محمد إبراهيم محمد عمر همد محمود - التمرد... مقتطف من رواية أضواء النفق الجنوبي....

بدأت حالة نبيل تسوء يوماً بعض يوم، ما لم تحصل معجزة فمن المستحيل أن يتماثل للشفاء وهو لم يتلقَّ أي علاج من الأصل، ومازالت إدارة السجن تماطل في علاجه حتى ولو كان ذلك على نفقته الخاصة، وتكتفي بما يوصي به طبيب السجن من مسكنات ومهدئات تراوغ المرض ولا تشرع في علاجه، يبدو أن الحرمان من العلاج هنا عقوبة إدارية ووسيلة فاعلة للقتل البطيء في آن واحد، فسجين مريض خير من سجين يتمتع بصحة ولياقة بدنية عالية، كما للأمر فوائد أخرى غير مباشرة، ستقل نفقة إطعام السجناء، كما يكون قد نقص عدد السجناء المزعجين واحد، لذا لم يجد أمامه وسيلة للضغط سوى الانخراط في تحدي الأمعاء الخالية، فبدأ الإضراب عن الطعام إلى أن تستجيب إدارة السجن إلى طلبه بتلقي العلاج، وبمرور اليوم الثالث لم يعد جسده المتهالك يتحمل أكثر، فغاب عن الوعي، وهنا شرعت إدارة السجن في إعطائه السوائل المنقذة للحياة وبعض الفيتامينات البديلة عن الغذاء.

خرج الأسرى إلى الفورة خروجاً جماعياً مباغتاً، مطالبين بعلاج نبيل ونقله إلى مستشفى ، الآن أصبحت دلائل الفوضى والاضطراب في ساحة السجن في أوجها، وقد قام السجناء بإحراق ملابسهم وفرشاتهم وأغطيتهم، ليشكل ذلك سحابة مخيفة من الدخان، وقد عجز الجنود عن السيطرة على السجناء، لذلك تم استدعاء فرقة القمع الخاصة وبدأت معركة تكسير العظام وتطويع السجناء من جديد، وبانجلاء المعركة وإرجاع الأسرى إلى زنزاناتهم أوصى مندوب الموساد إدارة السجن بضرورة الإنحاء للعاصفة، فالوقت غير مناسب لانفجار ثورات أخرى في هذا السجن وغيره من السجون بينما الدولة منهكة هنالك في الخارج في التعامل مع الانتفاضة التي تتمدد رقعتها الجغرافية يوماً بعد يوم، لذلك لا بأس من الاستجابة لطلب السجين بتلقي العلاج على أن يكون ذلك على نفقته الخاصة.

خرج مأمور السجن من مكتبه حانقاً، لقد سئم من تدخل رجال الموساد

في صميم عمله، فأحياناً يطالبون بحبس انفرادي لبعض السجناء، وأخرى بضرورة التضييق على بعض السجناء وإرهاقهم جسدياً، لا شيء من هذا يتعارض مع خط إدارته لهذا السجن، إلا أنه كان يتضايق من الطريقة الاستعلائية التي يطلبون بها ذلك منه، الآن وصلت بهم البجاحة إلى أن يطلبوا منه الاستجابة لطلب السجين رقم (3113)، لو كان ذلك سجين آخر لما وجد لهذا قبولاً في نفسه، فكيف من هذا السجين بالذات، هذا السجين الذي حطم أنف جنديين إسرائيليين على الأقل حتى الآن وفق ما تظهره الأوراق الرسمية، وإن كان متيقناً من أنه والغ في الدم الإسرائيلي أكثر من ذلك ولا أحد يدري، يبدو أن رجال الموساد قد فرغوا من انشغالاتهم ولم يعد أمامهم ما يزجون به الوقت سوى التسلي بالتدخل السافر في إدارته لهذا السجن، ولكن هيهات، هذا السجن له تاريخ وسمعة أدارية غالية لا يمكن التفريط فيها لمجرد أن لرجال الموساد رأياً في ذلك، هذا السجن مملكته الخاصة ولن ينفذ فيه إلا ما يريده هو وحده لا غير.

ثم تذكر فجأة القوة الخفية التي يملكها الموساد في التأثير على القرارات المصيرية للدولة، وقدرته في خلخلة الإدارات الحكومية وفتح مكبات الفساد فيها، ما يحنقه أكثر أنه يعجز عن تحدي هذا البعبع المخيف الموساد في هذا التوقيت، فهو الآن في الثامنة والخمسين من عمره، ويحلم بتقاعد مريح وتكريم لائق في نهاية حياته المهنية، لقد حرص على الاحتفاظ بسيرة عطرة طوال مدة خدمته السابقة، ليس الوقت مناسباً لتسرب أي رائحة عفنة منه الآن، وخاصة أن مندوب الموساد قد لا حظ تردده في تنفيذ ما أشار به من الاستجابة لطلب السجين، وقد أشار المندوب من طرف خفي عن كمية أجهزة المحمول التي تتسرب إلى السجن، فضلاً عن كمية من الأغراض التي تخرج من السجن، الآن فطن إلى هذا التهديد المغلف بالنصح والإرشاد، ولكنه ليس من طبعه أن يكون على استعداد لمطاوعة أي قوة ترغب في تطويعه وقهره، وهو الذي يملك خبرة تفوق الثلاثين عاماً في إعداد كؤوس عالية الجودة والنقاء في تطويع السجناء وقهرهم، فهل حان الوقت ليشرب من الكأس نفسه؟

لم يدر بخلده أنه من بين أسوار هذه المملكة الحصينة خرجت نطفة ما خلسة ذات نهار، وهي الآن قد أصبحت كائناً حياً يمشي على قدمين، ولم يكن يعلم بذلك حينها، ولا حتى رجال الموساد الذين يحشرون أنوفهم في كل شيء يعلمون حينها بأن الفلسطينيين قد أدخلوا سلاحاً جديداً إلى أرض المعركة، ألا وهو سلاح التكاثر عن بعد.

لم يكن شيخ الأسرى من المتحمسين لهذا النوع من التكاثر، بل لم يكن يؤمن بوجوده من الأصل، وإن وجد فما جدوى إضافة بائس آخر إلى أسرته البائسة فعلاً في هذا الوضع المزري، لقد عرض على ابنة عمه الطلاق وأن تكمل حياتها بدونه، فلا أمل له في الحياة مع كل هذه الأحكام المؤبدة التي تحتاج إلى أكثر من عمره وحده لقضائها، ولكن إيمانها به كان قوياً، وتشبثها بحياتها الزوجية كان أقوى، وأكدت له مراراً إنها إن لم تكن له بعد فلن تكون لغيره، فستظل في انتظاره فربما يأتي يوماً يخرج من السجن كما نجا من الموت بأعجوبة.

وقد وصلت لشيخ الأسرى رسالة شفهية من زوجته تعرض عليه الفكرة، وأنها ترغب في ذلك بشدة، وقد تلكأ في الرد بسبب الوساوس واليأس الذي يعتريه آنذاك، وقد فكر كثيراً في الأمر، فلم يستطع استيعاب خروج نطفة منه عبر بوابة السجن بسهولة، وحتى إن خرجت فلا أحد يضمن وصولها صالحة إلى هنالك، وحتى إن وصلت صالحة من أين لهذه البائسة تدبير المال اللازم لمثل هذا النوع من الحمل والإخصاب الذي يكلف أموالاً طائلة، والتفكير في كل سبب من تلك الأسباب على حده كفيل بجعله متردداً في القبول، أما التفكير في كل تلك الأسباب مجتمعة يجعله يرفض الفكرة من أساسها، وظلت الفكرة تتشبث بحبل الرفض في عقله فيؤرجحها تأنيب الضمير بعنف، لقد تمكن هذا السجن من تحجير قلبه، حيث أن مساحة القسوة وعدم الاهتمام بأهله أصبحت تزداد يوماً بعد يوم، وهاهو الآن يتردد في إخراج عينة صغيرة من جسده إن لم يكن إخراجها نافعاً فلن يضره بشيء، ولكنها بالمقابل قد تصنع فارقاً كبيراً في حياة هذه البائسة التي تحلم بخروجه يوماً ما، انهمرت الدموع الحارة من عينه وأحس بلل طفيف بين فخذيه، لقد حسم الأمر أخيراً، وهو يتحسس قنينة عينة البول التي دبرها له صديقه من معمل السجن، والتي وظلت تراوح مكانه في جيبه حتى ذلك الوقت، وملمسها البارد يوخز ما تبقى حياً من ضميره الموشك على التبلد والجمود.

وقف الأسير المحرر وهو يخضع لتفتيش أخير قبل مغادرته السجن، فاهم ينثرون أعراضه البسيطة أمامه، وكنوع من الاحتراز تم تفتيشه تفتيشاً ذاتياً، لو أن الأمور سارت كما ينبغي ربما يكون هذا آخر عهده بتفتيش من هذا النوع، أو هذا ما يتمناه على الأقل، خطر كل ذلك بعقل الأسير بينما كان الجندي راؤول نظرة ينظر إليه بنظرة غريبة مزيج من الدهشة والاستمتاع، وهو يلوح بالقنينة التي وجدها معه، وقد دهش الجندي من حرص هذا الأسير على اختلاس تلك القنينة، لا يدري ما الذي يقصده بفعله هذا، هل نوع من التشكيك في نزاهة معمل السجن؟ أم هو نوع من الاحتفاظ بذكرى رمزية لفترة السجن؟ أم هي نوع من ادعاء البطولات الزائفة بأنه قد أخرج شيئاً من ممتلكات السجن رغم أنف السجان؟ وبدأت الأسئلة بخصوص القنينة تتداعى في عقل راؤؤل، ولكنه وضع حداً لذلك بأن قرر أن يحتفظ بتلك القنينة حتى ولو لم يتمكن من معرفة كنه حرص الأسير على الخروج بها، لا يستطيع التكهن بما يمكن لهؤلاء الأغيار فعله بقنينة كهذه، وزاده إصراراً على ذلك ما لاحظه من اضطراب ومسحة حزن خفية ارتسمت على وجه الأسير، لذلك قرر أن يحرمه من الاحتفاظ بها حتى ولو لم يتمكن من معرفة سرها حتى الآن، وقد دفعه الفضول إلى نزع السدادة عنها، وإذا برائحة كريهة تنبعث منها، فألقى بها بعيداً وهو يلعن الفضول الذي جعله يتفحص قنينة بول مقززة، كما يلعن الأسرى الذين يحتفظون بروح الفكاهة وصنع المقالب في هذا القبو المظلم المسمى بسجن ريمون، ولكن على الرغم من كل ذلك التدقيق وروح الفضول المتوثبة لدى راؤول لم يشك للحظة في ذلك القلم الذي خرج به الأسير في جملة مقتنياته المتواضعة التي غادر بها السجن، حتى الأسير المحرر نفسه لم يكن يدر أنه يحمل في أنبوب القلم ملايين الحيوانات المنوية في طريقها إلى دورة حياتها الجديدة في موضع آخر.

1725550660137.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى