مأمون أحمد مصطفى - محاذير الكتابة في المواقع والمنتديات

حين تتقدم نحو موقع أو منتدى محاولا التسجيل كعضو، تنبه بضرورة قراءة شروط المنتدى أو الموقع، ويترك لك مربعا صغيرا تضع فيه علامة صغيرة تشير من خلالها إلى قبول أو رفض الشروط، ثم يكون من حقك إذا وافقت، الدخول إلى المنتديات والمواقع للمشاركة.

ومن الطبيعي أن الرفض يعني بقاءك بعيدا عن كل صلة توصلك إلى القارئ أو المثقف الذي تود الوصول إليه من خلال تلك النوافذ.

وهذا، وإن شكل هاجسا للبعض، فإنه يعتبر حقا للبعض الآخر، وما بين الهاجس والحق، تقع السلطة المتخفية بالشروط التي برزت فور طلبك التسجيل، تلك السلطة التي تدفعك مرغما، مستسلما للرضوخ بدائرة الإجابة الأولى: "أوافق، لا أوافق"، أي بمعنى أكثر دقة وتبيان: "نعم" أو "لا".

وليس على الأرض استبداد يفوق تلخيص الإجابة قسرا وعنوة من موقع سلطوي بـ"نعم" أو "لا".

فإذا ما تجاوزنا هذا الأمر، وطبعا تجاوز المكره الذي لا يملك إلا التجاوز حتى يكون بإمكانه التواصل مع القارئ والمثقف العربي، فإننا سنواجه بمفهوم القوانين المسنونة، والأخلاقيات المرسومة، والضوابط المقررة.

وأنا لا أعترض هنا على فكرة القانون أو الأخلاق أو الضوابط، وإنما أعترض على طريقة التعارف والتفاهم والإدراك التي تلزم الكاتب على انتهاجها وفق مفاهيم تفسيرية نابعة من شخوص أصحاب المواقع وفهمهم الخاص لمجموعة السلوكيات التي وضعت كحد خط حديدي لا يمكن الالتفاف عنه أو التراجع.

وهذه مسألة جد خطيرة، لأن الموقع بيده أن يبقي العمل المنشور، وبيده حذفه، بيده إثباته كما أراده الكاتب وبيده تعديله، وكذلك بيده إبقاء المنتسب أو إلغاء انتسابه.

ومن هنا تحديدا تظهر الخطورة، لأن ما تراه إدارة الموقع يعتبر ملزما وفق رؤيتهم وفهمهم وتفسيرهم لمعنى الضوابط والقوانين والأخلاق، ووفق الثقافة التي نشأوا وتربوا عليها، ووفق معايير خبروها أو استنبطوها من مخزون الفهم الخاص بهم وبتكوينهم العقلي والنفسي.

ولو أخذنا مفهوم "الأخلاق" الذي يدعون الكاتب للالتزام به، فإنه مفهوم يعتبر من الناحية الظاهرية واضح بيّن، لا لبس فيه، ولا غشاوة عليه، لأن "الأخلاق" كمنهج عام في الوعي واللاوعي، يعتبر بديهية لا يمكن التظاهر بعدم معرفتها.

ولكن، هل هذا صحيح؟

بالطبع لا، لأن مفهوم "الأخلاق" يتباين ويختلف من رؤيا إلى رؤيا، ومن عقل إلى عقل، ومن إدراك إلى إدراك.

فالأخلاق التي أتى بها القرآن الكريم والسنة النبوية، وما تعارف عليه السلف الصالح، وعلماء الأمة الأنقياء الأتقياء، لا جدل فيها ولا جدال، أما الأخلاق التي أتت بفعل التطورات الأممية والمجتمعية التي رافقت انصهار الحضارات وذوبانها ببعضها بتأثير التقارب الأممي عبر أجيال مختلفة، هذه الأخلاق الجديدة، يمكن النظر فيها والاختلاف عليها وعلى مؤداها، لأنها ليست وحيا أو دينا لا يمكن الاقتراب أو المس به.

ولكنها يمكن أن تتحول إلى نوع من المحرمات التي لا يمكن مسها، إذا ما تشكل بوعينا بطريقة منظمة عبر الإعلام، وعبر الاقتصاد، وعبر السلطة، بأنها قواعد تفكير حديث، يدخل منطق الأخلاق الواجب احترامها وعدم المس بها.

وقبل أن أنتقل إلى مثل حي يوضح ما أرمي إليه، أود أن أضع قاعدة يمكن الانطلاق من خلالها لتفسير منطق "الأخلاق الجديدة"، ومنطق التفكير والوعي المتكون في نفوسنا عبر ممرات خاصة متدرجة تأخذ من الوقت أسلوبا قادرا على تثبيت ما هو جديد في العقول بمساندة عوامل أخرى، وأهمها عامل القوة، بكل ما يرافقه من أشكال وأنماط وأساليب.

فالقوة هي مركز الجذب، ومركز القدرة، ومركز صياغة الأحداث والمفاهيم والأخلاق، لأنها القادرة على كبح ولجم كل ما يعترض طريقها، إما بالتذويب والتلاشي بأسلوب القوة الضاربة، وإما بأسلوب منع شيء مقابل ظهور شيء آخر.

ولنأخذ مثلا على ذلك، هو أقرب إلى الإنسان من كف يده، وهو الوضع العربي القائم، وهو وضع لا شك بأنه وصل إلى أقصى درجات الانحطاط والتردي، بل ووصل إلى منطقة من التشابك والتعقيد، أضحى الخروج منه يتطلب معجزة خارقة تأتي من السماء دون أن تكون لها أي علاقة بأهل الأرض.

في هذا الوضع نبتت وتكونت مجموعة من الأخلاقيات الجديدة، وهي كثيرة إلى حد أنه لا يمكن إحصاؤها، ولكني سأطرح بعضها للتدليل فقط، ولأقوم بربطها بمفهوم القوة الذي مكنها وجعلها مبادئ وأصولا لا يمكن التفريط بها أو التنازل عنها.

وأول تلك الأخلاقيات، عدم المس أو التشهير بشخص أو جماعة محددة، وكذلك عدم استخدام الاسم أثناء الكتابة عن شخص بعينه.

وقد أخذ هذا الفهم اسم "الأخلاق الصحفية"، دون أن يعطي حرمان الكاتب من حقه في إظهار الحق، وتوضيح أعمال الشخص المحمي من خلال أخلاق الصحافة أي اسم مقابل.

لقد ورثنا ومنذ أقدم الأزمان وأبعدها أن اللغات تحمل تعابير وصفات وألفاظا تحدد وبدقة متناهية سلوكيات الناس وتفرزها في بوتقات مختلفة، فمثلا الكذب صفة ملازمة للكذاب، والنفاق صفة ملازمة للمنافق، والخسيس صفة ملازمة للخسة، وهكذا دواليك.

لكن هذه الألفاظ أصبحت الآن فضفاضة المعنى، أو بتعبير أدق هلامية، لا تستطيع الالتصاق بمن يمثلها، فإذا ما وقف رئيس دولة ولنقل إنه "س"-وأنا أقول "س" خوفا من حذف مقالتي، أو تصحيحها من قبل أصحاب سلطة المواقع والمنتديات- على منبر، عبر شاشات العالم ومارس الكذب الفاضح والمكشوف، فإنه يحرم علينا بفعل الأخلاقيات الجديدة أن نقف لنسميه بالكذاب، لأنه ومن موقع سلطته يستطيع مقاضاة الموقع أو إغلاقه، وقوته طبعا تفوق قوة الموقع وإدارته، ومن هنا يتبن لنا بأن القانون دخل إلى الموقع من خلال قوة من يملك بقاءه أو إعدامه، وليس من قبيل الاقتناع بروح الأخلاق الجديدة.

ولكن عيب الموقع يكمن حين نراه يحاول الوصول بالقارئ والكاتب إلى ضرورة الاقتناع بأن هذه القواعد هي قواعد يجب الاعتراف بصحتها والالتزام بها.

وسؤالنا إلى جهابذة المواقع: ماذا نسمي الكذاب؟ وماذا نسمي العاهر؟ إذا كانت هناك مفردات جديدة يمكننا التعامل معها كبديل لا ينتقص من صفاتها المكونة لها، فأسعفونا بها!

مثل آخر، نستطيع أن نراه في كل يوم، وهو عالم الفن والفنانين، العالم الغاص بالفحش والرذيلة والعهر والانفلات من أقل ما يمكن أن يسمى بـ"الأخلاق".

ذلك العالم الذي يقوده الآن عالم القوة والنفوذ، والذي يستبسل في نشر الفواحش، وتحطيم الأخلاق الإسلامية العربية، وتحويل مسارات المجتمع إلى مجتمع يكون مفاهيم جديدة عن الحرية والمرأة والأخلاق والعقائد، العالم الذي تخصص بعض من نجومه في التعرض للدين الإسلامي والنيل منه بطريقة السخرية، بل وتمادى إلى اعتباره دين الإرهاب والقتل والتدمير، ودين التخلف والتقوقع والانكماش!

هؤلاء بإمكانهم أن يقولوا ما شاؤوا، دون خوف أو وجل، مع أنهم في ميزان الأخلاق الحقة، لا يساوون سوى أنهم حشرات تأبى الحشرات عن الاتصاف بصفاتها.

أما الكاتب، فعليه أن يتوخى الحذر، ويأخذ العام ويترك الخاص، في أن الخاص منهم يأخذ العام والخاص في المجتمع والتاريخ.

ولست أعرف، حين يأتي مشهد تلتحم فيه الشفاه، وتشابك الأفخاذ، وتضج الشاشة بالغنج والتأوهات، ماذا علينا أن نسمي من قام بالمشهد؟ مع العلم أن اللغة أعطتهم ألفاظا واضحة، كالعاهر والعاهرة، والزاني والزانية، ولكن هل يسمح للكاتب بأن يقف لهم مثل هذه الألفاظ، في الوقت الذي يسمح لهم باختراق كل القيم والأخلاق والعفة والطهارة على مرأى من الملايين، وتحت رعاية القوة المسيطرة، ولكن المواقع والمنتديات، تملك كغيرها حجة المقهور بأنها لا تود النزول إلى الدرك الذي نزلوا هم إليه، وهي حجة مردودة، فالتعفف عن هؤلاء، لا يعني أبدا عدم التشابه بهم، بل يعني على أقل تقدير، عدم القدرة على صياغة نقد واضح كاشف لهم ولأفكارهم وسلوكياتهم.

نأتي بعدها إلى مفهوم "الدين"، الذي نعاني من تثبيته بصورة تلح علينا في مراجعة المفاهيم التي أدت أحيانا إلى قصور في استيعاب دور الدين في تشكيل العقل المسلم.

وأنا أود أن أؤكد ومنذ البداية، بأن مواطن النص القاطع الثابت، لا يمكن إعمال الفكر أو الاجتهاد أو التحليل بمواطنها، وكذلك الشرع الذي تناقلناه عن السلف ضمن قاعدة: "شرع من قبلنا شرع لنا"، وإنما أردت الدخول بمعنى نفسي يبدو ظاهره خيرا وصوابا، دون الانتباه إلى باطن توابعه وملحقاته وإفرازاته النفسية.

وأردت أن أقف على مفهوم تحديد النقد الموجه إلى أفكار وشخصيات أخذت من الدين منهجا لتوجهها في الحياة، دون الدخول بنواياهم وقلوبهم للحكم على ما يبطنون أو يخفون في الصدور، لأن النيات متروكة لخالقها العالم بها علم الخبير وعلم اليقين، وإنما أردت نقد الظاهر الحاصل الواضح، حتى تتجلى الأخطاء وتنكشف، ليتم البناء على أساس سليم وواع لحركة النمو والبناء التي يجب أن يتحلى المسلم بها، دون خوف أو وجل.

ولا أظن -وهذا اعتقاد خاص نشأت عليه منذ الطفولة، وسبب لي الكثير من المشاكل- أن هناك إنسانا يعلو فوق النقد، مهما بلغ علمه وعظم شأنه، لأنه في النهاية إنسان، يخضع للخروج من العصمة، والانزياح عن الكمال.

ولا يشترط بالناقد أن يكون بمنزلة المنقود من العلم، ولا بغزارة إنتاجه وسيل شهرته، فقد يأتي النقد حول مسألة صغيرة من إنسان بسيط، تنبه عالم، أو تلفت نظر أمة، وفي التاريخ البشري والإسلامي من الشواهد على ذلك كثير الكثير.

وإذا ما عدنا إلى الإشارة التي أشرت إليها، وهو الدخول بمعنى نفسي ظاهره صواب وخير، ولكن توابع باطنه تجر وبالا على الأمة، وعلى الجيل الناشئ.

فالمثل الحي على ذلك مجموعة "الدعاة" التي خرجت منذ زمن قريب إلى شاشات الرائي لتوجه الدعوة من خلاله إلى ملايين المسلمين على امتداد الكرة الأرضية، -وهنا أيضا تلزمنا القوانين المبتكرة من روح العصر أن نتجنب ذكر الأسماء حتى لا تحذف مقالتنا أو تعدل- مع العلم بأن ذكر الأشخاص هنا يعتبر واجبا أدبيا وأخلاقيا وشرعيا، لأن النقد الموجه إليهم، إنما هو لمصلحة الدين أولا، ولمصلحة الأمة ثانيا، ولكن تجاوزا لما نؤمن به فإننا سنكتفي بتوجيه الفكرة العامة إلى مسار لا نعتقد بأنه يغني عن الفكرة الخاصة، ولكنه المتاح من قانون العصر الأخلاقي المسلط على أناملنا الضاربة على لوحة المفاتيح.

وأنا لا أتدخل هنا بالنوايا كما أشرت سابقا، ولكني أستطيع أن أزعم بأن جلهم لم يستطيعوا التفريق بين واجبهم الدعوى المنقول حرفيا من الكتب التي تختص بالاجتهاد وأصول العقيدة، وبين انطلاقتهم المحمومة في نشر معلومات غير مثبتة شرعا لتصل إلى مرحلة المتيقن منه، بل وزادوا على ذلك بأنهم تنطحوا لأمور تفوق قدراتهم العقلية وإمكاناتهم العلمية، بذريعة الواجب والمفروض، ووصل الأمر ببعضهم أن يعطل رؤية "الشيخ يوسف القرضاوي" لمشكلة معاصرة تمس أصول العقائد ومنهج الفتوى.

وهنا يأتي ما كنت أود أن أبينه وأشرحه، فقانون احترام هؤلاء الناس المفروض علينا بعدم ذكر اسمهم ومغالطاتهم، نابع من رؤية دينية، أساسها هالة القدسية التي يلقيها عليهم المجتمع، بسبب صلتهم بالدين، والعمل بساحاته.

وهذا ما شجعهم وأمدهم بطاقة التمادي إلى ذكر وقائع تاريخية، وأحاديث نبوية، جزء منها ضعيف، وجزء منها لا وجود له على الإطلاق بذاكرة التاريخ والعقيدة.

ومن هنا تحديدا، ندخل للأمر الثاني، المتصل بالهالة المرفوعة على علماء المسلمين بصورة أكبر من الهالة الموصوفة للدعاة.

وهذا قادم من ثقافة غذينا بها منذ الطفولة، وهي أن العالم لا يتشابه مع الناس، بل هو صاحب خاصية خاصة، لذلك كنا نقبل -وما نزال- الكثير من المغالطات التي يأتي بها علماء باعوا أنفسهم وعلمهم لحاكم أو سلطان.

ولو تيقنت من أن مقالتي لن تحذف، لذكرت كمّا من الأسماء التي حرفت الكلم عن مواضعه ابتغاء دينار أو منصب، ولكنه الاستبداد المتزيي بزي العقلانية والأخلاقيات الجديدة الذي يقف حائلا بيني وبين وضعهم على محك الحق الثابت ثبوت الأزل.

أما هم وبفعل التأثير الجديد لحرية الفكر والتعبير، فإنهم لا يتوانون عن تفسير آيات القرآن الكريم تفسيرا يتماشى مع الصلح والسلام المعقود بين الأنظمة الحاكمة وبين الصهاينة، وليس عليهم حرج، بفعل الهالة القدسية التي يملكون أن يلتقوا بأحبار الكيان الصهيوني على مرأى ومسمع العالم الإسلامي من أقصاه إلى أدناه.

وليس عليهم حرج، لأنهم مستترين خلف قوة الحاكم والسلطان، أن ينشروا سموم فكرهم المزيف المزور بين الشباب المسلم بالطريقة التي يرتأون ويشتهون.

أما نحن فعلينا التزام الأخلاق، وعدم الهبوط إلى الدرك الذي هبطوا إليه، والحقيقة التي لا أعلمها، ولا أستطيع موازنتها مع هذه الحجة الهزيلة: لماذا كان القرآن الكريم يخاطب الكفار خطاب الكشف والتبيان، فالمنافقين لهم سورة تخصهم وتكشف ألاعيبهم وسواد نواياهم، والحكم بالظاهر لنا نحن الخلق مباح، لأن الظاهر يكشف ما في القلب من نوايا، ولأن العمل يدل على منهجية العامل، فلا بأس من مواجهتم بأسمائهم وأعمالهم، إن كنا حقا نملك قوة الحق، ووضوح النية.

وللدين أيضا بعد آخر في طبيعة تكوين العلاقة بين الكاتب والموقع، وهي علاقة مبنية على السذاجة أكثر منها على الوعي القادر على التفريق بين أصناف الكتابة الموزعة بين الأدب والفكر بكل مجالاتها.

ويكفي أن يكتب شخص ما قصيدة في مدح سيد المرسلين علية الصلاة والسلام لتأخذ طريقها إلى النشر، دون النظر في فنون الشعر ومتانته وقوته وتأثيره، وبالمقابل يمكن تأجيل أو وقف قصيدة تناقش عاطفة آدمية بكل مقومات الاحتراف والفن المتمكن.

وهذا ناتج عن شعور نفسي بأن القصيدة الأولى تخدم قضية الإسلام، والثانية تخدم قضية العاطفة، فلا بأس من الأخذ بهذه وترك تلك.

أضف إلى كل ذلك الجهل الحقيقي لوظيفة الأدب وفنونه، وهو جهل ناتج عن شعور نفسي مركب، يتصل بمحاولة توظيف الأدب بقالب دعوي مكشوف، من أجل خدمة الإسلام، دون النظر إلى الركاكة التي تأتي من محاولة المزج هذه بنتائج تجعل الإبداع الأدبي يتوقف عن النمو والانطلاق.

ومثل ذلك القصة القصيرة، أو الرواية، فكل منهما له مقوماته وقواعده التي تأتي من المحسوس واللامحسوس، ومن التركيب اللفظي الحاوي لتقلبات النفس والحدث، في سطور تمتاز بخصوصية التركيب والتنضيد الواعي وغير الواعي، لينتج العمل الأدبي القادر على التأثير والتحريك والاستنهاض، ولكن بعيدا -وهذا شرط ملازم لما ندعي- عن توجيه اللفظ والمحتوى إلى زاوية الوعظ والإرشاد، وبعيدا عن تضمين القصة بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، لأنهما يختلفان تمام الاختلاف في الصياغة وطريقة التوظيف.

ولكن من الممكن توجيه القصة والرواية إلى موضوع إنساني، يناقش القضايا التي تخص الإنسان المسلم وغير المسلم، بأسلوب رفيع، دون التطرق إلى ترهات الانحراف والتحريف، ودون الوقوع بمصيدة الجنس الذي يعتمده الكتاب العرب من أجل إظهار قدرتهم على الوصف والتحلل من أخلاق الفطرة.

وجولة سريعة في الأدب الإسلامي المطروح على الساحة، تبين الفرق الهائل بين الأديب الذي انتهج طريق الأدب لتوظيف قضايا إنسانية، وبين أديب لوى عنق العمل نحو الوعظ والإرشاد.

وهذا لا يعني خلو الساحة من بعض الأدباء المسلمين الذين استطاعوا التفريق بين خاصية الوعظ وأسلوبها، وخاصية الأدب وأسلوبه، فمثلا الشيخ "علي الطنطاوي" ممن أدرك ذلك، فبرع بأسلوبه الأدبي الشيق الذي فاق الكثير من الكتاب الآخرين، وكذلك "عبد الحميد جودة السحار"، وكاتب رواية "القابضون على الجمر" الذي استطاع وببراعة مميزة أن ينقل عذاب "الإخوان" في سجون ناصر بطريقة تصل إلى حد الشعور بالعذاب والمهانة والألم من خلال السطور، وكذلك الرواية التي ترجمها الشيخ "محمد سعيد رمضان البوطي" عن الكردية "ممو زين" تتميز بأسلوب أدبي شائق، وإن لم تصل أسلوب الأعمال السابقة.

والخلط الحاصل في المفاهيم أدى إلى تراجع الأدب الإسلامي وضموره، وفتح المجال أمام أدباء الجهة الأخرى ليصولوا ويجولوا بالطريقة التي يحبون، وبالفكرة التي يشتهون، دون غمطهم حقهم بالإبداع في العمل.

على المواقع أن تتنبه لهذه الحقيقة، وعليها أن تأخذ العمل المبدع من أي جهة كانت، طالما هو لم يتعد قواعد الشرع، كما يجب عليها أن ترد العمل المخلص النية، أو تضعه في زاوية تخص من لم يرتق عملهم إلى النص الإبداعي، حتى لو كان فكرته سامية، فالفكرة لا تكفي لإنجاح العمل الأدبي، بل الترابط بين الفكرة وبين الإبداع التقني للأسلوب هو الذي يستطيع أن يخدم القضايا التي نتمنى خدمتها من خلال الأدب.

ولنأخذ مثلا ناضجا في هذا المجال، وهو ديوان "الشيخ يوسف القرضاوي"، وأعمال شاعر آخر يقف في صف مختلف تماما عن صف الشيخ، وهو "نزار قباني".

وهنا أحب أن أسجل، بأني لا أقابل رجلا برجل، ولا قدرا بقدر، ولا علما بعلم. وإنما شعرا بشعر، وقدرة صياغة بقدرة صياغة.

فـ"نزار" ولد وولدت معه شاعريته، فنما وأبدع في مجال القصيدة، إلى حد أصبح فيه معروفا للعالم والجاهل، وإلى مرتبة جعلت الألسن تلهج بشعره عن قصد وغير قصد، وهذا نابع من مقدرته الوليدة في صياغة القصيدة بأسلوب سلس يصل إلى مشاعر وعواطف الناس بسهولة لا يمكن إدراكها إلا من شاعر مصبوغة ذاته بشاعرية تتوافق مع عواطفه وانفعالاته، التي بدورها عواطف وانفعالات الناس.

لكنه نحا منحى الشاعر الموصوف في القرآن، واختار الضلالة الشعرية، على توظيف قدراته في ميادين السياسة والعدالة الاجتماعية، التي تطرق إليها أحيانا وكان مبدعا إلى حد جعله بين الناس الشاعر المتحدث بلسانهم وعذابهم وطموحاتهم، بنفس الطريقة التي نحاها نحو الجانب الآخر من شعره.

ولكن "الشيخ القرضاوي"، حين سبك ديوانه، كان أقرب إلى الصنعة والنظم من الشاعر، وحتى قصيدته النونية المطولة عن العذاب الذي حاول وصفه، لم تصل بالقارئ إلى حد الشعور بالألم والعذاب الذي ذاقه أو رآه.

وهذا ناتج طبيعي، لأن الشيخ لم يكن يوما من الأيام شاعرا، ولم يدّع هو ذلك على حد علمي، وإنما هي لحظات شَعَرَ فيها بأنه يود أن يقول شيئا يصف به ما حل به وما شاهد، فقاله، ولكنه لم يصل بالقول إلى حد الطبيعة الفياضة التي تسيل من القلب والوجدان إلى قلب ووجدان القارئ.

والخطأ الذي يجب تركه هنا، أننا لا يمكن أن ندير الحوار عن شاعرية نزار، وصنعة الشعر عند الشيخ، ولكننا نستطيع أن نقفز إلى "عبد الرحيم محمود" الذي فاض شعره من قلبه إلى قلوب الناس، وهو شعر يمكن توظيفه للرسالة الإسلامية الدعوية، لأنه مزج بين الشاعرية وبين الواجب الشرعي والوطني والإنساني من خلال قصائده التي توجتها قصيدته "الشهيد" لتكون علامة مميزة لكل لسان في الوطن الإسلامي.

ومن هنا يمكننا أن نقول وبجرأة، بأن "عبد الرحيم محمود" شاعر، متمكن من أدواته، مسترسل في قريحته، فكان له ما أراد من الشعر النزير الذي تركه، وكان لنا كمسلمين ما أردنا من قصائده الملتزمة والتي تُغْنينا عن نزار وما مَثَّلَ من انحطاط في الفكرة.

ويكفينا من الشيخ علمه، الذي نغبطه علية، ونُجِلُّهُ من أجله، ونتمنى على الله أن يمن على الأمة بمثله وبمن هو أعلم وأقدر منه.

نأتي بعد ذلك إلى محذور آخر، وهو "اللفظ"، وهي مشكلة عويصة، فيها من وجهات النظر ما يمكن قبوله وما يمكن رده، والقبول والرد لا يتأتيان إلا من خلال الفهم للموضوع من زاوية تختلف عن الزاوية الأخرى.

فالبعض من الكُتاب يرى أحيانا أنه مضطر لانتقاء لفظ يراه الآخر غير مناسب، وغير لائق للتداول على صفحات يقرأها الناس، ويكون في هذه الحالة من حق الموقع أن يحذف أو يعدل، لأن الشروط تمنحه هذا الحق.

ولكن، أين حق الكاتب هنا؟ وأين الفكرة التي أراد إيصالها للقارئ بصلف اللفظ المحمول على النص المكتوب والمحمول بدوره على الموضوع؟

فاللغة العربية تحوي من الألفاظ التي يراها البعض نابية كمّا كبيرا، فماذا علينا أن نفعل بها؟ نتركها للخمول والنسيان، أم نحييها إذا ما اقتضى النص وجودها دون غيرها؟

أنا أميل إلى إحيائها بضرورة النص الملزم لوجودها، ولا أرى غضاضة في ذلك، لأنها وجدت لتستخدم، لضرورة يراها الكاتب ويقدرها، على ألا تصبح تلك الألفاظ نهجا قائما في كتاباته وسيرته.

ولا أرى وجها لحق في تقييد الكاتب وإجباره على انتقاء الألفاظ التي يود الموقع أن يراها على صفحاته، وكما أشرت ببداية مقالتي، بأنه لا يحق للموقع استخدام سلطته ليمارس إرهابا على فكرة أو لفظ هما أصلا جزء من تركيبة الموضوع الذي تقتضيه ضرورة الفكرة.

وقد واجهت هذه المشكلة أولئك الذين اشتغلوا بجمع التراث الشعبي مواجهة قاسية، جعلتهم يقفون حيارى بين اتجاهين: هل نحذف الأمثال الشعبية التي تحوي ألفاظا لا يقبلها البعض؟ أم نثبتها كما هي أمانة للنقل؟

وأخيرا اجتمعوا على إثباتها كما هي بصورتها الشعبية متحرين الأمانة بالنقل، ومنهم من أشار إلى فحواها ومدلولها من وجهة نظره، ومنهم من اكتفى بالنقل وترك الأمور على ما هي عليه.

ولو لم يصلوا إلى هذه النتيجة، لضاع إرث ضخم من تراث الأمم الشعبي إلى غير عودة.

وفي الختام أقول: إن هذه بعض المحاذير وليس كلها، وقد يكتب لي عودة إلى ذات الموضوع، فهو أمر متروك لتيسير الله جل شأنه، ولكني أود أن أدفع بملاحظة مفادها، أن ما كتبت ينسحب على الصحف والمجلات ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة، ولا يقف عند حدود المواقع والمنتديات.

ولست سوى إنسان، فإن أصبت فمن الله وله والحمد، وإن أخطأت فمن نفسي الخاطئة.

مأمون أحمد مصطفى

فلسطين- مخيم طول كرم

النرويج- 23-11-2006

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى