فراس عبدالرزاق السوداني - «حياة الماعز» وصراع الحضارات شَرقاً

تمهيد ومقاربات:

مائة طبعة وتزيد لروايته «آدوجيفيثام» أو «حياة الماعز» الصادرة عام 2008 بلغتها الأصليّة (*1) كانت كفيلة بأن تقفزَ باسم بِنِي دانيال (1971 -) إلى صدارة المشهد الأدبـيّ في ولاية كيرالا الهنديّة، بعد أن كان الرجل نسياً منسيّاً. رُشّح الرّجل المعروف باسمه الأدبيّ «بِنيامين» عن هذا العمل لجوائز محليّة وإقليميّة ودولية عديدة، فاز منها بجائزة شيخ أبي ظبي للأدب المالايالاميّ 2008، وجائزة أكاديمية كيرالا ساهيتيا 2009، وكانت ضمن القائمة القصيرة لجائزة دي أس سي للأدب في جنوب آسيا 2013، والقائمة الطويلة لجائزة مان الآسيويّة 2012(*2).

في الموعد وعند أوّل طبعة للرواية، كان بلَسِي آيبي ثوماس (1963-) المعروف في أوساط السينما الهنديّة المالايالاميّة باسمه الفنيّ (بلسي) مُتربّصاً بمشروع العُمر، وهو هنديّ من عائلة نصرانيّة نسطوريّة من أصل سُريانـيّ، استهلّ مشواره الفنيّ بكتابة أوّل أفلامه عام 2004 وإخراجه(*3).

من هنا بدأت رحلة طويلة وشاقّة في صناعة فيلم «حياة الماعز» الذي أوهم بصراع جديد للحضارات شرقاً.. رحلة امتدّت من سنة صدور الرواية 2008 إلى سنة إطلاقه للسينما في آذار 2024.

فما قيمة هذا الفيلم في ميزان النقد السينمائيّ؟ وما الرسائل الظاهرة والعميقة له؟ وهل هو مُحاولة تَهْنِيد صورة العربيّ النمطيّة في هوليوود؟ وهل فيه ما يُسيء للمملكة العربيّة السعوديّة وبلدان الخليج؟


***

هُويّة العمل وبيئته الاجتماعيّة والفنيّة:

صدرت رواية «حياة الماعز» المبنيّة على قصّة حقيقيّة باللغة المالايالاميّة (Malayalam Language)، اللغة الرسميّة لولاية كيرالا الهنديّة الواقعة في الجنوب الغربيّ لشبه الجزيرة الهنديّة على طول ساحل مَلِيبار المُطلّ على بحر العرب. ولهذه المقاطعة (أو الإقليم) صِلة وثيقة بالغرب العربـيّ، فقد كانت وما زالت مصدراً رئيساً للتوابل، ذُكرت في السجلات السومريّة للمرة الأولى في الألفيّة الثالثة قبل الميلاد، وصلتها بالعرب الجاهليين والعراقيين القدماء وقُدماء المصريين وثيقة موثّقةٌ(*4).

وقد بلغ من تأثير العرب المسلمين على كيرالا أن كُتبت لغتها المالايالاميّة بالأبجديّة العربيّة لقرون، وحكمتها (أو محيطَها) سُلالات مُسلمة في حِقب مختلفة، وهي اليوم الولاية الأولى على مستوى الهند في مؤشّر التنميّة البشريّة (0.75–0.80)، والأقل فساداً حسب تقرير منظمة الشفافيّة الدولية 2005، ومن الولايات المتسامحة طائفيّاً نسبيّاً. يُمثّل المسلمون فيها أغلبيّة ثانية (27%) مقابل (55%) للهندوس و(18%) للمسيحيّين. يتحدّث اللغة المالايالاميّة (97%) من سكّان كيرالا(*5).

في العصر الحديث، يعيش نحو مليونـين ومائة ألف من مواطنيها في الخارج، هاجر ما يقرب من (90%) منهم إلى دول الخليج العربيّ، ومن هنا يكتسب الفيلم أهميّته السياسيّة والاجتماعيّة.

في البيئة الفنيّة السينمائيّة لكيرالا، تعود بدايات السينما المالايالاميّة إلى 1928، تاريخ إنتاج أوّل فيلم روائيّ، وكان صامتاً. حازت السينما المالايالاميّة على اعتراف دوليّ مع حصول فيلم شيمين 1965 على شهادة تقدير في مهرجان شيكاغو السينمائيّ الدوليّ، وميدالية ذهبية في مهرجان كان السينمائيّ لأفضل تصوير سينمائيّ، وحصول فيلم أليباثايام 1982 على جائزة سوذرلاند تروفي في مهرجان لندن للسينما، وغير ذلك من الجوائز العالميّة المرموقة التي منحت لأفلام مالايالاميّة.

تتميّز صناعة السينما في إقليم كيرالا بأفلام تحاكي السينما الموازية (بديل السينما التجاريّة الهنديّة السائدة، وفرعها في كيرالا يسمّى: موليوود) من خلال تصوير قضايا اجتماعيّة مثيرة، مع تقنيات فنيّة عاليّة، لكن بميزانيات مُنخفضة، وعُظْم إنتاجِها باللغة المالايالاميّة(*6).


***

«حياة الماعز» في ميزان النقد السينمائيّ:

ذكرنا سلفاً أنّ فيلم «حياة الماعز» مقتبس عن قصّة حقيقيّة، وقعت أحداثها بين إقليم كيرالا والمملكة العربيّة السعوديّة، لرجل هنديّ متواضع التحصيل اسمه «نجيب مُحمّد»، كان يعمل على زورق لاستخراج الرّمل من قاع النهر في بلدته، ليبيعه إلى متعهِّد موادّ بناء فيها، لكنّ هذه المهنة أضرّت بصحّته وتسبّبت له بمشاكل في جهاز التنفّس.

يقرّر نجيب هذا أن يرهن بيت العائلة ليوفّر أجور السفر إلى المملكة مع صاحب له اسمه «حكيم» للعمل في مقرّ شركة داخل المدينة، ثمّ تتوالى الأحداث بما أصبح معروفاً لكلّ مَن قرأ الرواية أو شاهد العمل.

والرواية صدرت بالعربيّة عام 2015 بترجمة سُهيل وافي (1986-)، مختصّ بالعلوم الشرعيّة من مواليد مقاطعة كيرالا ذاتها(*7) وهي والترجمة الإنكليزيّة ليست متاحة لنا. لذا، فنافذتنا إلى القصّة السيناريو الذي كتبه بلَسي مخرج العمل ذاته. وهنا، سيضيع علينا ما هو من أصل الرواية، وما أضافه المخرج عليها لضرورات سينمائيّة، كما أنّنا لا نعلم زيادات الروائيّ على الحقيقة أيضاً. لكنّنا مع هذا كله، نستطيع أن نخمّن هذا كلّه، ونميز المتخيَّل الفنيّ من الواقع الحقيقيّ.

السِّمةُ الأبرز للسيناريو ضِيق مساحة الحوار فيه، واتّساع وصف البيئة المحيطة بالحدث زماناً ومكاناً، ووصف الأشخاص وتعبيراتهم بانفعال الوجه وحركة الجسد.

زاد هذه السمة جلاء ووضوحاً ما صرّح به سوكوماران، بطل الفيلم قائلاً: «من السّمات البارزة لهذه القصة امتزاج الهُويّات بين الإنسان والحيوان، فهذا الرجل يفقد هُويّته ببطء كإنسان، ويُصبح واحداً من تلك الحيوانات»(*8) وهو ما ظهر جليّاً بتوقّف نجيب تدريجياً عن الحديث وإصداره لأصوات شبيهة بأصوات الحيوانات التي يعتني بها، من حين لآخر.

وقد ترجم المخرج هذا كلّه بصريّاً إلى مشاهد واسعة مُبهرة الصورة للبيئة المحيطة مع رصد حركة الممثلين وخطّ الأفق بعدسات ذات زوايا مُفرطة السعة، ولقطات مقرّبة دقيقة لوجوههم، عكست انفعالاتهم الداخليّة.

زاد الصورة في هذا الفيلم إبهاراً دقّة التلوين، حيث اشتغل العاملون على التلوين على إبراز اختلاف البيئة بين كيرالا الخضراء وقاحلِ الصحراء، واختلاف وقت التصوير أيضاً، مع الحفاظ على ائتلاف الصورة بين المشاهد، بما يعطي هُوية بصريّة مميزة للعمل.

في الموسيقى التصويريّة، اعتمد المخرج على مزج الألوان النغميّة بين طرفي القصّة (هنديّة – عربيّة) مُبرزاً نقطة اشتراكهما في الإنشاد الصوفيّ، وهو ما جعله يتعكّز كثيراً على هذا اللون من الإنشاد، استدراجاً لأُلفة المشاهد من الثقافتين، فأخذ تلك المساحة الواسعة من الموسيقى التصويريّة دون ملال. كلّ ذلك بمساعدة مؤلّف موسيقيّ مبدع هو الله-ركها رحمان (1967-).

واللافت في ذلك، أنّه أدخل ترويدةً من التراث الفلسطينيّ بصوت الفلسطينيّة سَناء موسى (1979-)، وكانت ترويدة غير مُكتملة لسيدة اسمها لطيفة سَمعان (80 عاماً) من قرية سُحمايا المُهجّرة (الجليل الأعلى)، كما أفادت موسى على صفحتها الرسميّة في فيسبُك.

أدخل المخرج هذه الترويدة في توقيت حاسم، عند وصول البطل ودليله إبراهيم قادريّ (الصوفيّ) إلى أعماق التيه ووَهْدة اليأس، فكأنّها الجرعة الأخيرة التي ستعبر بهما إلى الخلاص!

على مستوى سرد الحكاية، استهلّ المخرج الفيلم بلقطة مجهريّة لحبّات رمل من الصحراء العربيّة وهي تتحرّك إيذاناً بالتحاقها بإعصار مرّ بمُناخ مجموعة من الجِمال التي نهضت مذعورة، ثمّ ينسلّ من هذا المشهد العنيف إلى رصد مَجرّة في السماء ليلاً، يأخذ صورتها من على صفحة ماء ساقية الماشية في المزرعة، ونجيب يمدّ فمه ليشرب من ماء الحيوانات، في لحظة إذعانه لواقع العبوديّة الذي رفضه كثيراً قبل الانكسار والتأقلم. كلّ ذلك بأسلوب الاسترجاع (flash back).

وقد تكرّر اعتماد المخرج هذا الأسلوب في مقاطع مفصليّة من العمل، خصوصاً عندما كان الألم يفيض بالبطل ممّا يُقاسي في الصحراء، ويطغى عليه الحنينُ إلى الأهل والوطن. وهو ما طوى عن المُشاهد بُعد رحلتِهِ مع الفيلم، وقاربت ثلاث ساعات كاملة.

كما توكّأ المخرج في ذلك على لمحات خاطفة أقنعت المشاهد بأنّ كلّ حركة في العمل مقصودة، وأنّ تلك الحركات مترابطة ترابطاً وثيقاً، بقصد استفزاز فطنته وإرضائها في آن.

فاللقطة المجهريّة لحبّات الرّمل إشارة مُبكّرة وعميقة إلى أنّ الرّمل هو قدر هذا الرجل.. قدره الذي امتهن بسببه استخراجه من قاع النهر، وقدره الذي تسبّب له بمشاكل صحيّة، بحث معها عن تغيير تلك المهنة التي كانت تُقيم أوده وأهله، وهو ذاته الذي سيتلظّى بقسوته في صحارى العرب بعيداً عن الدّيار، فكأنّه فرّ من الرّمل إلى الرّمل.. لكنّ الأوّل في الوطن، في أحضان النهر المعطاء، والثاني في التيه والمجهول.

تتكرّر هذه الإيماءات، مع التقاط المُخرج لمشهد مَسيل الماء من خزّان المزرعة وسط الصحراء، وانتقاله منه بطريقة دمج الصورة إلى حوض نهر كيرالا الذي تشابه كثيراً مع جوانب مسيل الماء في اللقطة الأولى، ومن ثمّ العودة إلى الصحراء عند مشهد عناقه مع زوجته مُضطجعَين، في انتقالات محسوبة تُذكر للعاملين على دعم الصورة بالحاسوب (CGI: Computer -Generated Imagery) في فريق العمل.

ولقطة أخرى، فالمرآة التي أرته حاله الرثّ بعد طول مُكث في المزرعة هي ذاتها التي استعان بجزء منها لتغيير حاله تلك، عندما حاول جَزّ لحيته بها، دون جدوى.

ومن إبداعات المخرج في السرد (وربما كانت من إبداعات الروائيّ قبلاً)، ادّخاره المفاجأة لآخر الفيلم، وأنّ كفيلهما الذي عاشا تحت عسفه تلك السنوات المُرّة ليس سوى كفيل مُزيّف، اختطفهما من المطار وأودعهما مزارعه استعباداً لهما، دون وازع من دين أو خلق، أو رادع من قانون.

لعب المخرج على مشاعر المشاهد بادّخار نجيب لآخر حبّة مخلل لما قبل الهروب الأخير، وهي لفتة بارعة في الإشارة إلى أنّ صَنعة أمّه كانت زاده الذي أقدره على المقاومة وأبقاه على قيد الحياة، وهو الذي سيوصله إلى الخلاص.. لمحة عابرة، لكنّها بارعة.

ومثلها زرّ قميصه الأبيض الذي انقطع في الزورق بيد زوجته، وانقطاع زرّ آخر بيده هو من قميصه الذي أسرع لارتدائه في المزرعة، بعد أن خلع أطمار العبوديّة تمهيداً للهروب الأخير، في لفتة أخرى لربطه بالوطن، مرّة بالأمّ وأخرى بالزوجة.

من المشاهد الأخرى التي أحكمت سرد الحكاية في العمل، المفارقة التي شكّلها المخرج من تزامن لحظة تأقلم نجيب مع العبوديّة وعثوره على جثّة سلفه العجوز الهندوسيّ الذي أُنسي اسمه من قسوة ما عانى في الأسر، وقال عبارته المؤثّرة عن طريق النجاة: «بعيد جدّاً!» وهي عبارة مجرّب أذعن بعد محاولات فاشلة، فيما يبدو.

هذه المفارقة كانت بمثابة انتباهة لنجيب من أنّه لا يجوز له الاستسلام ولا بُدّ من الإصغاء لنداء الحُريّة الذي خَفت بداخله بسبب ما لاقى من عسف وظلم، وهو ما تجسّد بمحاولته استنقاذ الجثّة من مخالب النسور. ولا يخفى ما في هذه اللقطة من بُعد وطنيّ هنديّ، فنجيب مسلم مالايالاميّ والعجوز هندوسيّ، تباينت ديانتاهما ولغتاهما، وجمعهما الانتماء لوطن واحد (الهند). وقد أكّد هذا البعد في خلفيّة المشهد بصوت يُردّد القول بـ«إنّا لله وإنّا إليه راجعون!».

ومن اللمحات البارعة، نظرته الأخيرة إلى الوراء، إلى المزرعة التي كانت مُستقرّ عبوديّته وموطن عذابه، وما وعت تلك النظرة من أُلفة المكان والحيوان (الغريب عن بيئته الأولى)، وخصوصاً الجمل الذي رأى صورته بعينه، وهي لقطة حملت رسائل مُركّبة.

هي نظرة أغرته بالرّضا بالذُّل مع السلامة، مقابل ما ينتظره من حريّة في تيه لا يعرف له آخر، وما خالجه بين هذا وذاك من الشعور بصعوبة قيد النفس، وأنّه أصعب القيود، فالنفس التي تُطبع على ذُلّ العبوديّة لا أمل في انعتاقها وانطلاقها يوماً إلى آفاق الحريّة؛ لأنّ الحريّة لها عالم مجهول، والإنسان عدوّ ما جَهِل!

هي لحظة فارقة تجلّى فيها الصراع بين الاستكانة للعبوديّة، وبين الأمل بالحريّة والسعي لنيلها، فكان الانتصار للحريّة في اللحظة الأخيرة.


***

ادّعاءات بالخلل والعيوب في «حياة الماعز»:

نعلم جميعاً الزوبعة التي ثارت بين المشاهدين العرب على العمل مؤخّراً، بعد طرحه على منصّة نتفلكس (Netflex) المثيرة للجدل باختياراتها، رغم أنّه أُطلق في الهند أواخر مارس الماضي من هذه السنة. انقسم الناس فُسطاطين حول الفيلم، في مشهد مُكرّر لكلّ ما اتّصل بالسياسة، ففسطاط مع، وآخر بالضدّ!

ولأنّ المتحزّبين سياسيّاً (بالمعنى العامّ للتحزّب) يصعب عليهم النظر الموضوعيّ؛ تباينت وجهات نظرهم إلى هذا العمل الفنيّ الذي يحمل رسائل عديدة، ظاهرة وعميقة كما سيأتي تفصيله بعد، بين مَن رفعه لعِلّيّين (وهم بلا ريب من خصوم المملكة والمتربّصين بها)، وبين من أنزله أسفل سافلين!

فأمّا من رفعه لعلّيّين، فيمكن لهذا المقال أن يخفّف من غُلَوائه بما يعرض من نقد يأمل كاتبه أن يكون موضوعيّاً. ولمن حطّ من العمل وأراد إسقاطه فنيّاً حقُّهُ في الجواب على ما أورده من نُقُود عليه، والانتقاد أنفع من الثناء العامّ؛ إذ يحتفي صاحبه بالتنقير عن الخلل وتتبّع الزلل، بما قد يفوت الناقدَ المحايد لمحُه ويُعجز المُعجبَ المأخوذ دَرْكُه.

ومن المؤاخذات على هذا الفيلم:


  • جرّد بعض النقّاد الفيلم من كلّ شيء، وادّعوا أنّه عاطل من كلّ تميّز فنيّاً، وجوابهم في فقرات هذا المقال وتضاعيفه.
  • اتّهام المخرج بالاقتباس الفادح من فيلم سابق على فيلمه هذا عنوانه «مريم»، صدر عام 2013، وهو فيلم هنديّ صدرت نسخته الأصليّة بلغة التاميل(*9).
  • وسبب التشابه بين الفيلمين أنّ الفيلم الأوّل نصّ صانعوه على أنّه استَلهم رواية «حياة الماعز» والثاني بُني عليها، فلا ريب أن يتشابه العملان في قليل أو كثير، حسب رؤية المخرج الأوّل في الاستلهام من الرواية.
  • بطل العمل بريثفيراج سوكوماران (1982-) سيّء في التمثيل.
  • والحقيقة أنّ الرجل ممثّل ومخرج ومنتج، شارك في تمثيل مائة فيلم في السينما الهنديّة لحدّ الآن، وحاصل على جوائز عديدة في التمثيل. نعم، ربما كان لطبقات المكياج، التي وضعت على وجهه مُحاكاة لتلبُّد وجه الشخصيّة بالوسخ، أثرٌ في تصعيب المُهمّة عليه في التعبير عن الانفعال بالوجه، وأغرته بالمبالغة في حركة الجسد حدّ الاقتراب من الأداء المسرحيّ الذي لا يُناسب السينما. وقد أخذت المبالغة في الحركة عليه وعلى الممثل المساعد الذي جسّد دور «حكيم».
  • وكان من احتراف المخرج والمُمثّلَين الرئيسين أن أنقصا وزنيهما بصورة ملحوظة تقرب من الهُزال، مُحاكاة للظروف القاسية التي تعرّض لها البطلان في الحقيقة من تجويع وشقاء!
  • أنّ الفيلم «هَنَّدَ» الصورة النمطيّة للعربيّ في هوليوود، وما رافق هذه الصورة النمطيّة من شَين يدور حول تخلّفه المُدّعى الذي يُديم ربطه بالصّحراء والجَمل، وجهله في ذاته، وقسوته مع الآخر.
  • وفي هذا غفلة عن أنّ الرواية تدور أحداثها في الصحراء العربيّة، وبين البدو الذين اجترح أحدهم جريمة اختطاف مواطنَين هنديّين قَدِما إلى المملكة طلباً للرّزق، وزاد بأن استعبدهما، وهي جريمة يعاقب عليها أيّ قانون؛ لو ثبتت!
  • فالقصّة بعيدة عن نظرة هوليوود العابرة التي تدُسّ، كلّما سنحت فرصة، السُّمّ في العسل، وتكون مُقحمة غالباً وغير مدروسة ولا احترافيّة. وسيأتي مزيد بيان لهذا بعد.
  • والرأي عندنا أنّ المخرج، وقبله الروائيّ، لم يكونا حفيين بالحطّ من صورة العربيّ (السعوديّ على وجه الخصوص)، وإنّما سردا ما حصل مع عاملَين في ظروف يلفّها الخلل من كلّ جانب، في مواجهة رجلٍ بدويّ طُبع على قسوة البدو في الصحراء، وزاد بأن احتال على القانون وسمح لنفسه أن يختطف رجلين ويستعبدهما ثلاث سنوات.
  • والذي يُرجّح ذلك عندنا أنّ الفيلم يُقدّم صورة أخرى للعربيّ (السعوديّ)، هي صورة الرجل الثريّ الذي كان يركب سيّارة فارهة (رُولس رُويس)، فحمل نجيباً رغم وساخته وحاله المُزرية، وهوّن عليه اتّساخ فرش السيّارة بما علق به من قذر عبر سنوات. وهذا وذاك عربيان!
  • ثمّ حتّى تصرّف الناس معه في الشارع، بعد ما أوصله الرجل الثريّ إلى المدينة.. حتّى تصرّفهم معه بحذر (أو ربما بجفاء) كان منطقيّاً تجاه شخص مجهول بتلك الحال المُزرية التي لا يُعلم معها مدى خطورته عليهم وعلى ممتلكاتهم.
  • وينفي التنميط بقصد الإساءة ما قاله حكيم لصاحبه نجيب، عند بوّابة المغادرين في المطار، تعليقاً على رائحة كفيلهم (أو خاطفهم على الحقيقة) من أنّ رائحة هذا العربيّ لا تُشبه وصف نجيب للإنسان العربيّ، وزعمه أنّ العطور تُصنع من عرق العرب وأبوالهم.. وقد أكّد نجيب على أنّه حقيقة وليس مزاحاً. فهل في هذه النظرة إلا التقدير حدّ الخيال؟!


لكن، هل يعني هذا أنّ العمل بلا عيوب؟! قطعاً لا، لكنّها عيوب لا ترقى إلى إسقاط العمل والحطّ من قيمته الفنيّة.

ومن الأخطاء التي وقع فيها المخرج أنّه لم يتّخذ مُخرجاً مساعداً من العرب (وشطر عمله الأكبر يدور في بلادهم)، ولم يُغنِه في ذلك اشتراك ممثّل عربـيّ هو مخرج في الأصل، ونعني هنا طالباً البلوشيّ (1959-)(*10)، فالممثّل يكون مشغولاً بدوره، ولا يحضر إلا تصوير مشاهده غالباً.

ومن المشاهد التي تنزّلت عن المستوى العامّ للعمل، مشاهد رفع الأذان في المملكة، فقد كان الأذان فيها على الطريقة المصريّة، لا السعوديّة. كما أنّ لهجة رجال الأمن في المطار ومركز الشرطة لم تكن سعوديّة صافية، ولا كانت الأزياء مُتقنة، خصوصاً الأشخاص الذين ظهروا بالعقال والشماغ في المطار عرضاً.

ومن مواطن الخلل أيضاً، مشهد محاولة نجيب علاج رُهاب زَوجته من النهر بقذفها فيه، فقد أصبحت سبّاحة ماهرة بحصّة واحدة من التعليم، وهذا بعيد في الواقع، وكان يمكنه أن يوحي للمشاهد بأنّ ذلك كان على حصص، بتغيير ملابسهما مرات مُتكررة في مشاهد متتابعة مثلاً.


***

رسائل «حياة الماعز» الظاهرة ورسالته العميقة:

عندما نعلم أنّ هذا الفيلم هو مشروع العُمر لمخرجه، فلا بُدّ أنّ شيئاً ما في الرواية قد لامس ذائقته الفنيّة وداعب حاسّته الإخراجيّة عند قراءته إيّاها، وأنّه قرّر بثّ رسائل متعدّدة من وراء العمل، في اتجاهات مختلفة: شرقاً في بلده الهند وآسيا عُموماً، وغرباً في بلاد العرب وما وراءها.

للفيلم رسائل ظاهرة قريبة، يسهل التقاطها وتحديدها وفهمها، من مثل:


  • التنويه بأثر حاجز اللغة على التواصل بين بني البشر عموماً، وخطره على المهاجرين في الغُربة خصوصاً، وما يمكن أن يطالهم من أضرار بسبب الجهل بلغة الآخر وبثقافته.
  • تقصير مكاتب العمل والهجرة في واجباتها تجاه المهاجرين، والتحذير من تلاعبها بمصائر الملايين ممّن يضربون في الأرض ابتغاء الرّزق في بلاد الغُربة.
  • تأكيد المعنى الذي عبّر عنه شاعرنا العربـيّ بقوله:
  • بلادي؛ وإن جارت عليّ، عزيزة وقومي؛ وإن ضنّوا عليّ، كرامُ!
  • رغم قسوة العبوديّة، لا مناص من التأقلم ولو مرحليّاً للنجاة من الظروف الصعبة التي تواجه الإنسان، مع الإصرار على حقّه في الحريّة. خُلق الإنسان ليتأقلم!


أمّا الرسالة العميقة للفيلم، فهي عندنا فلسفيّة صوفيّة بامتياز. هي في الحقيقة تجلٍ من تجليات رحلة البحث عن الذات، أو بعبارة أخرى: رحلة البحث عن الله، بمعرفة أبعاد الذات وحدودها.

ومنطلق الرحلة كان من هناك، على ضفّة نهر في كيرالا، حيث كان نجيب عاملاً «غير راضٍ بحاله»، رغم ما كان يعيشه من أُنس بأمّه وزوجته، والأُلفة النادرة بينهما؛ ليعاقَب على جُحود النعمة وعدم الرّضا بـ«التيه» الذي عاناه في صحراء العرب القاحلة، ليُعثِره رفيق دربه حكيم في آخر المطاف على «المُرشد» الذي تمثّل بإبراهيم قادريّ، الصوفيّ المؤمن القويّ، الواثق من ربّه، الهارب من كفيلٍ حقيقيّ (لا كفيل مزعوم ككفيلهما)، بدليل وضع صورته في لوحة الهاربين من كفلائهم في مشهد أكّد الغموض حول شخصه ومآله.

فتكون الرحلة (= السّياحة الصوفيّة) بعد أن يفيض الألم بنجيب ويستغيث بالله (سبحانه وتعالى!) ويلتفت لحاله مُنكراً ذلك من نفسه، قائلاً: «لم عليّ مناجاة الله، لماذا أصلّي لله؟! لو كان الله موجوداً؛ لما وصل بي الحال إلى هذا البؤس!» أو كلاماً كهذا.

وتكون الرحلة مع مرشدهما إبراهيم، ويكون السؤال المُتكرّر: «أين الطريق؟!»، ويُجاهد المرشد معهما حتّى وفاة أحدهما شهيداً في طريق الخلاص (= البحث عن الله) ووصول الآخر. بل ويضحّي المرشد بآخر ما يملك من الزاد (شربة ماء - تمرة)؛ ليصل «مُريده» إلى برّ الأمان.

والرسالة هنا جواب على إنكار نجيب لجدوى مُناجاة الله، وأنّ إبراهيم هذا ما هو إلا مبعوث العناية الإلهيّة إليكما؛ لإنقاذكما ممّا أنتما فيه، لكن.. لا بُدّ لكما من أن تُصارعا من أجل البقاء والوصول. الخطوة الأولى عليّ والأخرى عليكما، ومنكم مَن سيقضي نحبه ومنكم مَن سينجو ويعبر المفازة!

ومن اللمحات المبدعة التي توثّق صلة القصّة (أو معالجتها السينمائيّة) بالبعد الصوفيّ، أن نجيباً وحكيماً فقدا الشعور بالوقت، وهو ما يحصل للمريد الصوفيّ حينما يخرج من دائرة الزّمن إلى دائرة الحُبّ، كما في بعض أشعار الجلال الروميّ. أكّد المخرج البعد الصوفيّ للرحلة، بقول حكيم لصاحبه بأنّ الله أرسل إبراهيم قادريّ لهما، كما أرسل موسى لبني إسرائيل؛ ليعبُر بهم البحر، كما سيعبر بهما إبراهيم بحر الرمال إلى برّ الخلاص والأمان.


***

«حياة الماعز» وصراع الحضارات شرقاً:

رأى بعض النقّاد ممّن أغضبه الفيلم أنّ فيه تهجّماً على المملكة العربيّة السعوديّة وبلدان الخليج، وانتقاداً لاذعاً لقوانين العمل فيها، وخصوصاً «قانون الكفيل»، ورأى فيه آخرون تنميطاً لصورة العربيّ، وهو تنميط غريب عن بوليوود، معهود في هوليوود (وقد سبق)، فهل امتدّ صراع الحضارات شرقاً، بين ثقافات شرقيّة – شرقيّة (عربيّة - هنديّة)، بعد أن كان بين ثقافات غربيّة - شرقيّة؟!

يستبعدُ السياق التاريخيّ أيَّ خيط يربط إنتاج هذا الفيلم بصعود حزب جاناتا بهارتا الهنديّ (اليمينيّ المتطرّف) بقيادة رئيس وزراء الهند الحاليّ ناريندرا مودي (1950-)(*11) وموقفه المتحفّظ جدّاً (على الأقل) من المسلمين في الهند، وعلاقاته الصاعدة مع الكيان الصهيونـيّ حتّى بلغ به الأمر مدَّ الكيان الصهيونيّ بالأسلحة والذخائر في حربه ضدّ غزّة، وهي سابقة خطيرة في العلاقات الهنديّة – العربيّة. ذلك أنّ الحزب (ورئيسه مودي) لم يتسنّم سُدّة الحكم في الهند إلا عام (2014)، والرواية صدرت عام (2008)، وبدأ المخرج بالتحضير للإنتاج بُعيد قراءته للرواية، فيما نُشر. هذا فضلاً عن أن المخرج مسيحيّ نسطوريّ والكاتب مسيحيّ أيضاً (فيما يبدو من اسمه) وهما بعيدان عن توجّه حزب جاناتا بهارتا الهندوسيّ المتطرّف.

هذا لا ينفي أن تستثمر الحكومة الهنديّة هذا الفيلم في ضغطها على دول الخليج؛ لمكاسب سياسيّة واقتصاديّة، والحصول على موقف تفاوضيّ أفضل مع العرب في الصراع الصينيّ – الهنديّ للسيطرة على خطوط التجارة العالميّة المارّة ببلادهم، وربما تحسين ظروف المعيشة للعمالة الهنديّة المهاجرة إلى المملكة والخليج.

إنّ إلغاء الحكومة السعوديّة نظام الكفيل عام 2021 يُعدّ اعترافاً صريحاً بقصور القانون في حماية العمالة الوافدة، وهذا يحصل في دول العالم جميعاً، وليست المملكة بِدْعاً في ذلك. لكن، لا يخفى أنّ هذا الإلغاء من ممهّدات رؤية المملكة 2030 وترشّحها لاستضافة كأس العالم لكرة القدم (فيفا- 2034).

في 4 نوفمبر 2020، قالت وزارة الموارد البشرية بالمملكة: «إنّها قررت تحسين العلاقة التعاقدية بين العامل وربّ العمل، من خلال سياسات، أبرزها: إلغاء نظام الكفيل، على أن يدخل القرار حيز التنفيذ في 14 مارس 2021»(*12).

واستثنت المبادرة خمسَ مهن، هي: «السائق الخاص، والحارس، والعمالة المنزلية، والراعي والبستانيّ»، لما لهذه المهن من مساس بخصوصيّة المواطن السعوديّ، وهو مفهوم.

إن مَن جعل الفيلم مسيئاً للمملكة أو امتداداً لتنميط صورة العربيّ في السينما العالميّة، لم يبنِ رؤيته على قراءة واعية للفيلم، ولا تريّث في تحليل المشاهد المفصليّة فيه، واكتفى (فيما يبدو) بمتابعة من سبقه ممّن هاج وماج على صفحات مواقع التواصل بحثاً عن الإثارة والتحريش بين النّاس، غير واعٍ خطورة ذلك على المستويات جميعاً، ومن أهمّها ما قد يلحق بالعمالة الوافدة في بلادنا (وليسوا مُنزّهين عن الأخطاء) من ردود أفعال بعض الباغين والمسيئين.

ولا يعدو أمر الرواية (والفيلم من ورائها) أن يكون عملاً أدبيّاً جسّد رسالة الأدب السامية واقتناصاته الواعية في تحسّس آلام المظلومين والمكلومين، وفضح الظالمين والمسيئين؛ لصناعة التغيير.

وختاماً، لا نشكّ أنّ هذا العمل مؤهّل للتنافس على جوائز عالميّة، كجائزة الأكاديميّة (الأوسكار) لأفضل فلم بلغة أجنبيّة، وغيرها من الجوائز المرموقة، فقد استند الفيلم إلى قصّة مشوّقة ذات عمق فلسفيّ وأبعاد إنسانيّة واجتماعيّة وسياسيّة، ونفّذ باحتراف عال من كادر متمرّس، قاده مُخرج طموح بنَفَس طويل كتابة وإخراجاً.

هذا ما رأيناه ضروريّاً في عرض بعض جوانب هذا العمل المهمّ وتحليله ونقده، وأرجو أن يكون ردُّ مَن شعر بالغضب من هذه التجربة الهنديّة الجادّة = صناعة تجارب إبداعيّة جادّة، فالصراخ والزعيق والاستقواء على الضعيف (بالنيل من شخص بطل القصّة الحقيقيّة) لا يُغني شيئاً في عالمنا المعاصر، وهو قبض ريح في ميزان الحقّ والعدل.




(نهاية النصّ)


(*1) وقد طبعت الرواية للآن أكثر من مائتين وخمسين طبعة بلغتها الأمّ، كما ورد في موقع بي بي سي-نيوز، في مقاله: «الفيلم الهندي حياة الماعز يثير جدلاً على مواقع التواصل بسبب نظام الكفيل في السعوديّة»، المنشور بتاريخ 20 أغسطس 2024، على الرابط: https://www.bbc.com/arabic/articles/cly82jryp0eo .
(*2) ويكيبيديا – الموسوعة الحُرّة: (بنيامين - كاتب) و(حياة الماعز) باللغتين العربيّة والإنكليزيّة.
(*3) ويكيبيديا: (Blessy).
(*4) ويكيبيديا: (ولاية كيرالا).
(*5) ويكيبيديا: (كيرالا).
(*6) ويكيبيديا: (السينما المالايالاميّة).
(*7) محمّد أسلم إ.ك.: «رواية أيّام الماعز غُرّة في الأدب العربي المترجَم»، مقال منشور على موقع KTLYST، يُنظر في الشابكة عبر الرابط: https://www.ktlyst.org/resources-more.php?id=44 .
(*8) «الفيلم الهندي حياة الماعز يثير جدلاً على مواقع التواصل»، موقع بي بي سي-نيوز، المصدر السابق.
(*9) ويكيبيديا الإنكليزيّة: (Maryam).
(*10) ويكيبيديا (طالب البلوشيّ).
(*11) ويكيبيديا (ناريندرا مودي) و(حزب جاناتا بهارتا).
(*12) «السعودية تبدأ تطبيق إلغاء نظام الكفيل على العمالة الوافدة»، تغطية خبريّة من الرياض بقلم طارق خالد، شبكة مواقع الأناضول. يُطلب على موقع الشبكة: https://www.aa.com.tr/ar، ومواقع أخرى كثيرة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى