د. نور الدين السد - اتجاهات قراءة التراث في العصر الحديث

عرف التراث العربي الإسلامي في العصر الحديث قراءات متعددة، وكل قراءة تستند إلى مرجعية مختلفة فكرا وفلسفة ومنهجا؛ مما أنتج فهوما مختلفة اختلافا جذرياً، ومن بين القراءات الحديثة للتراث نذكر الآتي:
1- القراءة ذات المنطلقات المتطابقة مع المرجعية اليسارية القائمة على أسس المنظومة الفلسفية المادية التاريخية والمادية الجدلية، (حسين مروة، عبدالله العروي، طيب تيزيني، الطاهر لبيب، مهدي عامل، محمود أمين العالم، وسواهم...).
2- القراءة ذات المرجعية المتطابقة مع المواقف الليبيرالية ومنطلقاتها الفكرية،(طه حسين، محمود عباس العقاد، محمد أركون، نصر حامد أبو زيد، محمد عابد الجابري، جورج طرابيشي، برهان غليون، علي أحمد سعيد أدونيس، وسواهم...).
3- القراءة ذات التوجهات الاستشراقية، وهي قراءة مستندة إلى خلفيات قائمة على أسس الفصل بين الذات والموضوع، وبأدوات ذات منشئ غربي عقلاني حداثي، وعلى ما فيها من جدة لا تخلو من أبعاد «كولونيالية» متعالية، وهي في معظمها ترى في مقروئها امتدادا للتراث الغربي اليوناني اللاتيني، كما أنها مؤدلجة وغير منصفة، (لويس ماسنيون ، شارل بروكلمان، كالو ألفونسو نالينو، ألفريد أكتاف بل، سنوك هرجرونيه الذي تسمى باسم الحاج عبدالغفار ، دي خويه، وليام رأيت وسواهم...).
4- القراءة التراثية للتراث، وتستأنس بالمنجز التراثي وأدواته في قراءة التراث، ولا تفصل الذات عن الموضوع، وترى في السرديات التراثية إمكانية حلول مشكلات الراهن ومعضلاته، وهي في الغالب قراءة انتقائية متحيزة إلى مذهب أو ملة أو نحلة، وهذا التوجه في القراءة على معاصرته الحداثة فهو يقرأ التراث برؤى القدامة وتصوراتها، دون نكران ما لهؤلاء القراء من جهود محمودة في مشروع النهضة والإصلاح، (جمال الدين الافغاني، محمد عبده، محمد بن عبدالوهاب، حسين المرصفي، أمين الخواي، أحمد أمين، الطاهر بن عاشور، عبدالحميد بن باديس، محمد عمارة، مالك بن نبي، محمد باقر الصدر، حسن حنفي، عبدالرحمن طه، حسن البنا، سيد قطب، راشد الغنوشي... وسواهم).
5- أما القراءة التي نرى فيها إمكانية الوصول إلى الموضوعية والتجرد والحيادية فهي: القراءة النقدية للتراث في عمومه دون انتقاء أو تهميش أو تستر أو تمويه أو تضليل أو تزييف أو أدلجة، وهي القراءة القائمة على أسس علمية وآليات إجرائية صارمة، قراءة من خارج التراث وأدواته ومن خارج منجزات الأيديولوجيات الغربية وآلياتها، وهي قراءة غير مطابقة للاتجاهات اليسارية أو الليبرالية أو الاستشراقية، أو التقليدية، والمراد بها أن تكون قراءة حيادية تفصل بين ذات القارئ وموضوع القراءة، وتكون منتجة لأدواتها في تفسير الأسيقة والعوامل التي كان لها الأثر الظاهر والخفي في نشأة التراث بمختلف تجلياته؛ قراءة تؤول التراث تأويلا يبدي فيه المؤول مهارة وكفاءة وقدرة وحصافة، تأويلا يجعل من قراءته قراءة متميزة ومتجاوزة ومتفوقة بمنظومتها الفكرية، وعدتها المنهجية، وآلياتها الإجرائية؛ ومهارتها الذاتية، قراءة محققة لما تروم من أهداف، ومتفردة بما تقدم من بدائل، وواثقة مما تصل إليه من نتائج..
إن ما نتطلع إليه هو قراءة على غير مثال، وهذا لا يعني أننا نطعن في جميع القراءات والاجتهادات السابقة على اختلاف منظوماتها وتوجهاتها ومرجعياتها؛ بل نرى في هذا التنوع ثراء للفكر الإنساني، ونرى فيه إركاما للمعرفة، ومع ذلك وجدنا أن معظم هذه القراءات المشاريع ظلت محدودة الأثر في الواقع، ولم تتجاوز حدود قرائها على اختلاف فهومهم، وعليه فإن معظم المشاريع التي قامت على مقاربة التراث العربي الإسلامي، وقراءة منجزه المتنوع حوصرت، وضيق على أصحابها، فكانت بمثابة الصيحات في أودية وشعاب غائرة بعيدة، لم يبلغ صداها إلا بعض النخب، ولم يعلم بها إلا بعض الذين يهمهم هذا النوع من المشاريع الكبرى التي تراهن على الوعي بالتراث، ومدى أهميته في حياة الناس، ومدى حظوره في وعيهم ولاوعيهم، ومدى انعكاسه على عملية التنمية والتقدم، ولكن للأسف أن معظم هذه المشاريع تغوفلت بقصد، حتى تلاشى أثرها أو كاد، وهمشت بتهميش أصحابها، وحجمت بتحجيم إسهامهم في البناء الوطني، ولابد من الإشارة إلى أن المشاريع التي انبرى لها هؤلاء المفكرون الإصلاحيون والنهضويون والحداثيون واليساريون الماركسون والليبيراليون العلمانيون والاستشراقيون والتراثيون على اختلاف رؤاهم ومرجعياتهم ظل يتجاذبها الصراع، والخلف بين الأفراد والجماعات، والخصام بين التيارات والمؤسسات، حتى ضاعت منها الغايات، وفقدت منها بعض المحتويات، وكانت تراوح بين التبني غير المؤسس، وغير المتثل، وغير المؤطر، وبين المواجهة القائمة على وعي زائف مزيف، وقد احتدم الصراع بين بعض التيارات والحركات والعصب والسلطات حتى بلغ أوج المواجهة مع بعض أصحاب هذه المشاريع إلى حد الاتهام بالخيانة، والكفر، فكان مصير بعضهم التهميش، ومصير بعضهم الهرب، ومصير النفي بل كان مصير بعضهم الاغتيال والتصفية الجسدية (على سبيل المثال لا الحصر حسين مروة، مهدي عامل، محمد باقر الصدر، فرج فودة وسواهم، هؤلاء ضحايا قراءاتهم وقراءات خصومهم...) وكان لبعض هذه المشاريع والقراءات حظور وأثر واضح في بعض المؤسسات السياسية والأحزاب بحكم انتماء هؤلاء المفكرين حزبيا وسياسيا وأيديولوجيا، كما كان لبعضها حظور في المؤسسات الإعلامية والتعليمية والتربوية والثقافية والدينية ولكنه محدود الأثر، كما كان له بعض الفاعلية، غير أنها فاعلية محدودة الاستجابة، ولم يتح لمعظم هذه المشاريع أن يتخذ منها نماذج اجتهادية لمناقشتها، وتفكيك خطاباتها، ونقد مرجعياتها شكلا وموضوعا ومضمونا، وتجلية إيجابياتها وسلبياتها، ولم تفد منها المؤسسات الرسمية على تعددها وتنوع مهامها، وكان بالإمكان أن تكون هذه المشاريع منطلقا لإنشاء مشاريع مؤسسية تؤسس لفكر نقدي ومعرفي وفلسفي وسياسي بديل كفيل بنشر وعي مستنير ، وعي مدرك لا يؤمن بعطيل منجزات التراث، ولا يؤمن بحجبه وتهميشه، ولكن لا يجعل منه عمدة؛ يلجأ إليه في كل آن لحل مشاكل الراهن وتحدياته، فالتراث يمكن الاستئناس به، ولكن لا يمكن الاعتماد عليه في كل صغيرة وكبيرة، فعلى ما فيه من اجتهاد، وما فيه من حلول للمشاكل، فإن اجتهاده وحلوله كانت موجهة لأناس عاصروه في مختلف حقبه الماضية، ومختلف الدول الغابرة، وكان لتلك الاجتهادات أسيقة أملت العمل بها، وعليه فإننا نرى أن للمحدثين اجتهاداتهم وقدراتهم على إيجاد الحلول المناسبة لمشاكلهم الراهنة غير الشبيهة تمام الشبه مع مشاكل الماضي وملابساته، وكما اجتهد القدماء لحل مشاكل معاصريهم، أجتهد المحدثون لمواجهة التحديات التي اعترضت مسارهم ،وبالتالي فإن دراسة التراث ليست بهدف تحديثه والانغماس فيه، ولكن بهدف التعرف إلى محتوياته والإركام عليه، مع الإشارة إلى أنه يوجد في منجزات الحداثة من علوم ومعارف وتكنولوجيات وقوانين وصنائع وآداب وفنون وفلسفات؛ ما يغني عن التيه في مجاهل الماضي التليد دون جدوى، ولا مبرر للبقاء في جبات أو جبب القدماء، وفي منجزات الحداثة ما يغني عن ذلك ويزيد، وفيها ما هو كفيل بإحداث النقلة النوعية للتقدم في كل مجال، ولا تثريب على من كان مجال اختصاصه البحث في التراث وعلوم الآثار وما يدخل في هذا مجال، وإذا كنا نقول بإنشاء قراءة مغايرة للقراءات السابقة للتراث، وإنشاء مشاريع مغايرة للمشاريع السابقة وأطاريحها الفكرية والفلسفية وآلياتها الإجرائية؛ فإننا على يقين بأن هذا من سنن الحياة والتطور، وهي سنن قائمة على الجديد والتحديث والمغايرة والإضافة والإيجابية، وهنا نشير إلى مسألة جوهرية بأننا لسنا من دعاة القطيعة مع الماضي، والقصد بالماضي هنا التراث، لأن من لا ماضي له لا مستقبل له، ولكننا من دعاة الإركام المعرفي والثقافي والعلمي، ومن ودعاة التحديث والتطوير التقدم، وهذا التوجه الذي نتبناه وندعو له نابع مما تبدى من معاينتنا لما صيغ ويصاغ من نظم عبر سيرورة التاريخ، ( وأقصد بالنظم هنا نظم الحكم من ديمقراطية، وثيوقراطية «دينية»، وتيمراطية «عسكرية»، وأوليڨارشية «المال والأعمال»، ومن معاينتنا لما تم إحداثه في الماضي القريب من صراع بين الأقطاب الاشتراكية والرأسمالية، وتهالك ارتجت له أركان عالمنا المعاصر، وصراع محتدم كان سببا في انهيار دول، وتفكك اتحادات، وتدمير مؤسسات، صراع على خلفية صياغة نظام دولي جديد، ولا تعدم صياغة النظام الدولي الجديد قيامها على قراءات لحقائق الواقع، وما يعتمل فيه من اضطرابات جلية وخفية، وما فيه من مؤهلات، وما يحوي من عوامل، مكنت من التفكير في إنشاء النظام الدولي الجديد، الذي لم تكتمل صياغته بعد بالصورة النهائية المأمولة، لأن تضارب المصالح بين الدول جعل من الحروب وسيلة لتعطيل إنجاز النظام الدولي الجديد، وأمام الممانعة لا يمكن إنجازه بالقوة، على الرغم من ممارسة القهر والجبر والاستبداد والهيمنة والنزاع والتدافع يبقى مشروع هذا النظام الدولي الجديد مشوب بالنقص والنقض، وتبقى الإنسانية تبحث عن نظام مثالي تدير به شؤونها، وفي كل هذا كان وراء صياغة مشروع النظام الدولي الجديد مفكرون في كل حقول العلم والمعرفة إلى جانب المخابر المخصصة المنجزة للدراسات استراتيجية المتطورة، بينما اجتهادات البحاثة العرب اجتهادات فردية دوافعها الشعور بمسؤولية التطوير والتحديث والتقدم.
فإذا كان الأمر كذلك فما المانع من الاجتهاد لإنشاء قراءة جديدة للتراث، قراءة مغايرة للمنجزات السابقة، وقائمة على أسس منظومة فكرية لها آلياتها الإجرائية الكفيلة بإنتاج قراءة نقدية موضوعية جديدة للتراث، وإظهار عوامل السلب، وعوامل الإيجاب فيه، مع تأكيد الشروط التاريخية والأسيقة والظروف التي تحيط بنشأة التراث بتنوعه وبتجاياته ومضمراته، قراءة موضوعية تؤوله، وتنتج المعاني ومعاني المعاني مما يكنز من أفكار، وما يتضمن من رؤى وعبر وخبرات وتجارب ونظم ومعلومات، قراءة ليست غايتها الامتاع والمؤانسة؛ وتزجية أوقات الناس في ما لا ينفعهم، أو يزرع التفتين بينهم، أو يزيف وعيهم، بقدر ما تهدف إلى الإسهام في بناء وعي مستنير، غايته الإضافة النوعية التي يكون لها الأثر الإيجابي في حياة الناس، وترقية معارفهم، وإدراك واقعهم، وتبصرهم بكيفية استثمار معرفتهم بالتراث في تحسين معاشهم، وتوجههم إلى أخذ العبر من التراث باستثمار القدرات الكامنة فيهم، وتدلهم على حقائق الواقع وكشف أنساقه المضمرة، وتفتح الآفاق أمامهم واسعة، ليتطلعوا إلى ما هو أفضل، إن القراءة التي لا تتحول إلى فعل وممارسة في الحياة اليومية فما جدواها...(للمقال تتمة في قادم الأيام بإذن الله)../ نورالدين السد.
المقال منشور في 8 ماي 2022 في صفحة الفيسبوك باسم نورالدين السد، والصورة في جبال المدية أثناء تصوير فيلم الشهيد الرمز امحمد بوڨرة رحمه الله...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى