعته في المدينة ، حيث كان العرض الأول له ، وحيث كان في حجرة (الدادة) تلفاز مسموح لنا بمشاهدته . نزلتُ على رغبتها وذهبتُ معها ، لأجد الحجرة ممتلئة بالبنات ، زحام وجلوس عشوائي ، لم استرح لمنظر التجمع ولا هيئة البنات في الجلوس ، ثم اتخذت أنا وصديقتي مكانًا وبدأنا المتابعة . فلم تعجبني الحلقة ولا المسلسل ، صحيح أنا متابعة جيدة لأعمال الكاتب أسامة أنور عكاشة الدرامية، لكن حين يكتب أعمالًا ذات طابع عاطفي أو إنساني أو فلسفي ؛ مثل مسلسل (الحب وأشياء أخرى) و (سفر الأحلام ) و( رحلة السيد أبي العلا البشري) و(ضمير أبلة حكمت) وغيرها على نفس الشاكلة . لكن نوعية المسلسلات التي تروي حواديت وقصصًا متعددة ومتداخلة ، ليس فيها من غرض سوى سرد الحدوتة فلا تجذبني . لا أميل إلى الحكايات الشعبية ، ولا قصص الحارات والفهلوية ، ولا العوالم ، ولا الوجوه التي تشبه وجوه السوابق و البلطجية. فلم يجذبني (سليم البدري) وقصصه مع (نازك السلحدار )، ولا لعبة القط والفار بينه وبين العمدة (سليمان غانم ) ، ولا سوقية ( سماسم العالمة ) وصبيتها (حمدية) .
لم أسخف -وقتها - من ذوق صديقتي في نوعية المسلسلات ، ولم أظهر أى استياء من ذلك ، لكني اكتفيت بعدم معاودة المتابعة مرة أخرى ، وظلت هي تذهب وحدها كل ليلة . وتمر الأيام والسنون ليكون هذا المسلسل أيقونة الدراما المصرية ، يتابعه بشغف جمهور عريض . عرفت وقتها أن ذوق صديقتي يوافق ذوق الكثير من المصريين من محبي هذه النوعية الملحمية من الدراما المصرية . أما أنا فعلى الرغم من كل هذا ، وعلى الرغم من متابعتي الأجزاء الثلاثة من المسلسل بعد مرور سنوات لم أستطع الانجذاب إليه أو الإعجاب به ، أو معاودة مشاهدة أى مشهد منه . وكذلك مسلسل ( أرابيسك) ، هذا على الرغم من تصريح الممثل (صلاح السعدني ) أن هذين المسلسلين هما أهم أعماله وأحبها إليه .
أنا تجذبني نوعية من المسلسلات لا أجد كثيرين يشاركونني الانجذاب إليها ، وأحيانًا أشعر أنه لا يشاهدها أحد غيري؛ ليس لسبب سوى أنها ليست على شاكلة مسلسل (ليالي الحلمية). وكما كانت صديقتي تذهب وحدها لتشاهد مسلسلها، كنت أذهب أنا وحدي إلى حجرة (الدادة) لأشاهد مسلسل من النوعية التي تجذبني ، لم أرغم صديقتي على مصاحبتي في المشاهدة كما لم ترغمني هي على مصاحبتها ومشاركتها مشاهدة مسلسلها، ولم تغير هى ذوقها ولو على سبيل مصاحبتي كما كانت تحب ، كانت تفضل البقاء في حجرتنا لقضاء أعمال أخرى ، فلم تشاركني المشاهدة ولا أحد من البنات ، كانت حجرة (الدادة) أثناء عرض هذا المسلسل خالية إلا مني ، و كان هذا يروق لي ؛ لأني لا أحب الضجيج ولا قطع استرسال المتابعة والتأمل . أتذكر هذا المسلسل و اسمه ( الموج والصخر) . بطلته صاحبة وجه جميل وحضور رقيق يملأ شاشة التلفاز نورًا حين تطل به . الممثلة (نسرين) من الوجوه التي تجعلنا نشمئز و ننفر من كل الوجوه الممسوخة التي نشاهدها الآن على التلفاز . ومن المصادفات اللطيفة أن البطلة كانت طالبة مقيمة في بيت للطالبات ، مما ألقى بظلال من التلاقي والتشابه في الأجواء المحيطة بي وقتها. يتناول هذا المسلسل قصة واحدة ، وموضوع واحد ومحدد ، يتغلغل داخل النفس البشرية ، يستكشف دقائق الخير والشر ، الحب والحقد ، النفعية وحب الذات بتدمير الآخر . يستعرض الحقد الدفين داخل شخصية البطل ، وكيف يتسلل إلى أهل البراءة والحب والخير ليقنعهم أنه منهم ، ثم ينكشف أنه يستهدف تدميرهم من حيث لا يعلمون لمجرد الشعور بالانتصار . في هذا السرد والطرح النفسي لقصص أناس تملؤهم الغيرة والحقد يعيشون معنا وحولنا وبيننا ، كنت أستوعب بتأمل حركة الشخصيات والأحداث ، في حكاية ليس الغرض منها الحكي ، بل هى تجربة إنسانية ؛ خلاصتها إن هناك من أهل الشر والحقد من يكون قويًا بشره ، يهزم ويهدم من يشاء من أهل الخير بمهارة وتمكن في غفلة من الآخر المنخدع فيه ، والذي كان يجب عليه الحرص والتنبه لهذه النوعية الثعبانية ، فيصمد أمامها صمود الصخور أمام الأمواج ، تهزمها وتكسرها مهما كانت قوتها . وما أكثرهم في حياتنا .
لم تفرض إحدانا على الأخرى ذوقها ، ولم تحاول استمالتها ولا مناقشتها ، لكن كنت أنا وصديقتي نذهب –دون شريكتنا الدمياطية التي كانت لا تميل ميلنا، ودون سائر البنات أيضًا- لنتابع – معًا- مسلسلًا كوميديًا ، نقضي وقتًا من الضحك والترويح ثم نعود.
كذلك لم تشاركاني الاستماع إلى الراديو الذي بدأ ارتباطي به في هذه المرحلة ، فقد كان عهدهما به لا يتعدى الاستماع إلى صوت الشيخ محمد رفعت وهو يرفع آذان المغرب في شهر رمضان المبارك، ونحن نفترش الأرض حول مائدة الإفطار، ثم نتابع مسلسل إذاعة الشرق الأوسط . أتذكر أننا استمعنا في شهر رمضان خلال سنتين متتاليتين إلى مسلسل ( أفواه وأرانب ) و مسلسل(الصبر في الملاحات) قبل تحويلهما إلي أفلام سينمائية .
أما أنا فقد كان الراديو صاحبي في الليل حيث الهدوء والسكون والتأمل . كما قال الشاعر جبران خليل جبران : (سكن الليلُ ، وفي ثوب السكون تختبي الأحلام ) و اكتشفت مع مرور السنين أنني كائن ليلي .
كان لي في أغلب الليالي وقت مخصص أسهره وحدي مع الراديو والكتاب الذي أقرأه على مكتبي في ضوء مصباح بجانبي ، وبصوت خفيض لا يزعج شريكاتيّ أثناء نومهما. أتابع ما يعرض من مواد إذاعية . نقلني الراديو إلى عالم آخر من السحر والجمال والأنس ، ظل معي إلى ما بعد المدينة الجامعية ، فرافقني في سكني في بيت الأسرة بالقاهرة بعد التخرج واستلام العمل بالجامعة والصحافة . فنَمت ذائقتي وأذني على برامج الصباح ، والأصوات الإذاعية المميزة التي كانت تقدم عبر البرامج وجبات سريعة ممتعة . والإذاعة أقرب إلى نفسي من التلفاز ، على الرغم من أن المشاهدة بالعين تغلب الاستماع بالأذن . وقد يقارب رأيي هذا قول الشاعر الكفيف بشار بن برد:
يا قوم ، أذني لبعض الحي عاشقة
والأذن تعشق قبل العين أحيانا
وفي تجاربي الحالية مع برامج التلفاز والإذاعة التي تستضيفني أحيانًا، أُقدم شأن الإذاعة على التلفاز وأحسب له أكبر الحساب والتحسب ، حيث يتاح لك أمام الكاميرا مالا يتاح لك أمام الميكروفون ، فقد يتنازع المُشاهِدَ الصوتُ والصورةُ معًا ، فيتمدد الضيف على راحته في الكلام والحديث ، أما في الإذاعة فيقع التركيز على الصوت فقط بلا منازع ، فيرهف المستمع السمع ، ويكاد يتسلم الكلام حرفًا حرفًا ، لا يتقبل اللحن في النطق ولا يستسيغ الإسفاف ولا الهنات . ففي الإذاعة دقة من المتحدث في الكلام تقابل دقة من المستمع في الإنصات .
هكذا مضت بنا الأيام في حالة من التعايش والهدوء ، يجمعنا احترام خصوصية الآخر ، ولا يفرقنا تباين الأذواق والاهتمامات .
وللحديث بقية ...
***
جمعتني أنا وصديقتي الكثير من الذكريات التي لا تُنسى والمواقف المضحكة التي ما إن نتذكرها معًا أو نحكيها لأحد إلى الآن تأخذنا نوبة من الضحك الهستيري.
من أبرز هذه الذكريات ما يتعلق بمحاضرات مقرر (علم الأصوات) في الفرقة الثالثة . فلا أظن أنني وصديقتي استفدنا أو حتى سمعنا معلومة واحدة طوال العام ؛ لسبب واحد ، هو أننا كنا بمجرد دخولنا المدرج وجلوسنا على المقعد يأخذنا نوم عميق ، فلا نستيقظ إلا على أصوات حركة الطلاب ووقع أقدامهم على الأرض الخشبية عند مغادرتهم المدرج عقب انتهاء المحاضرة . كنا ننام على الرغم من أن هذه المحاضرة هى المحاضرة الأولى في جدول اليوم ، وعلى الرغم من الازدحام نتيجة الأعداد الرهيبة للطلاب ، وعلى الرغم من التزامنا وحرصنا على المحاضرات ، واحترامنا المكان ومراعاة السلوكات الطيبة .
لم يكن سبب النوم الذي كان يهبط علينا أن المدرج كان في البدروم حيث الأجواء الهادئة ، أو طبيعة المقرر المملة والمعقدة ، حيث كان يُعنى بتشريح الجهاز التنفسى بالرسم التوضيحي لمعرفة مخارج الأصوات ، والتي كنت أرى أنه يناسب كلية الطب أكثر ، ولم يكن السبب –أيضًا- أداء الدكتور وصوته الحنون الهاديء المتزن ، الذي كان يجلب الاسترخاء الممهد للنوم ، لم يكن كل هذا فحسب ، لكن كان بسبب طبق الفول الذي كنت أنا وصديقتي نحرص على التهامه قبل الذهاب إلى الكلية في هذا اليوم من كل أسبوع . كل المحاضرات في كليتنا كانت تبدأ من الساعة الثامنة ، فكنا - وكل البنات - ننصرف في وقت واحد ، وفي عجلة من أمرنا ، لذلك كان فطورنا خفيفًا سريعًا ، ثم نهرول إلى الجامعة . لكن في هذا اليوم تحديدًا كانت المحاضرة الأولى لي ولصديقتي متأخرة عن أقراننا ساعة ، فكنا نحرص على عمل وجبة فطور محترمة ، على رأسها طبقٌ شهيٌ من الفول بالطماطم والبصل ، وأنا أعشق الفول . نأكله بتمعن وتأنٍ وتمتعٍ ، ثم نشرب الشاى على مهل كأننا في إجازة ، ثم نمضي إلى الكلية في كامل النشاط والحيوية والانطلاق والروقان .
ولست أدري أين كان يختفي هذا النشاط ؟! وأين كانت تذهب هذه الحيوية فور دخول الدكتور وشروعه في المحاضرة ؟! فقد كنا نتوسد ذراعينا بوضعهما على الدرج ، و يبدو أن كوب الشاي لم يكن يجدي شيئًا أو يصمد أمام طبق الفول بالبصل.
ومن عجب أن النوم كان يهبط عليّ أنا وصديقتي في نفس اللحظة ، ونفيق منه في نفس اللحظة ، لتنظر الواحدة منا إلى الأخرى ، فترى احمرار العينين والوجه من أثر الاستغراق في النوم . ولم نكن نعلم سبب الإحساس بالضيق الذي كان ينتابنا وقت الإفاقة، هل هو لوم النفس وتأنيبها لارتكاب مثل هذا السلوك الغريب علينا ، والذي تضيع بسببه المحاضرة ؟ أم بسبب إزعاج الطلاب بأصوات حركتهم أثناء انصرافهم ، مما يجعلنا نستيقظ في عز النوم ولم نأخذ كفايتنا منه؟
بعد خروجنا من هذا المدرج المسكون بأشباح النوم ونحن نترنح من بقايا سطوته ، نرتقي السلم لندخل محاضرة الصرف والعروض للأستاذ القدير (رحمه الله) المعروف بخفة ظله وأجواء المرح التي يشرح فيها ، لتدب اليقظة والنشاط في الذهن والبدن ، ثم تبقى معنا حالة اليقظة والانتباه إلى آخر اليوم .
حتى إذا ما أتى يوم هذه المحاضرة من الأسبوع التالي ، تكرر نفس الموقف بتفاصيله . كل مرة كنا نلوم أنفسنا و نأخذ عهدًا غليظًا عليها ألا ننام في المحاضرة المقبلة . فكنا – لا محالة - ننام وفي نفس اللحظة .
حاولنا كثيرًا إيجاد حل جذري وصارم يضمن عدم تكرار الأمر، لكن دون جدوى. أكثر من مرة نذهب إلى المحاضرة بتحدٍ معلن وصريح للنوم ، عاقدين العزم على التمسك باليقظة باختيار المقاعد الأمامية مثلًا . ولو كان بأيدينا لقعدنا في الصفوف الأولى في مواجهة الأستاذ عسى أن يمنعنا الحياء أو الخوف من النوم ، لكن كان يتعذر هذا مع تزاحم الطلاب عند دخول المدرج ، فلا يمكننا إلا تقريب المكان بقدر الاستطاعة ، ولا فائدة فقد كنا ننام أيضًا . مرة أخرى ندخل بنفس العزم والإصرار بنية التركيز تركيزًا شديدًا مع الدكتور محاولين الفرار من النوم بالاندماج مع ما يقول ، كنا نبحلق بالنظر ونرفع الجفن ونشده لنمنعه من الإطباق. لكن ونحن على هذه الوضعية من محاولات التركيز واليقظة المفتعلة ، كان فجأة وفي ظروف غامضة يختفي كل شيء، يختفي الدكتور بالطلاب بالمدرج بكل ما حولنا ، ولا نكتشف أننا وقعنا - كالمعتاد - في براثن النوم إلا مع وقع أقدام الطلاب على الأرض عند انتهاء المحاضرة .
كنا كل أسبوع نشرع في حل جديد أو مخرج من هذه الحالة ، لكننا في الحقيقة ما اقتربت محاولاتنا مرة واحدة من الامتناع أو التنازل عن التهام طبق الفول بالبصل.
***
(14)
رغم آواصر المحبة والتقارب والتوافق التي جمعتني بصديقتي و شريكتنا الدمياطية وغيرهما ، استطاعت كل منا الاحتفاظ بكيانها وسمات شخصيتها وتفردها . فلم تفرض إحدانا على الأخرى أي طابع يخصها ، لا في الميول ولا العادات ولا الاهتمامات ، ولا في طعام أو شراب . ولم تحاول استمالة الأخرى إلى ما يتفق معها . و في رأيي أنه ليس ثمة تناقض بين الاثنين ، بل إن هذا هو عين التوافق والانسجام. فقد احتفظت كل منا بعالمها الخاص بما فيه من أحلام وآمال وتطلعات. ولم تنشغل إحدانا بانتزاع الأخرى من عالمها وإدماجها في عالمها هي .
فلم تشاركاني – مثلًا - حب القراءة ، وشغف ابتياع الكتب سواء من معارض الكلية أو من أمام سور الجامعة ، حيث كان من الممكن أن أفني مصروفي في سبيل اقتنائها . كنت دائمًا أثناء خروجنا من باب الجامعة أمر على بائع الكتب الذي يفترش الرصيف ، أبدأ بالطواف بعيني سريعًا على الكتب المرصوصة أثناء المضي، استرق النظر إلى العناوين والأغلفة ، ثم أُبطئ المسير لتعلق عيني بأحدها ، ثم أقرر الشراء . كان هذا المشهد يتكرر كثيرًا ، حتى أنهما كانتا تمسكان بي لتمنعاني عن مجرد مطالعة العناوين ؛ لأنهما تعرفان النتيجة ، وهي تدمير مصروفي . وكنت أعذرهما في منعي من هذا التهور ، حتى أنني اقترحت – مرة - أن نغير الطريق تجنبًا لوقوعي في حبائل الشراء.
ذات يوم دعتني صديقتي إلى مشاهدة حلقة من مسلسل (ليالي الحلمية) ، وكانت قد شاهدت بعض حلقاته في إحدى سفرياتها إلى السويس وأعجبها ، وأرادت استكمال متابعته في المدينة ، حيث كان العرض الأول له ، وحيث كان في حجرة (الدادة) تلفاز مسموح لنا بمشاهدته . نزلتُ على رغبتها وذهبتُ معها ، لأجد الحجرة ممتلئة بالبنات ، زحام وجلوس عشوائي ، لم استرح لمنظر التجمع ولا هيئة البنات في الجلوس ، ثم اتخذت أنا وصديقتي مكانًا وبدأنا المتابعة . فلم تعجبني الحلقة ولا المسلسل ، صحيح أنا متابعة جيدة لأعمال الكاتب أسامة أنور عكاشة الدرامية، لكن حين يكتب أعمالًا ذات طابع عاطفي أو إنساني أو فلسفي ؛ مثل مسلسل (الحب وأشياء أخرى) و (سفر الأحلام ) و( رحلة السيد أبي العلا البشري) و(ضمير أبلة حكمت) وغيرها على نفس الشاكلة . لكن نوعية المسلسلات التي تروي حواديت وقصصًا متعددة ومتداخلة ، ليس فيها من غرض سوى سرد الحدوتة فلا تجذبني . لا أميل إلى الحكايات الشعبية ، ولا قصص الحارات والفهلوية ، ولا العوالم ، ولا الوجوه التي تشبه وجوه السوابق و البلطجية. فلم يجذبني (سليم البدري) وقصصه مع (نازك السلحدار )، ولا لعبة القط والفار بينه وبين العمدة (سليمان غانم ) ، ولا سوقية ( سماسم العالمة ) وصبيتها (حمدية) .
لم أسخف -وقتها - من ذوق صديقتي في نوعية المسلسلات ، ولم أظهر أى استياء من ذلك ، لكني اكتفيت بعدم معاودة المتابعة مرة أخرى ، وظلت هي تذهب وحدها كل ليلة . وتمر الأيام والسنون ليكون هذا المسلسل أيقونة الدراما المصرية ، يتابعه بشغف جمهور عريض . عرفت وقتها أن ذوق صديقتي يوافق ذوق الكثير من المصريين من محبي هذه النوعية الملحمية من الدراما المصرية . أما أنا فعلى الرغم من كل هذا ، وعلى الرغم من متابعتي الأجزاء الثلاثة من المسلسل بعد مرور سنوات لم أستطع الانجذاب إليه أو الإعجاب به ، أو معاودة مشاهدة أى مشهد منه . وكذلك مسلسل ( أرابيسك) ، هذا على الرغم من تصريح الممثل (صلاح السعدني ) أن هذين المسلسلين هما أهم أعماله وأحبها إليه .
أنا تجذبني نوعية من المسلسلات لا أجد كثيرين يشاركونني الانجذاب إليها ، وأحيانًا أشعر أنه لا يشاهدها أحد غيري؛ ليس لسبب سوى أنها ليست على شاكلة مسلسل (ليالي الحلمية). وكما كانت صديقتي تذهب وحدها لتشاهد مسلسلها، كنت أذهب أنا وحدي إلى حجرة (الدادة) لأشاهد مسلسل من النوعية التي تجذبني ، لم أرغم صديقتي على مصاحبتي في المشاهدة كما لم ترغمني هي على مصاحبتها ومشاركتها مشاهدة مسلسلها، ولم تغير هى ذوقها ولو على سبيل مصاحبتي كما كانت تحب ، كانت تفضل البقاء في حجرتنا لقضاء أعمال أخرى ، فلم تشاركني المشاهدة ولا أحد من البنات ، كانت حجرة (الدادة) أثناء عرض هذا المسلسل خالية إلا مني ، و كان هذا يروق لي ؛ لأني لا أحب الضجيج ولا قطع استرسال المتابعة والتأمل . أتذكر هذا المسلسل و اسمه ( الموج والصخر) . بطلته صاحبة وجه جميل وحضور رقيق يملأ شاشة التلفاز نورًا حين تطل به . الممثلة (نسرين) من الوجوه التي تجعلنا نشمئز و ننفر من كل الوجوه الممسوخة التي نشاهدها الآن على التلفاز . ومن المصادفات اللطيفة أن البطلة كانت طالبة مقيمة في بيت للطالبات ، مما ألقى بظلال من التلاقي والتشابه في الأجواء المحيطة بي وقتها. يتناول هذا المسلسل قصة واحدة ، وموضوع واحد ومحدد ، يتغلغل داخل النفس البشرية ، يستكشف دقائق الخير والشر ، الحب والحقد ، النفعية وحب الذات بتدمير الآخر . يستعرض الحقد الدفين داخل شخصية البطل ، وكيف يتسلل إلى أهل البراءة والحب والخير ليقنعهم أنه منهم ، ثم ينكشف أنه يستهدف تدميرهم من حيث لا يعلمون لمجرد الشعور بالانتصار . في هذا السرد والطرح النفسي لقصص أناس تملؤهم الغيرة والحقد يعيشون معنا وحولنا وبيننا ، كنت أستوعب بتأمل حركة الشخصيات والأحداث ، في حكاية ليس الغرض منها الحكي ، بل هى تجربة إنسانية ؛ خلاصتها إن هناك من أهل الشر والحقد من يكون قويًا بشره ، يهزم ويهدم من يشاء من أهل الخير بمهارة وتمكن في غفلة من الآخر المنخدع فيه ، والذي كان يجب عليه الحرص والتنبه لهذه النوعية الثعبانية ، فيصمد أمامها صمود الصخور أمام الأمواج ، تهزمها وتكسرها مهما كانت قوتها . وما أكثرهم في حياتنا .
لم تفرض إحدانا على الأخرى ذوقها ، ولم تحاول استمالتها ولا مناقشتها ، لكن كنت أنا وصديقتي نذهب –دون شريكتنا الدمياطية التي كانت لا تميل ميلنا، ودون سائر البنات أيضًا- لنتابع – معًا- مسلسلًا كوميديًا ، نقضي وقتًا من الضحك والترويح ثم نعود.
كذلك لم تشاركاني الاستماع إلى الراديو الذي بدأ ارتباطي به في هذه المرحلة ، فقد كان عهدهما به لا يتعدى الاستماع إلى صوت الشيخ محمد رفعت وهو يرفع آذان المغرب في شهر رمضان المبارك، ونحن نفترش الأرض حول مائدة الإفطار، ثم نتابع مسلسل إذاعة الشرق الأوسط . أتذكر أننا استمعنا في شهر رمضان خلال سنتين متتاليتين إلى مسلسل ( أفواه وأرانب ) و مسلسل(الصبر في الملاحات) قبل تحويلهما إلي أفلام سينمائية .
أما أنا فقد كان الراديو صاحبي في الليل حيث الهدوء والسكون والتأمل . كما قال الشاعر جبران خليل جبران : (سكن الليلُ ، وفي ثوب السكون تختبي الأحلام ) و اكتشفت مع مرور السنين أنني كائن ليلي .
كان لي في أغلب الليالي وقت مخصص أسهره وحدي مع الراديو والكتاب الذي أقرأه على مكتبي في ضوء مصباح بجانبي ، وبصوت خفيض لا يزعج شريكاتيّ أثناء نومهما. أتابع ما يعرض من مواد إذاعية . نقلني الراديو إلى عالم آخر من السحر والجمال والأنس ، ظل معي إلى ما بعد المدينة الجامعية ، فرافقني في سكني في بيت الأسرة بالقاهرة بعد التخرج واستلام العمل بالجامعة والصحافة . فنَمت ذائقتي وأذني على برامج الصباح ، والأصوات الإذاعية المميزة التي كانت تقدم عبر البرامج وجبات سريعة ممتعة . والإذاعة أقرب إلى نفسي من التلفاز ، على الرغم من أن المشاهدة بالعين تغلب الاستماع بالأذن . وقد يقارب رأيي هذا قول الشاعر الكفيف بشار بن برد:
يا قوم ، أذني لبعض الحي عاشقة
والأذن تعشق قبل العين أحيانا
وفي تجاربي الحالية مع برامج التلفاز والإذاعة التي تستضيفني أحيانًا، أُقدم شأن الإذاعة على التلفاز وأحسب له أكبر الحساب والتحسب ، حيث يتاح لك أمام الكاميرا مالا يتاح لك أمام الميكروفون ، فقد يتنازع المُشاهِدَ الصوتُ والصورةُ معًا ، فيتمدد الضيف على راحته في الكلام والحديث ، أما في الإذاعة فيقع التركيز على الصوت فقط بلا منازع ، فيرهف المستمع السمع ، ويكاد يتسلم الكلام حرفًا حرفًا ، لا يتقبل اللحن في النطق ولا يستسيغ الإسفاف ولا الهنات . ففي الإذاعة دقة من المتحدث في الكلام تقابل دقة من المستمع في الإنصات .
هكذا مضت بنا الأيام في حالة من التعايش والهدوء ، يجمعنا احترام خصوصية الآخر ، ولا يفرقنا تباين الأذواق والاهتمامات .
وللحديث بقية ...
***