د. علي خليفة - صورة الحمار في مسرحيات توفيق الحكيم...

لقد ارتبط الحمار في الوجدان الجمعي عند كل الأمم – تقريبًا – بالفكاهة والتندر؛ ولهذا ارتبط الحمار بالأدب الفكاهي عند كثير من الأمم، وكان العرب من أكثر الأمم تصويرًا للحمار في أدبهم الفكاهي؛ ولهذا نرى كثيرًا من النوادر والقصص الطريفة في كتب الأخبار والنوادر في تراثنا العربي للحمار حضور قوي فيها، بل إننا نراه يعامل في بعضها معاملة العاقل، ونرى هذا –على وجه الخصوص –في النوادر التي تجمع بين جحا وحماره.
ولم يكن جحا في تراثنا العربي النموذج الوحيد في الظرفاء الذي ارتبط به حمار ظريف، بل نرى شخصيات طريفة أخرى في تراثنا العربي ارتبط الحمار بها، وجمع بينهم والحمار بعض النوادر والحكايات الطريفة مثل مُزَبِّد وعلي بابا.
وتوفيق الحكيم اهتم بالحمار في بعض كتاباته الطريفة، وأشيع
في فترة سابقة خلال حياته أنه سطا على رواية الكاتب الأسباني خمينيث "بولاتيرو وأنا" التي تحكي عن علاقة شخص بحماره بأسلوب طريف
– في روايته "حمار الحكيم"، وفي كتبه الأخرى التي للحمار حضور طريف فيها، وأنا لا أستبعد قراءة الحكيم هذه الرواية وتأثره بها فيما كتبه من أدب فيه طرافة يتواجد فيه الحمار، ولكن الأمر لا يزيد عن التأثر المباح، وليس السرقة غير المباحة، وأغلب الظن عندي أن الحكيم فيما كتبه من أدب فكاهي يتواجد فيه الحمار –كان تأثره فيه أقوى بما قرأه في التراث العربي من نوادر وقصص طريفة عن الحمار، ويضاف لهذا –ويأتي قبله – مشاهداته للحمار وارتباطه به في طفولته ومراحل عمره الأخرى، لا سيما أنه عاش فترة طويلة من طفولته وشبابه في الريف المصري الذي يتواجد فيه الحمار بكثرة.
وقد كتب كاتبنا الكبير توفيق الحكيم ثلاثة كتب عن الحمار؛ هي كتاب "حماري قال لي"، وهو عبارة عن حوارات سياسية واجتماعية، يتناقش فيها الحكيم مع حماره بأسلوب ساخر يناسب تواجد الحمار كطرف محاور فيه.وكتاب الحكيم الثاني عن الحمار هو كتاب "حمار الحكيم"، وهو رواية طريفة، يصور فيها الراوي علاقته بحمار اشتراه، ونعتقد أن الراوي في هذه الرواية هو توفيق الحكيم؛ لأنه ذكر في كتاب "سجن العمر" أن هذه الرواية لها جانب من الحقيقة، فقد ذكر أنه اشترى حمارًا، ولم يدر ما يفعل به! وتقع له معه مغامرات طريفة في تلك الرواية.
أما كتابه الثالث "الحمير" فقد نشر فيه أربع مسرحيات كان للحمار دور مؤثر فيها، فهو يشارك المؤلف في التأليف في مسرحيتين منها؛ هما مسرحية "الحمار يفكر" ومسرحية "الحمار يؤلف"، ونراه في المسرحيتين الأخريين يدور الحديث عنه فيهما، ويتواجد بصورته التي خلقه الله عليها، وهاتان المسرحيتان هما مسرحية "سوق الحمير" ومسرحية "حصحص الحبّوب".
وفي مسرحية "الحمار يفكر" نرى الحمار يقترح على المؤلف
أن يكمل له مسرحية "شهرزاد" التي تبدو نهايتها –على حد قوله –
غير مقنعة، ويستسلم المؤلف للحمار، ويتركه يكمل هذه المسرحية، وبعد حكيه جزءًا من الأحداث نراها تتجسد في مشهد مسرحي، وفي هذا المشهد نرى شهريار قد هام على وجهه في الصحراء، والتقى بلصين من لصوص "الأربعين حرامي"، ويقول لهما: إنه من حرس شهريار الخاص، وإنه قتله وأخذ سيفه، ويحضر هذان اللصان شهريار لشيخ منسر عصابتهم على أنه من حرس شهريار، ويعجب بشجاعته، ويضمه لعصابة "الأربعين حرامي"، ويقبل شهريار هذا العرض، ثم يعرفه شيخ المنسرأن عصابتهم
لم تعد عصابة بالمعنى المعروف، فقد انضم لها شخص متعلم، وسمى العصابة حزبًا، وأطلق على السرقة جباية، ورأى أن سرقة بعض الناس
–لا سيما من الأثرياء –حق واجب؛ لأنهم لا يزكون، ولأن هذه العصابة تخرج بعض دخلها للفقراء؛ وبهذا يصبح مالها حلالاً، وتنتهي المسرحية بهذا الشكل.
وهكذا نرى أنها مسرحية ضعيفة البناء – إلى حد ما – على ما فيها من تجريب في التمثيل داخل التمثيل، ولا علاقة لشهريار في هذه المسرحية بشخصيته في مسرحية "شهرزاد"، فشهريار المفكر الذي حاول خلع رداء الجسد والمادة، وأراد أن يتخلص من المكان –لا يمكن أن يستسلم هكذا لعصابة تحاول بالسفسطة أن تبرر سرقاتها.
ولا شك أن توفيق الحكيم تأثر في هذه المسرحية ببعض الروايات المذكورة في كتاب "الفرج بعد الشدة"للتنوخي التي فيها نرى لصوصًا متكلمين يبررون عملهم بالسرقة بأقوال فيها سفسطة واضحة، ويستشهدون خلالها ببعض الحجج التي ذكرها الجاحظ على لسان بعض اللصوص في كتاب "اللصوص" المفقود له، وذكر التنوخي في "كتاب الفرج بعد الشدة" بعض روايات منه.
ومن الواضح أيضًا أن الحكيم ينقد الفترة الناصرية في هذه المسرحية نقدًا شديدًا، وهو يرى أن الاشتراكية التي طبقت في مصر في ذلك الوقت كانت مزيفة لا تنصر الفقراء، بل تغشهم، ولم ينشر الحكيم هذه المسرحية التي كتبها في أواخر سنوات عبد الناصر في حياته،
بل نشرها بعد موته هي وباقي مسرحياته عن الحمير التي فيها كلها نقد سياسي شديد للفترة الناصرية التي نقدها الحكيم صراحة في كتابه "عودة الوعي" وفي كتابه الآخر "وثائق في طريق عودة الوعي".
وتتشابه مسرحية "الحمار يؤلف" مع مسرحية "الحماريفكر"، فالمسرحيتان من فصل واحد، وتقومان على مشاركة الحمار للمؤلف في تأليف مسرحية في كل واحدة منهما، وبعد سرد الحمار لجزء من الحدث – يظهر في مشهد تجسيد لهذا الحدث.
وفي مسرحية "الحمار يؤلف" يشارك الحمارالمؤلف في تأليف مسرحية، ويتناقشان في أحداثها، ويتم عرض أجزاء منها، ثم يتم قطعها بتدخل المؤلف والحمار بمناقشة ما يتم تجسيده فيها، وهذا الأسلوب في الكتابة رأيناه في كتابة بعض كبار الكتاب العالميين للمسرح، مثل فريدريش دورينمات في مسرحية "القرين"، وماكس فريش في مسرحية "المترف ومشعلو الحرائق".
والحدث الذي يتم في المسرحية ويشارك الحمار والمؤلف في تأليفه عن مليونير كان عنده شخص يسمى لهلوبة، وكان يحل له كل مشاكله، وتصادف ان أعاره لمليونير آخر، فطمع فيه فأخذه، وقام هذا المليونير بالبحث عن غيره، وبعد عمل مسابقة لاختيار لهلوبة جديد – يختار ذلك المليونير من بين المتقدمين واحدًا منهم، ويطلق عليه لقب لهلوبة أيضًا، ويورط لهلوبة هذا المليونير في كوارث، فهو حين طلب إليه ذلك المليونير البحث عن أغنياء مثله يساعدونه في شراء يخت للفقراء يذهب به لمقهى يتحدث رجال فيه عن الملايين من الأموال، وبعد أن يكشف لهم ذلك المليونير عن شخصيته يكتشف أنهم مأمورو ضرائب، فيجري هو ولهلوبة من المقهى. وهو موقف طريف نراه في بعض المسرحيات والأفلام الكوميدية، يقوم على سوء الفهم، وكذلك حين يطلب المليونير إلى لهلوبة أن يأتيه بقبطان لذلك اليخت المنتظر شراؤه بأموال غيره – يأتيه بشخص أعمى له سوابق غريبة في تدمير السفن ومنارات الموانئ، وتنتهي المسرحية بطرد ذلك المليونير للهلوبة.
وهي نهاية غير قوية لهذه المسرحية التي نرى أيضًا أن بناءها ليس قويًّا، وأن النقد السياسي واضح فيها للفترة الناصرية، والحكيم يريد أن يقول في هذه المسرحية: إن الذين كانوا يحكمون خلالها كانوا يعدون الناس بالنعيم، لكنهم لم يكونوا يفعلون شيئًا سوى تلك الوعود لهم.
وتقع مسرحية "سوق الحمير" في فصل واحد أيضًا، كسائر مسرحيات الحكيم الأربع في كتاب "الحمير"، وتقوم هذه المسرحية على نادرة تنسب لجحا، وفيها يخدع لصان جحا ويسرقان حماره، ويضع أحدهما عنقه في الحبل الذي كان في عنق الحمار، ويسرق اللص الآخر الحمار، ويجري به، ثم يقول اللص الأول لجحا وقد وضع قيد الحمار في عنقه: إنه بالأساس إنسان، ولكن أمه دعت عليه، فتحول لحمار، وقد فك السحر عنه الآن، وعاد إنسانًا، ويتركه جحا يذهب لحاله، وحين يذهب جحا لشراء حمار آخر من السوق –يرى حماره فيه، فيظن أنه قد عاد لعقوق أمه من جديد وتحول حمارًا، فيشتريه.
وفي هذه المسرحية نرى عاطلين لا يجدان أي عمل، فيقترح أحدهما على الآخر أن يقوما بسرقة حمار فلاح بالأسلوب نفسه الذي رأيناه في النادرة السابقة، ويصحب الفلاح أحد هذين العاطلين على أنه حماره، ويخبر الفلاح زوجته بأن هذا الرجل هو حماره، وكان مسحورًا لدعوة أمه عليه، وأنه فُكَّ سحره، وعاد إنسانًا، وتصدقه لسذاجتها، ويفكر الحمار للفلاح في وسائل تزيد أرضه ومحصوله ودخله، ولكن زوجة الفلاح ترفضها؛ لأن قبول الفلاح لها يعني تخليها عن بعض مصاغها، ثم يطلب الفلاح وزوجته إلى ذلك الشخص ألا يعمل عقله لهما، وأن يكتفي بوجوده كحمار يقوم بما كان يقوم به حمارهما، ويوافقهما، ثم يرى ذلك الشخص صاحبه أمام بيت الفلاح ومعه حمار الفلاح، ويخبره أنه وجد عملاً لهما، ويذهبان إليه، ويتركان حمار الفلاح أمام بيته، وحين يرى الفلاح حماره يظن أنه قد عاد حمارًا من جديد، فيسر بهذا كثيرًا هو وزوجته.
ولا شك أن هذه المسرحية تنتقد تلك المجتمعات التي يشيع التخلف والجهل بها، وتستنكر من لا يعملون عقولهم فيها.
ومسرحية "حصحص الحبوب" تقوم على عدة مواقف طريفة مبعثها سوء الفهم، وهي أشبه بالاسكتش الكوميدي، وفي بداية هذه المسرحية نرى ناظر مدرسة أهلية عتيقة مستاءً من قلة عدد التلاميذ في مدرسته، ويقف معه مدرس يعمل في هذه المدرسة، وذلك المدرس يعمل سكرتيرًا أيضًا في تلك المدرسة التي يقوم بالتدريس بها ومعه مدرس آخر، وبداية هذه المسرحية تذكرنا بالفصل الأول لمسرحية "توباز" لمارسيل بانول –التي مَصَّرها بديع خيري ونجيب الريحاني بعنوان "الجنيه المصري"، ثم أُعيد تمثيلها ببطولة فؤاد المهندس بعنوان "السكرتير الفني"–وفي مسرحية "توباز" نرى أيضًا ناظر مدرسة عتيقة يحاول أن يحتال لجلب التلاميذ لمدرسته.
وفي مسرحية "حصحص الحبوب" يدخل رجل من أعيان أهل الريف، ويكلم الناظر وذلك المدرس عن رغبته في تعليم حمار له هو بمكانة الابن، ويظن الناظر والمدرس أن ذلك الريفي يقصد طفلاً غبيًّا كالحمار، ويستمر سوء الفهم فترة يؤدي للفكاهة، ثم يكتشف الناظر والمدرس أن ذلك الوجيه الريفي يتكلم عن حمار حقيقي، ويقبلان دخوله هذه المدرسة، ويبيعانه بعد ذلك، ثم يدعيان للوجيه الريفي أن حماره قد تعلم وصار إنسانًا، وأنه هو مدير مصنع للعلف والمبيدات الحشرية، وأن ذلك المصنع مجاور للمدرسة، ويذهب ذلك الوجيه الريفي لذلك المدير في مصنعه، ويعامله على أنه حماره الذي صار إنسانًا، ولا يفهم مقصوده ذلك المدير في البداية، ويؤدي سوء الفهم هنا للفكاهة، وحين يعرف المدير مقصده يطرده هو والمدرس والناظر من مصنعه.
وهي نهاية ضعيفة أيضًا تتشابه مع ضعف النهايات في المسرحيات السابقةبكتاب "الحمير"، وتدل أيضًا على أن توفيق الحكيم لم يعتن كثيرًا بهذه المسرحيات في بنائها وإعدادها، خاصة في نهاياتها.
وهذه المسرحيات الأربع من أواخر ما ألف توفيق الحكيم من مسرحيات –إن لم تكن آخر ما ألف فعلاً–وفيها يعود الحكيم للعامية في ثلاث مسرحيات منها بعد أن كان مبتعدًا عنها حتى في مسرحياته الاجتماعية الكوميدية، كمسرحية "العش الهادئ" ومسرحية "الأيدي الناعمة"، وذلك بعد عودته من فرنسا في رحلته لدراسة القانون والأدب بها، وكان يكتب حوار مسرحياته بعد عودته من رحلته تلك لفرنسا بالفصحى؛ ليكون للعرب نصوص مسرحية تكتب باللغة العربية الفصحى تدرس في المدارس والجامعات، كما هو شأن المسرحيات في أوروبا.
وأيضًا رأينا الحكيم في حواره في بعض هذه المسرحيات يستخدم بعض الألفاظ العامية الدارجة التي دعا إلى عدم استخدامها، خلال حديثه عن اللغة الثالثة في تذييله في مسرحية "الصفقة" ومسرحية "الورطة"، مثل لفظة "يا الدلعدي"، وقد استخدم الحكيم هذه الألفاظ هنا؛ لما لها من شحنة كوميدية في موضعها، وقد أصاب الحكيم –في رأيي–في استخدامها، فالكوميديا تستلزم استخدام الألفاظ التي تأتي بالفكاهة المطلوبة في المواقف التي تستدعيها.
والملحوظة الأخيرة التي أذكرها على هذه المسرحيات أن الحكيم فيها يتناسى القفزات التي وصل إليها أسلوبه في الكتابة للمسرح بما كتبه من مسرح ذهني ومسرح لا معقول، ويعود للأسلوب الذي بدأ به الكتابة في مسرحياته الأولى مثل أوبريت "علي بابا" –تلك التي كانت تقوم على المواقف المشحونة بالمغالطات، وتكثر فيها الحركة، والمواقف التي تثير الفكاهة، وإن كانت غير مقنعة أحيانًا.
وربما قصد توفيق الحكيم بهذا أن يتحرر من كل تلك القفزات التي قفزها في الكتابة للمسرح، ويعود لأسلوبه القديم الذي يثير النظارة، ويضيف إليه ما اكتسبه من قدرة عالية على إدارة الحوار في رشاقة، وما يمكن أن تثيره تلك المسرحيات من نقد سياسي واضح.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى