(مصطفى الحاج حسين).
(جدّي)، خلال سنة واحدة، دفع عن أبي (خمسمائة) ليرة، (ليعفيه) من (العسكريّة).. ثمّ وبذات السّنة،صرف على زواجه، من أمّي، (خمسمائة) ليرة ثانيّة.
(جدّي)، في منتهى القسوة عندما يغضب، يريد ويطلب من أبي،وجميع أفراد إسرته، أن يتمسّكوا بالأصول، وأن لا يخرجوا عنها، وإلّا سيلقون منه، ما لا يتوقّعوه.. وهذا ما حدث بالفعل، مع أبي.
كان أبي.. منصرفاَ من شغله، عند المساء.. فوجد (جدًي) وعدد من رجال الحارة يجلسون، ويسندون ظهورهم إلى الحائط، عند الزّواية، سلّم والدي، على جميع الجالسين، وتقّدّم من (جدّي)، أخذ يده، وقبّلها ثلاث مرات، وفي كلّ مرّة، كان يضع يد (جدّي)، بعد تقبيلها على رأسه، (وجدْي)، يقول له بسعادة بالغة:
- الله يرضى عليك، يا ابني (محمد).
ثم، وقف، أبي يتأمّل الرّجال العجائز، أصحاب (جدّي) وجيرانه.. وأراد أن يمازح أباه، ليتباهى، أمام هذا الجمع، من الحضور، فقد كان قابضاً مبلغاً من المال، لا بأس به، أجرته، وهي ربما تكون المرّة الأولى، التي يقبض فيها أبي أجرته بيده.. إذ عادة ما كان ابن عمّه (أبو حسن)، يعطيها (لجدّي).. لكنّه، في هذه المرّة، تكرّم على أبي، وأعطاه، الأجرة، بيده شخصيّاً.. وكان مقدارها (خمسمائة ليرة) ، حصيلة عمل (مائة) يوم، من شغل أبي، لأنّ أجرته في اليوم الواحد، كانت (خمس) ليرات بالكامل.. وكان (جدّي) يمنح أبي
(خمس) ليرات، في الإسبوع، تمثّل أجرة يوم واحد.
وكان على أبي، أن ينفق على نفسه وعلى أمّي وأخي (سامي) الذي سبقني، إلى هذه الحياة، أنا بقي لي سنتين ونصف تقريبا، لتنجبني أمّي، سيدفع من هذه (الخمس) ليرات، ثمن دخْان، ومصاريف له، ولتصليح درّاجته، ومتطلّباتها، التي لا تنته، وعلى ما يلزم، لأمّي من أشياء كالألبسة،و(والمكياجات)والعطورات
، وغيرها.. كأجّرة (حمام) السّوق مثلاً، إذ كان لا بدّ لها، أن تذهب إلى (حمّام) السّوق، ولو لمرّة واحدة، في الإسبوع.. إلى جانب بعض النّفقات، على رضيعها مثل (البودرة) و (الكالونيا).
قبض أبي أجرته، مبلغ (خمسمائة) ليرة، وكانت عبارة عن (خمس) قطع ورقيّة، من فئة (المائة) ليرة، وبعد إنصرافه من عمله، وهو في طريقه، إلى الدّار، عرج على السّوق الكبير، المكتظ بالمحلّات والمتبضّعين، والذي يحتوي، على جميع الأصناف والطّلبات، من مواد غذائيّة، وموالح، وحبوب، وسكر وشايّ، وبن، وزيوت، وسمن، إلى كافة أنواع اللحوم، والأسماك، والدّجاج.. وغيرها، من
الأحذيّة، والألبسة، وصولاً إلى المنظّفات، والمكياجات، والسّاعات المتنوعة، إلى الفضّة والذّهب.
كان أبي، بحاجة إلى حزام جلدي لخصره، (قشاط).. فمرّ على محل، يحتوي على طلبه.. انتقى أبي (قشاطاً) يناسبه.. وحين سأل عن ثمنه.. وقال له البائع:
- ثمنه نصف ليرة.
أخرج له، ورقة من فئة (المائة) ليرة، وأعطاه.. ليردّ له البائع البقيّة، بعد أن يقطع من(المئة) ليرة ثمن (القشاط).
ولأنّ أبي، يريد أن يتباهى، أمام
الحاضرين، من الجيران، أهل حارته، عجائز، ومسنّين، ورجال، شباب، وفتّية، وأطفال، من كل الأعمار.. كانوا متواجدين، قبيل غروب الشّمس بدقائق قليلة.. مدّ أبي يده، إلى جيب شرواله، وأخرج ما يحمل من نقود، وقدّمها بزهو، إلى (جدّي)، وهو يقول:
- تفضل يا أبي.. خذ.. هذه أجرتي.
تطلّعت عيون، كلّ من كان حاضراً،
فالمبلغ ليس بالقليل، إنه أجرة عمل (مئة) يوم، من الأيام الشّاقة، والطّويلة والمضنيّة، بالنّسبة لأبي، الواقف أمام النّاس، وهو مغتر، يشعر بالزّهو، والفخر والكبر، والكبرياء.
تلقّف (جدّي) من أبي حزمة النّقود، كانت أربعة قطع، من فئة (المائة) ليرة، والباقي نقود (فراط)، فيها أنواع عدّة، ورقيّة ومعدنيّة، عدّها (جدّي) بعجلة، والعيون تراقبه وتشاركه العدّ.. كرّر (جدْي) العدّ مرّات ومرّات.. ثم رفع رأسه صوب أبي، وقال:
- يوجد نقص نصف ليرة.
إبتسم أبي وكشف عن بطنه، وأشار إلى (قشاطه) المحزّم به.. وقال:
- مررت إلى السّوق واشتريت هذا..
وكان يشير بيده إلى (القشاط) الجديد.
بان الغضب على وجه (جدّي)..
ارتسمت عقدة حاجبيه، التي يخشاها أبي.. اتّسعت حدقتا عينيّه المرعبتين، وحاول ان يكظم غيظه، أمام النّاس، المندهشين من انقلاب مزاجه المباغت، فقد كان منذ لحظات، يتمتع بالهدوء، ويمازحهم، ويضحك معهم بصوت عال فيه رنين، عاد وسأل أبي والدّهشة والإستغراب، كانا باديان عليه:
- أصرفت (المئة) ليرة، من أجل نصف ليرة؟!.
ردّ أبي مرتبكاً، وفي حرج.. فقد أراد أن يزهو ويتباهى، أمام الحاضرين، وإذ به يجد نفسه، قد وضع ذاته في موقف حرج للغاية.. قال مخطباً أبوه:
- أبي لا (فراطة) عندي.. أجبرت على الصّرافة.
- ولماذا لم تأت لعندي.. لتأخذ منّي النّصف ليرة؟!.. ثمّ هل تريد أن تقطع مصروفك من تلقاء نفسك، دون أن أعطيك أنا؟!قل لي ما هذه الوقاحة
، وقلة الفهم والذّوق عندك؟!.. هل أنا ربّيتك على الأخلاق هذه، أم ظننت نفسك صرت رجلاً، لأنك أصبحت أبّاً؟!.. اللعنة عليك، وعلى ابنك، وأمّه، يا ابن الكلب.
قال (جدّي) هذا الكلام، ثم أخذ وجمع، جميع النّقود التي تناولها من أبي، في يده، ورمى بها بكل قواه، إلى الباحة التّرابيّة، حيث العشب الباقي من الحصاد .. فتراكض الصّبية، والأطفال، والشّباب، والرّجال، وحتّى الكهول، يتسابقون لإلتقاطها والبحث عنها.. وكان الزحام، والصّياح والزّعيق.. في حين كان أبي، يمسح دموع قهره، التي إنسابت من عينيه رغماً عنه، فهو الآن في أفظع المواقف، التي يتعرض إليها، في كل حياته، حتّى الآن.
جمعوا النّقود، التي قذفها (جدّي)، فكانت ناقصة، ليرة ونصف.. وبقيّ الأطفال، مستمرين بالبحث عنها.. وتقدّم (أبو عباس)، وهو صديق (لجدّي)، وقال بصوت متّزن وهادئ:
- طوّل بالك يا (أبو حسين)، الله يخليك.. ابنك (محمد) من أروع، وأعقل شباب الحارة.
لكن (جدّي) لم تهدأ ثورته بعد.. فها هو يقسم أمام الجميع:
- أقسم بالله العظيم، لن تدخل الدّار، ولن تنام فيها، لا أنت، ولا امرأتك، ولا حتّى ابنك.
وتعالتِ الأصوات من كلّ مكان:
- لا.. لا.. يا (أبو حسين) .. طوّل بالك.. وتعوّذ من الشّيطان الرّجيم.
وأفلتت من أبي، شهقة بكاء مرّ.. حين التفّ الرّجال حوله.. ودفع بيده (بسكليته)، على الأرضِ بقوة، وأفعال وحنق.. وقعت الدّراجة، ونهضَ (جدّي) من جلسته، وغادر مكانه، متّجهاً إلى داره.. ومخلّفاً وراؤه أبي، المخنوق في بكائه، والمحاصر بالرّجال، الذين راحوا يعرضون عليه، أن يقبل ويذهب مع واحد منهم، لينام عنده، لغاية ما تنقضي هذه الليلة المشؤمة.
لكنّ أبي لم يستجب لأحد.. انحنى فوق دراجته، جلّسها، ومضى بها بعيداً عن الحارة.. وكان الليل، قد سيطر على الأرض والسّماء.. بينما القمر يرفض الظهور، فوق مدينة يبكي فيها أبي.. وأمّي التي أمرها (جدّي)، فور دخوله البيت، أن تغادر، وتذهب لعند أهلها، وبعد أن بكت بشدّة، وقد شاركتاها البكاء، كلٍّ من جدّتي وعمّتي (حميدة) ، حتّى عمّي (عمر)، فجهّزت أمّي نفسها، ولبست (ملحفتها)، وحملت رضيعها، أخي (سامي)، ومن ثمّ غادرت، برفقة عمّي (عمر)، لتوصيلها إلى دار أهلها، بيت (جدّي عبيد)، و (جدّتي عيوش)
أمّا (جدّي سامي)، فقد دخل غرفته، وأغلق على نفسه الباب، دون أن تتجرّآن، (جدّتي)، (وعمّتي حميدة)، إلى الدّخول لعنده.
مصطفى الحاج حسين.
يتبع.. الجزء الرابع..
(جدّي)، خلال سنة واحدة، دفع عن أبي (خمسمائة) ليرة، (ليعفيه) من (العسكريّة).. ثمّ وبذات السّنة،صرف على زواجه، من أمّي، (خمسمائة) ليرة ثانيّة.
(جدّي)، في منتهى القسوة عندما يغضب، يريد ويطلب من أبي،وجميع أفراد إسرته، أن يتمسّكوا بالأصول، وأن لا يخرجوا عنها، وإلّا سيلقون منه، ما لا يتوقّعوه.. وهذا ما حدث بالفعل، مع أبي.
كان أبي.. منصرفاَ من شغله، عند المساء.. فوجد (جدًي) وعدد من رجال الحارة يجلسون، ويسندون ظهورهم إلى الحائط، عند الزّواية، سلّم والدي، على جميع الجالسين، وتقّدّم من (جدّي)، أخذ يده، وقبّلها ثلاث مرات، وفي كلّ مرّة، كان يضع يد (جدّي)، بعد تقبيلها على رأسه، (وجدْي)، يقول له بسعادة بالغة:
- الله يرضى عليك، يا ابني (محمد).
ثم، وقف، أبي يتأمّل الرّجال العجائز، أصحاب (جدّي) وجيرانه.. وأراد أن يمازح أباه، ليتباهى، أمام هذا الجمع، من الحضور، فقد كان قابضاً مبلغاً من المال، لا بأس به، أجرته، وهي ربما تكون المرّة الأولى، التي يقبض فيها أبي أجرته بيده.. إذ عادة ما كان ابن عمّه (أبو حسن)، يعطيها (لجدّي).. لكنّه، في هذه المرّة، تكرّم على أبي، وأعطاه، الأجرة، بيده شخصيّاً.. وكان مقدارها (خمسمائة ليرة) ، حصيلة عمل (مائة) يوم، من شغل أبي، لأنّ أجرته في اليوم الواحد، كانت (خمس) ليرات بالكامل.. وكان (جدّي) يمنح أبي
(خمس) ليرات، في الإسبوع، تمثّل أجرة يوم واحد.
وكان على أبي، أن ينفق على نفسه وعلى أمّي وأخي (سامي) الذي سبقني، إلى هذه الحياة، أنا بقي لي سنتين ونصف تقريبا، لتنجبني أمّي، سيدفع من هذه (الخمس) ليرات، ثمن دخْان، ومصاريف له، ولتصليح درّاجته، ومتطلّباتها، التي لا تنته، وعلى ما يلزم، لأمّي من أشياء كالألبسة،و(والمكياجات)والعطورات
، وغيرها.. كأجّرة (حمام) السّوق مثلاً، إذ كان لا بدّ لها، أن تذهب إلى (حمّام) السّوق، ولو لمرّة واحدة، في الإسبوع.. إلى جانب بعض النّفقات، على رضيعها مثل (البودرة) و (الكالونيا).
قبض أبي أجرته، مبلغ (خمسمائة) ليرة، وكانت عبارة عن (خمس) قطع ورقيّة، من فئة (المائة) ليرة، وبعد إنصرافه من عمله، وهو في طريقه، إلى الدّار، عرج على السّوق الكبير، المكتظ بالمحلّات والمتبضّعين، والذي يحتوي، على جميع الأصناف والطّلبات، من مواد غذائيّة، وموالح، وحبوب، وسكر وشايّ، وبن، وزيوت، وسمن، إلى كافة أنواع اللحوم، والأسماك، والدّجاج.. وغيرها، من
الأحذيّة، والألبسة، وصولاً إلى المنظّفات، والمكياجات، والسّاعات المتنوعة، إلى الفضّة والذّهب.
كان أبي، بحاجة إلى حزام جلدي لخصره، (قشاط).. فمرّ على محل، يحتوي على طلبه.. انتقى أبي (قشاطاً) يناسبه.. وحين سأل عن ثمنه.. وقال له البائع:
- ثمنه نصف ليرة.
أخرج له، ورقة من فئة (المائة) ليرة، وأعطاه.. ليردّ له البائع البقيّة، بعد أن يقطع من(المئة) ليرة ثمن (القشاط).
ولأنّ أبي، يريد أن يتباهى، أمام
الحاضرين، من الجيران، أهل حارته، عجائز، ومسنّين، ورجال، شباب، وفتّية، وأطفال، من كل الأعمار.. كانوا متواجدين، قبيل غروب الشّمس بدقائق قليلة.. مدّ أبي يده، إلى جيب شرواله، وأخرج ما يحمل من نقود، وقدّمها بزهو، إلى (جدّي)، وهو يقول:
- تفضل يا أبي.. خذ.. هذه أجرتي.
تطلّعت عيون، كلّ من كان حاضراً،
فالمبلغ ليس بالقليل، إنه أجرة عمل (مئة) يوم، من الأيام الشّاقة، والطّويلة والمضنيّة، بالنّسبة لأبي، الواقف أمام النّاس، وهو مغتر، يشعر بالزّهو، والفخر والكبر، والكبرياء.
تلقّف (جدّي) من أبي حزمة النّقود، كانت أربعة قطع، من فئة (المائة) ليرة، والباقي نقود (فراط)، فيها أنواع عدّة، ورقيّة ومعدنيّة، عدّها (جدّي) بعجلة، والعيون تراقبه وتشاركه العدّ.. كرّر (جدْي) العدّ مرّات ومرّات.. ثم رفع رأسه صوب أبي، وقال:
- يوجد نقص نصف ليرة.
إبتسم أبي وكشف عن بطنه، وأشار إلى (قشاطه) المحزّم به.. وقال:
- مررت إلى السّوق واشتريت هذا..
وكان يشير بيده إلى (القشاط) الجديد.
بان الغضب على وجه (جدّي)..
ارتسمت عقدة حاجبيه، التي يخشاها أبي.. اتّسعت حدقتا عينيّه المرعبتين، وحاول ان يكظم غيظه، أمام النّاس، المندهشين من انقلاب مزاجه المباغت، فقد كان منذ لحظات، يتمتع بالهدوء، ويمازحهم، ويضحك معهم بصوت عال فيه رنين، عاد وسأل أبي والدّهشة والإستغراب، كانا باديان عليه:
- أصرفت (المئة) ليرة، من أجل نصف ليرة؟!.
ردّ أبي مرتبكاً، وفي حرج.. فقد أراد أن يزهو ويتباهى، أمام الحاضرين، وإذ به يجد نفسه، قد وضع ذاته في موقف حرج للغاية.. قال مخطباً أبوه:
- أبي لا (فراطة) عندي.. أجبرت على الصّرافة.
- ولماذا لم تأت لعندي.. لتأخذ منّي النّصف ليرة؟!.. ثمّ هل تريد أن تقطع مصروفك من تلقاء نفسك، دون أن أعطيك أنا؟!قل لي ما هذه الوقاحة
، وقلة الفهم والذّوق عندك؟!.. هل أنا ربّيتك على الأخلاق هذه، أم ظننت نفسك صرت رجلاً، لأنك أصبحت أبّاً؟!.. اللعنة عليك، وعلى ابنك، وأمّه، يا ابن الكلب.
قال (جدّي) هذا الكلام، ثم أخذ وجمع، جميع النّقود التي تناولها من أبي، في يده، ورمى بها بكل قواه، إلى الباحة التّرابيّة، حيث العشب الباقي من الحصاد .. فتراكض الصّبية، والأطفال، والشّباب، والرّجال، وحتّى الكهول، يتسابقون لإلتقاطها والبحث عنها.. وكان الزحام، والصّياح والزّعيق.. في حين كان أبي، يمسح دموع قهره، التي إنسابت من عينيه رغماً عنه، فهو الآن في أفظع المواقف، التي يتعرض إليها، في كل حياته، حتّى الآن.
جمعوا النّقود، التي قذفها (جدّي)، فكانت ناقصة، ليرة ونصف.. وبقيّ الأطفال، مستمرين بالبحث عنها.. وتقدّم (أبو عباس)، وهو صديق (لجدّي)، وقال بصوت متّزن وهادئ:
- طوّل بالك يا (أبو حسين)، الله يخليك.. ابنك (محمد) من أروع، وأعقل شباب الحارة.
لكن (جدّي) لم تهدأ ثورته بعد.. فها هو يقسم أمام الجميع:
- أقسم بالله العظيم، لن تدخل الدّار، ولن تنام فيها، لا أنت، ولا امرأتك، ولا حتّى ابنك.
وتعالتِ الأصوات من كلّ مكان:
- لا.. لا.. يا (أبو حسين) .. طوّل بالك.. وتعوّذ من الشّيطان الرّجيم.
وأفلتت من أبي، شهقة بكاء مرّ.. حين التفّ الرّجال حوله.. ودفع بيده (بسكليته)، على الأرضِ بقوة، وأفعال وحنق.. وقعت الدّراجة، ونهضَ (جدّي) من جلسته، وغادر مكانه، متّجهاً إلى داره.. ومخلّفاً وراؤه أبي، المخنوق في بكائه، والمحاصر بالرّجال، الذين راحوا يعرضون عليه، أن يقبل ويذهب مع واحد منهم، لينام عنده، لغاية ما تنقضي هذه الليلة المشؤمة.
لكنّ أبي لم يستجب لأحد.. انحنى فوق دراجته، جلّسها، ومضى بها بعيداً عن الحارة.. وكان الليل، قد سيطر على الأرض والسّماء.. بينما القمر يرفض الظهور، فوق مدينة يبكي فيها أبي.. وأمّي التي أمرها (جدّي)، فور دخوله البيت، أن تغادر، وتذهب لعند أهلها، وبعد أن بكت بشدّة، وقد شاركتاها البكاء، كلٍّ من جدّتي وعمّتي (حميدة) ، حتّى عمّي (عمر)، فجهّزت أمّي نفسها، ولبست (ملحفتها)، وحملت رضيعها، أخي (سامي)، ومن ثمّ غادرت، برفقة عمّي (عمر)، لتوصيلها إلى دار أهلها، بيت (جدّي عبيد)، و (جدّتي عيوش)
أمّا (جدّي سامي)، فقد دخل غرفته، وأغلق على نفسه الباب، دون أن تتجرّآن، (جدّتي)، (وعمّتي حميدة)، إلى الدّخول لعنده.
مصطفى الحاج حسين.
يتبع.. الجزء الرابع..