خالد جهاد - غربة في النور

لا شك في أن وجود الطبقة المتوسطة هو بمثابة صمام أمان بالنسبة للمجتمع، حيث كانت ولا زالت برغم كل الظروف من يضمن توازنه ويحمي تركيبته من الإنهيار أو الإختلال، و عندما حدث ذلك فعلياً تبعاً للكثير من العوامل والمؤثرات الداخلية والخارجية تفككت هذه الطبقة بدورها إلى عدة طبقات، وأفرزت بهذا التفكك العديد من المتغيرات الإجتماعية والإقتصادية التي امتد أثرها لينعكس على السلوك والحالة النفسية ليس فقط لأبنائها فقط بل للمجتمع برمته كونها همزة الوصل بين مختلف شرائحه..

كما انعكس على رؤيتها لنفسها وللآخرين وانعكس على نظرتها وتحليلها للأحداث والقضايا ليس فقط داخل حدودها بل وعلى مستوى العالم، وأصبح تقييمها للحالة العامة وتعاطيها مع مفردات الحياة اليومية وحتى الشأن الثقافي والفني مثار استغراب ومدعاةً للحيرة وأشبه بعلامة استفهام كبيرة، حيث اختلف ذوقها واختلفت مفاهيمها واتجاهاتها وباتت بوصلتها وتركيبتها غير واضحة المعالم، كما تأثرت بشكلٍ غير مسبوق بثقافاتٍ لا تشبهها ولا يمكنها من حيث المنطق والمبدأ أن تنتمي إليها أو أن تتماهى معها لوجود تناقض شبه كلي بينها في الجذور والأفكار والقيم والعمق والروح، والذي قد لا يعني في بعض الحالات أن (الآخر) على خطأ لكنه يؤكد على خصوصية كل ثقافة وعلى أهمية الوعي والتمييز بين التعرف والإطلاع على المختلف عنا أو الإعجاب به أو حتى احترامه وبين تبني وتغيير هويتنا لنكون نسخة مشوهة عنه..

وقد كان الهم الأكبر لأبناء الطبقة المتوسطة والأجيال التي سبقتها هو تمكنها من الحصول على فرصة في التعليم، ايماناً منها أن العلم (وبعيداً عن العبارات الإنشائية) هو طوق نجاتها الوحيد والقادر على جعل حياتها أفضل كونه سيساعدها على الوصول إلى مكانة مرموقة تحقق بها طموحاتها المعنوية والمادية بعد سنوات من الكفاح والعمل المستمر كما تصور البعض، لكن الكثيرين اصطدموا بكل أسف بعد سلسلة طويلة من التجارب الفردية والعامة على مدار عقود أن العلم وحده لا يكفي، بل وأن (بعض) المال يستطيع أن يقلب المعادلة رأساً على عقب، وأن إيقاع الحياة والتفكير السائد بين الناس على امتداد بلادنا حتى ممن كانوا أو لا زالوا ينتمون إلى الطبقة المتوسطة محصور حالياً في الوصول إلى المال بعيداً عن كل النظريات والمبادىء المحقة التي تلقناها منذ نعومة أظافرنا، حيث يجد الكثير من المجتهدين والمميزين أنهم محاطون في مهنهم حتى الإبداعية والعلمية منها على حدٍ سواء بفكر مادي يرى أن الربح يأتي أولاً وأن (الزبون دائماً على حق)، فتسقط مختلف الإعتبارات أمام هذا المنطق ويسقط معها الكثير من القناعات وجهد السنوات، كما يجد (المبدع الحقيقي) نفسه فيها محط مقارنة غير متكافئة أو عادلة مع عدد ليس بالقليل من المنافسين الذين ينتمون إلى نمط التفكير المذكور و(يحملون) شهاداتٍ متميزة (بمعايير هذا الزمن) لكن قدرتهم على الإبداع والعطاء خارج هذه المنظومة محدودة، نظراً لتسطيح الأفكار والمعاني وابتذال العبارات واقتصار النظرة حول ربحٍ سريع أو نجاح مؤقت أو بريق آني زائف يخلق حالة غير قادرة على الإستمرار ولا على بناء أساس متين يستمر للأجيال القادمة، وبالمقارنة بين نتاج الجيل الحالي والجيل الذي سبقه مع أخذ متغيرات الزمن والفروقات بعين الإعتبار نجد أن الكفة ليست في مصلحة هذا الجيل رغم التقدم الكبير وتوفر الكثير من الإمكانيات وعناصر الإبهار على مختلف الأصعدة و(توظيف العلم ومفرداته) للترويج لأي (مشروع) عصري..

فقد لمعت العديد من الأسماء الهامة التي قدمت للعلم والإنسان والثقافة والفنون تجارب أدخلتها التاريخ (كلٌ حسب موهبته) قبل أن تصطدم بمعايير اليوم، والتي برغم انفصالها الجوهري عنها إستفادت من أعمالها واستنسختها لكن للأسف بعد تفريغها من مضمونها، مما يطرح سؤالاً مؤلماً لدى الكثيرين في زمننا الحالي عن حقيقة أن (العلم نور) ونحن ندرك وجود فجوٍة هائلة بين (التقدم العلمي) وبين الثقافة التي تعيش غربةً لا مثيل لها.. فنرى من جانب معاناة العلماء والموهوبين الحقيقيين الذين رافق بصماتهم ثراءٌ ثقافي وبعد انساني عميق، ونرى أيضًا من جانب آخر (العجز) لدى العديد من الذين يقدمون لنا على أنهم (نخب) عن تحقيق أي انجاز يكتب له الإستمرارية على أرض الواقع، خاصةً وأن أغلب ما نراه أو نسمع عنه لا يتعدى كونه جزءًا من حملات دعائية مدفوعة ومؤقتة لا تعيش بين الناس أو معهم، وهو سؤال يلح عليهم ويؤرقهم ويخلق لديهم نوعاً من التشتت والتخبط والإضطراب بين ما يعرفونه ونشأؤوا عليه وبين ما يعايشونه بإستمرار، فيدفع بعضهم نحو اليأس أو العنف أو الإنعزال أو حتى اللامبالاة كنوعٍ من التعبير عن احباطاته التي لا تنفصل بطبيعة الحال عن تأثره وشعوره بالقضايا الهامة كالوضع المأساوي في غزة والسودان، مصارعاً ما يعرف في قرارة نفسه أنه الخيار الصائب رغم مرارته ومضطراً ليعيش غربته وسط ما يوصف بالنور..

#خالد_جهاد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى