” عندما يقوم علماء الاجتماع بإجراء بحوثهم ومؤلفاتهم السوسيولوجية فإنهم لا ينهضون إلى موضوعاتهم البحثية بفتور ولا تكون عقولهم جوفاء. وسواء كانت موضوعاتهم تتعلق بطريقة تعامل الناس مع الموت، أو التطور الكلي والمستقبل المحتمل للمجتمع الحديث، فإنهم يركزون على جوانب معينة لما يجري ويقاربون موضوعاتهم بافتراضات معينة، ويؤكدون على مناهج بحثية معينة، ويمتلكون أنماطاً معينة من التساؤلات التي يريدون الإجابة عليها. وهذا يعني أن بحثهم يرتكز على طرق معينة للنظر إلى الأشياء التي تقدمها النظريات السوسيولوجية. إن ما تفعله النظريات هو تفسير تلك الموضوعات بطريقة واضحة ونظامية “.
إن المنظرين السوسيولوجيين مميزون لأنهم يعبرون عن افتراضاتهم أو فرضياتهم بطريقة نظامية جداً، ويناقشون إلى أي مدى تفسر نظرياتهم الحياة الاجتماعية بطريقة شاملة جداً. وما هو أكثر أهمية، أنهم يقدمون رؤى جديدة حول السلوك وأعمال المجتمعات.
تظهر أهمية التنظير والنظرية في تنمية الإبداع وتعزيز الخيال السوسيولوجي عند الباحثين. فالتنظير هو العملية التي تؤدي إلى النظرية، والنظرية مبنية، والتنظير هو عملية البناء. حيث يركز التنظير على الاكتشاف بدلاً من التبرير، فالتبرير يأتي لاحقاً. وهذا يعني أن النظرية ما هي إلا تصور مسبق لشيء ما، والبعض الآخر يرى أن النظرية تمثل فروض علمية، وهناك من يرى بأن النظرية هي قانون علمي، وفريق آخر ينظر إليها على أنها براديغم (نماذج). وبهذا المعنى فإن النظرية هي تفسير لمجموعة من الجهود المتراكمة للباحثين الذين يتخصصون في علم معين وتنتهي بالضرورة إلى صياغة مجموعة من التعميمات التي هي جزء من النماذج المتعددة والمختلفة.
بذلك تعتبر النظرية إطاراً تفسيرياً للظاهرة المدروسة عن طريق نسق مفاهيمي، يحدد علاقة بين متغيرات معينة بغرض التنبؤ بحدوثها، بأخذها مسافة مع المعرفة التلقائية والأفكار المسبقة. كما تُعتبر جزءاً لا يتجزأ من السيرورة المنهجية، حيث لا يمكن الاستغناء عنها. من خلالها، يتمكن الباحث من الابتعاد عن معوقات الحس المشترك. وفي سيرورة البحث، سيقوم الباحث باقتراح فرضيات محاولاً اختبارها والتي ستوجهها النظرية، كما يتعين عليه تحديد المفاهيم حتى يتبين دورها في بناء النظرية.
بمعنى آخر، تعني النظرية صوغاً صريحاً لعلاقات تصورية بين مجموعة من المتغيرات، يتم في ضوئها تفسير فئة من الإطرادات التي يمكن تحديدها تحديداً تجريبياً كما أشار كابلن. ويرى إيرنست ناجل Ernest Nagel في مقاله الشهير " مشكلات المفاهيم وصوغ النظرية في العلوم الاجتماعية Problems of Concepts and Theory Formulation in the Social Sciences " إن تحديد القواعد المنهجية (مراحل وعمليات تأسيس النظرية) لصوغ النظرية في علم الاجتماع بكل ما تحويه النظرية من معانٍ وما يتضمنه تفاوت معانيها من أسس عديدة، أمر يصعب تحقيقه من غير أن تقنن القواعد المنهجية لبناء النظرية وصوغها.
في حقيقة الأمر، تتكون النظرية على العموم من مفهومات، ومن قضايا أساسية تربط بين هذه المفهومات، ومن النتائج التي يمكن استخلاصها من هذه القضايا بواسطة الاستدلال المنطقي. والمفهومات حدود، تشمل المقولات والأنماط التصورية وغير ذلك من البناءات التصورية التي تحدد موضوع النظرية أي إنها تحدد الظواهر التي تتناولها النظرية ويبدو هذا التحديد الذي تقوم به المفهومات في اتجاهين: الاتجاه الأول تقوم فيه المفهومات بتحديد المشاهدة بالنسبة للظواهر التي تتناولها النظرية، والاتجاه الثاني تقوم فيه المفهومات بتحديد نظام تصنيفي يصور الخواص الرئيسية التي تسمى وحدة المشاهدة.
ويطلق على المفهومات التي تُستخدم في تنصيف وحدات المشاهدة استناداً إلى خواصها اسم المتغيرات وبعد أن يتم تحديد المتغيرات، تحدد العلاقات المنطقية التي يمكن أن تقوم بين مجموعة من المتغيرات التي تحويها لغة النظرية، ويصدق على التصنيف بمقتضى مفهومات النظرية ما يصدق على التصنيف العلمي عامةً، إذ ينبغي أن يكون التصنيف جامعاً بحيث تندرج تحته كل فئة يعبر عنها بمفهوم معين في النظرية وكل وحدات المشاهدة التي تحمل صفات الفئة، وأن يكون التصنيف مانعاً لا يسمح بإدراج وحدة بعينها من وحدات المشاهدة في أكثر من فئة واحدة. وعندما يتحقق ذلك الشرط، فإن في ذلك ما يتيح مشاهدة الظاهرة التي تتناولها النظرية مشاهدة منتظمة حيث تتحدد اتجاهات المشاهدة في ضوء مفهومات النظرية.
بناءً على ما تقدم سنحاول في هذه المقالة مناقشة العمليات الرئيسية التي من خلالها يتأسس بناء النظرية منذ بداية كونها معطاة في الواقع الاجتماعي، حتى تأسيس التعميم النظري العام. وحتى اكتسابها طابع القضية العلمية القادرة على توجيه البحث العلمي الامبيريقي المرتكز على معطيات الواقع الاجتماعي واطراداته. فإن تأسيس إطار نظري لا بد أن يمر من خلال أربع عمليات رئيسية، هي كما يلي:
1- التأسيس Construction: وتعتبر عملية التأسيس من أهم العلميات المتصلة ببناء النظرية وأخطرها. إذ يعتبر تأسيس النظرية محاولة لإنشائها بدقة، وفقاً لخطة يمكن الدفاع عنها بالاستناد إلى فهم واضح للمسلمات. على هذا النحو يعتبر تأسيس النظرية جهداً خاصاً يهدف إلى صياغة بعض القضايا النظرية التي تعتبر مقدمات منطقية أو تتضمن مبدأ منهجياً عاماً واضحاً قابلاً للاختبار الامبيريقي. وتتضمن عملية التأسيس النظري ثلاث عمليات فرعية هي:
أ - صياغة المفهوم :Concept Formulation إذا تعتبر صياغة المفاهيم من المهام الرئيسية لتأسيس النظرية، والمفهوم عبارة عن اسم أو رمز لفئة من الوقائع والأفكار، وقد يكون المفهوم ذا دلالة واقعية تتأسس بالنظر إلى الملاحظات الواقعية، أو قد يكون مجرداً بصورة كاملة. وصياغة مفهوم يتحقق حينما نضع مجموعة من الملاحظات الفجة فيما يتعلق بمتغير معين، بشكل مباشر في إطار مجموعة من المقولات التي نسميها مفاهيم.
ب - تأسيس القضية النظرية: في هذا السياق نسعى إلى خلق الصلة بين مفهوم ما وبين مفاهيم أخرى في إطار قضية حتمية. فإذا استطعنا تحديد مفهوم كمفهوم الانتحار عند دوركايم، فإننا نجد أن الانتحار كمفهوم يتصل بالضغوط الاجتماعية التي يتعرض لها المنتحر. في إطار ذلك فإن ما نعنيه بالضغوط الاجتماعية كمفهوم يصبح ذا أهمية قصوى في عملية التأسيس النظري، ما دام التعرف عليها يمكن أن يصبح أساساً لنظريات عن الشخص الذي يميل إلى الانتحار، ومن ثم سنطرح أهمية ملاحظة الضغوط الاجتماعية التي تقع على البشر ويكون من نتائجها تأسيس قضية تجريبية تتعلق بالعلاقة بين مفهوم الانتحار ومفهوم الضغوط الاجتماعية.
ج - إضافة قضايا نظرية: كما ذكرنا سابقاً إن الضغوط الاجتماعية تؤثر على ميل بعض البشر نحو الانتحار. فإننا نجد أنه وإن صاغ المنظّر مفهوم الانتحار والضغوط الاجتماعية، فإنه يجد نفسه مضطراً إلى تحديد طبيعة هذه العلاقة. ونحن وإن كنا لم نلاحظ التأثير، إلا أننا أدركناه من خلال مؤشراته. ومن المثال السابق إذا قلنا إن مفهوم الانتحار والضغوط الاجتماعية مفاهيم ذات طابع إمبيريقي، فإن مفهوم التأثير influence يشكل المفهوم النظري في هذا المثال. وهو يصاغ بطريقة تجعل منه متغيراً Variable في حالات واقعية فإن مدى تأثيره يبدأ من صفر وحتى أقصى مستوى، وحينئذ يكون باستطاعتنا أن نشتق الفرض القائل، أنه كلما كان تأثير الضغوط الاجتماعية هائلاً ازداد الميل إلى الانتحار عنه لو كانت الضغوط الاجتماعية في مستوى الصفر، إذ يفترض حدوث التأثير من خلال الضغوط الاجتماعية كوسيط لذلك. بيد أن هذا لا يمنع من تدخل متغيرات أخرى في أحداث الانتحار، ومن ثم يمكن تضمينها في قضايا مثلما حدث في القضية السابقة، بحيث أنه كلما زادت قضايا النظرية والمتغيرات التي تضمها زادت النظرية تعقيداً واكتمالاً.
2- تنظيم القضايا Codification: بينما يتركز جهد التأسيس النظري حول تحديد طبيعة المفهوم، ثم العلاقة بين المفاهيم حتى تأسيس القضية النظرية. فإن تأسيس النظرية يحتاج بالإضافة إلى ذلك تنظيم مجموعة القضايا التي تم التوصل إليها في إطار شكل منطقي منتظم ونسقي، وهي العملية التي يطلق عليها التنظيم Codification. والتنظيم هو الترتيب المنتظم والمحكم للتجربة المنظمة والمثمرة التي يتم إنجازها بواسطة إجراءات البحث، كذلك والنتائج العينية التي تنتج عن الاستفادة من هذه الإجراءات.
٣ - الاشتقاق Derivation: بينما تتصل عمليات التأسيس الافتراضي والتنظيم بصياغة بناء النظرية في مستوياته المتباينة، فإن الاشتقاق - كعملية تتبع في بناء النظرية الاجتماعية - يهتم أساساً بتأكيد كفاءة النظرية عن طريق إعادة تعريض قضايا النظرية في شكل فروض جديدة تحتاج إلى الصدق والإثبات الإمبيريقي. وبذلك تتأكد الصلة التي ينبغي أن تكون بين النظرية والبحث الامبيريقي، وتؤكد استمرار كفاءة النظرية، عن طريق الإعادة المستمرة لاختبار الفروض المشتقة من بنائها الأساسي. وإلى جانب أن الاشتقاق قد يعني محاولة تحديد طبيعة وخصائص بعض البيانات بالنظر إلى بعض الفروض المشتقة من بناء النظرية بشأنها، فإنه يساعد أيضاً في التحقق من سلامة التفسيرات البعدية التي قد تطرح في أعقاب اكتشاف أية معطيات أساسية تتعلق بمفاهيم معينة، أو بالعلاقات بين هذه المفاهيم. وبالنظر إلى هذه العمليات ذات الأهمية بالنسبة لبناء النظرية، فإننا نجد أن عمليتي التأسيس والتنظيم تتجهان من أسفل إلى أعلى، بحيث تسبق أولاهما الثانية، أي من مستوى المعطيات الامبيريقية إلى مستوى المبادئ والتوجيهات النظرية العامة فهي تتجه مما هو ملموس وواقعي إلى ما هو تركيبي وأكثر تجريداً. على خلاف ذلك نجد أن عملية الاشتقاق تتخذ اتجاها عكسياً، من البناء النظري إلى المعطيات الامبيريقية من خلال اشتقاق الفروض من بناء النظرية ثم إعادة اختبارها امبيريقياً، هذا بالإضافة إلى قطع الطريق في مواجهة أية كيانات نظرية زائفة كالتفسيرات البعدية، أو تلك التي تظل على مستوى التوجهات النظرية العامة.
4- الإبداع Creation: برغم أهمية هذه العملية لاستكمال بناء النظرية الاجتماعية فإنها تعتبر أقل العمليات من حيث مستوى التقنين، فليس يكفي أن تصوغ مفهوماً يشير إلى مجموعة من المعطيات الواقعية المتماثلة، أو تأسيس قضية عن طريق صياغة علاقة اطرادية بين مفهومين، أو ضم هذه القضايا من خلال عملية التنظيم في إطار بناء نجاهد أن يكون متسقاً ومنطقياً، إذ أنه لو كان الأمر على هذا النحو في بناء النظريات العلمية لوجدنا كماً من النظريات يقارب تقريبا كم المتخصصين في أي علم من العلوم. يؤكد ذلك ما يذهب إليه إيرنست ناجل من أن النظريات إلى جانب أنها جهد عقلي منظم فهي تعتبر (إبداعات حرة Free creations) للعقل. بل أننا نجد باحثاً مثل جوهان جالتونج يذهب إلى القول بأن توفر التراث العلمي في شكل معطيات أو تعميمات إمبيريقية ليس كافياً لقيام النظرية، إذ تعتبر النظرية هي الوحدة المعرفية الوحيدة في نسق التفكير العلمي التي لا تخضع في صياغتها للتنظيم. ذلك لأن بناء النظرية يعد إنجازاً خلاقاً، ومن هنا فإن الأمر لا يدعو للدهشة حين نجد نفراً قليلاً من المشتغلين في ميدان علمي معين هم القادرون على القيام بمثل هذا العمل. حيث نجد لديهم القدرة على القفز فوق الأدلة المنطقية، وإحساس خفي متصل بالجهد الخلاق، فصياغة النظرية تشبه - إلى حد كبير - إنجاز العمل الفني. ومن هنا كانت منهجية النظرية وصياغة النظرية متخلفة بالنسبة لمنهجية الفروض وصياغتها. وأنه يبدو أن نوعي الفلاسفة والعلماء اللذين يعملان على هذين المستويين مختلفين كيفياً.
خلاصة القول، تعتبر النظرية عبارة عن ربط معقد بين مفاهيم معينة، عبر مجموعة من الاقتراحات لفهم الظاهرة، تربطها علاقة ببعضها البعض. تسعى إلى تقدم الإطار التفسيري للظواهر المدروسة، مشكلة نسقاً من المفاهيم المرتبطة ببعضها البعض عن طريق نسق مفاهيمي، لتفسير الميكانيزمات المتحكمة بالظاهرة، بهدف التنبؤ بها. وهذا يعني أن النظرية في نظر ريتشارد سويدبيرغ Richard Swedberg، ليست عبارة عن موهبة عقلية فطرية فقط، هي بل هي مكونة من عدة أجزاء يتعين تركيبها معاً والتوفيق بينها بأسلوب خاص، أي إن على الباحث أن يبني النظرية من خلال إنشائها وتركيبها تركيباً.
وهكذا تتميز النظرية في علم الاجتماع بكونها تعبر عن مجموعة من الأفكار التي تجسد ماهية البنى والنظم الاجتماعية والممارسات الاجتماعية والعلاقات الاجتماعية بين الأفراد والجماعات بغرض فهمها واستيعابها. إنها عبارة عن ترابط للأفكار والقوانين والمفاهيم التي يتم تكوينها من الواقع الاجتماعي. فالنظرية تساعدنا على بلورة إجابة على سؤال معين، أو تفسير أحد الممارسات أو الظواهر في حياتنا اليومية.
-----------------------------------------------------
- المراجع المعتمدة:
- علي ليلة: علم الاجتماع وبناء النظرية الاجتماعية، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، الكتاب الأول، ط1، 2016.
- علي بن محمد الكاشف: النظريات الاجتماعية – الاتجاهات والمذاهب الكلاسيكية، بدون دار نشر، ب. ت.
- لمياء مرتاض نفوس: إشكالية التنظير في العلوم الإنسانية، دار المناهج للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 2021.
- عبد الإله فرح: التنظير والنظرية في سوسيولوجيا ريتشارد سويدبيرغ، ببلومانيا للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2024.
- رث والاس، ألسون وولف: النظرية المعاصرة في علم الاجتماع – تمدد آفاق النظرية الكلاسيكية، ترجمة: محمد عبد الكريم الحوراني، دار مجدلاوي، عمان، ط1 (العربية)، 2011-2012.
د. حسام الدين فياضإن المنظرين السوسيولوجيين مميزون لأنهم يعبرون عن افتراضاتهم أو فرضياتهم بطريقة نظامية جداً، ويناقشون إلى أي مدى تفسر نظرياتهم الحياة الاجتماعية بطريقة شاملة جداً. وما هو أكثر أهمية، أنهم يقدمون رؤى جديدة حول السلوك وأعمال المجتمعات.
تظهر أهمية التنظير والنظرية في تنمية الإبداع وتعزيز الخيال السوسيولوجي عند الباحثين. فالتنظير هو العملية التي تؤدي إلى النظرية، والنظرية مبنية، والتنظير هو عملية البناء. حيث يركز التنظير على الاكتشاف بدلاً من التبرير، فالتبرير يأتي لاحقاً. وهذا يعني أن النظرية ما هي إلا تصور مسبق لشيء ما، والبعض الآخر يرى أن النظرية تمثل فروض علمية، وهناك من يرى بأن النظرية هي قانون علمي، وفريق آخر ينظر إليها على أنها براديغم (نماذج). وبهذا المعنى فإن النظرية هي تفسير لمجموعة من الجهود المتراكمة للباحثين الذين يتخصصون في علم معين وتنتهي بالضرورة إلى صياغة مجموعة من التعميمات التي هي جزء من النماذج المتعددة والمختلفة.
بذلك تعتبر النظرية إطاراً تفسيرياً للظاهرة المدروسة عن طريق نسق مفاهيمي، يحدد علاقة بين متغيرات معينة بغرض التنبؤ بحدوثها، بأخذها مسافة مع المعرفة التلقائية والأفكار المسبقة. كما تُعتبر جزءاً لا يتجزأ من السيرورة المنهجية، حيث لا يمكن الاستغناء عنها. من خلالها، يتمكن الباحث من الابتعاد عن معوقات الحس المشترك. وفي سيرورة البحث، سيقوم الباحث باقتراح فرضيات محاولاً اختبارها والتي ستوجهها النظرية، كما يتعين عليه تحديد المفاهيم حتى يتبين دورها في بناء النظرية.
بمعنى آخر، تعني النظرية صوغاً صريحاً لعلاقات تصورية بين مجموعة من المتغيرات، يتم في ضوئها تفسير فئة من الإطرادات التي يمكن تحديدها تحديداً تجريبياً كما أشار كابلن. ويرى إيرنست ناجل Ernest Nagel في مقاله الشهير " مشكلات المفاهيم وصوغ النظرية في العلوم الاجتماعية Problems of Concepts and Theory Formulation in the Social Sciences " إن تحديد القواعد المنهجية (مراحل وعمليات تأسيس النظرية) لصوغ النظرية في علم الاجتماع بكل ما تحويه النظرية من معانٍ وما يتضمنه تفاوت معانيها من أسس عديدة، أمر يصعب تحقيقه من غير أن تقنن القواعد المنهجية لبناء النظرية وصوغها.
في حقيقة الأمر، تتكون النظرية على العموم من مفهومات، ومن قضايا أساسية تربط بين هذه المفهومات، ومن النتائج التي يمكن استخلاصها من هذه القضايا بواسطة الاستدلال المنطقي. والمفهومات حدود، تشمل المقولات والأنماط التصورية وغير ذلك من البناءات التصورية التي تحدد موضوع النظرية أي إنها تحدد الظواهر التي تتناولها النظرية ويبدو هذا التحديد الذي تقوم به المفهومات في اتجاهين: الاتجاه الأول تقوم فيه المفهومات بتحديد المشاهدة بالنسبة للظواهر التي تتناولها النظرية، والاتجاه الثاني تقوم فيه المفهومات بتحديد نظام تصنيفي يصور الخواص الرئيسية التي تسمى وحدة المشاهدة.
ويطلق على المفهومات التي تُستخدم في تنصيف وحدات المشاهدة استناداً إلى خواصها اسم المتغيرات وبعد أن يتم تحديد المتغيرات، تحدد العلاقات المنطقية التي يمكن أن تقوم بين مجموعة من المتغيرات التي تحويها لغة النظرية، ويصدق على التصنيف بمقتضى مفهومات النظرية ما يصدق على التصنيف العلمي عامةً، إذ ينبغي أن يكون التصنيف جامعاً بحيث تندرج تحته كل فئة يعبر عنها بمفهوم معين في النظرية وكل وحدات المشاهدة التي تحمل صفات الفئة، وأن يكون التصنيف مانعاً لا يسمح بإدراج وحدة بعينها من وحدات المشاهدة في أكثر من فئة واحدة. وعندما يتحقق ذلك الشرط، فإن في ذلك ما يتيح مشاهدة الظاهرة التي تتناولها النظرية مشاهدة منتظمة حيث تتحدد اتجاهات المشاهدة في ضوء مفهومات النظرية.
بناءً على ما تقدم سنحاول في هذه المقالة مناقشة العمليات الرئيسية التي من خلالها يتأسس بناء النظرية منذ بداية كونها معطاة في الواقع الاجتماعي، حتى تأسيس التعميم النظري العام. وحتى اكتسابها طابع القضية العلمية القادرة على توجيه البحث العلمي الامبيريقي المرتكز على معطيات الواقع الاجتماعي واطراداته. فإن تأسيس إطار نظري لا بد أن يمر من خلال أربع عمليات رئيسية، هي كما يلي:
1- التأسيس Construction: وتعتبر عملية التأسيس من أهم العلميات المتصلة ببناء النظرية وأخطرها. إذ يعتبر تأسيس النظرية محاولة لإنشائها بدقة، وفقاً لخطة يمكن الدفاع عنها بالاستناد إلى فهم واضح للمسلمات. على هذا النحو يعتبر تأسيس النظرية جهداً خاصاً يهدف إلى صياغة بعض القضايا النظرية التي تعتبر مقدمات منطقية أو تتضمن مبدأ منهجياً عاماً واضحاً قابلاً للاختبار الامبيريقي. وتتضمن عملية التأسيس النظري ثلاث عمليات فرعية هي:
أ - صياغة المفهوم :Concept Formulation إذا تعتبر صياغة المفاهيم من المهام الرئيسية لتأسيس النظرية، والمفهوم عبارة عن اسم أو رمز لفئة من الوقائع والأفكار، وقد يكون المفهوم ذا دلالة واقعية تتأسس بالنظر إلى الملاحظات الواقعية، أو قد يكون مجرداً بصورة كاملة. وصياغة مفهوم يتحقق حينما نضع مجموعة من الملاحظات الفجة فيما يتعلق بمتغير معين، بشكل مباشر في إطار مجموعة من المقولات التي نسميها مفاهيم.
ب - تأسيس القضية النظرية: في هذا السياق نسعى إلى خلق الصلة بين مفهوم ما وبين مفاهيم أخرى في إطار قضية حتمية. فإذا استطعنا تحديد مفهوم كمفهوم الانتحار عند دوركايم، فإننا نجد أن الانتحار كمفهوم يتصل بالضغوط الاجتماعية التي يتعرض لها المنتحر. في إطار ذلك فإن ما نعنيه بالضغوط الاجتماعية كمفهوم يصبح ذا أهمية قصوى في عملية التأسيس النظري، ما دام التعرف عليها يمكن أن يصبح أساساً لنظريات عن الشخص الذي يميل إلى الانتحار، ومن ثم سنطرح أهمية ملاحظة الضغوط الاجتماعية التي تقع على البشر ويكون من نتائجها تأسيس قضية تجريبية تتعلق بالعلاقة بين مفهوم الانتحار ومفهوم الضغوط الاجتماعية.
ج - إضافة قضايا نظرية: كما ذكرنا سابقاً إن الضغوط الاجتماعية تؤثر على ميل بعض البشر نحو الانتحار. فإننا نجد أنه وإن صاغ المنظّر مفهوم الانتحار والضغوط الاجتماعية، فإنه يجد نفسه مضطراً إلى تحديد طبيعة هذه العلاقة. ونحن وإن كنا لم نلاحظ التأثير، إلا أننا أدركناه من خلال مؤشراته. ومن المثال السابق إذا قلنا إن مفهوم الانتحار والضغوط الاجتماعية مفاهيم ذات طابع إمبيريقي، فإن مفهوم التأثير influence يشكل المفهوم النظري في هذا المثال. وهو يصاغ بطريقة تجعل منه متغيراً Variable في حالات واقعية فإن مدى تأثيره يبدأ من صفر وحتى أقصى مستوى، وحينئذ يكون باستطاعتنا أن نشتق الفرض القائل، أنه كلما كان تأثير الضغوط الاجتماعية هائلاً ازداد الميل إلى الانتحار عنه لو كانت الضغوط الاجتماعية في مستوى الصفر، إذ يفترض حدوث التأثير من خلال الضغوط الاجتماعية كوسيط لذلك. بيد أن هذا لا يمنع من تدخل متغيرات أخرى في أحداث الانتحار، ومن ثم يمكن تضمينها في قضايا مثلما حدث في القضية السابقة، بحيث أنه كلما زادت قضايا النظرية والمتغيرات التي تضمها زادت النظرية تعقيداً واكتمالاً.
2- تنظيم القضايا Codification: بينما يتركز جهد التأسيس النظري حول تحديد طبيعة المفهوم، ثم العلاقة بين المفاهيم حتى تأسيس القضية النظرية. فإن تأسيس النظرية يحتاج بالإضافة إلى ذلك تنظيم مجموعة القضايا التي تم التوصل إليها في إطار شكل منطقي منتظم ونسقي، وهي العملية التي يطلق عليها التنظيم Codification. والتنظيم هو الترتيب المنتظم والمحكم للتجربة المنظمة والمثمرة التي يتم إنجازها بواسطة إجراءات البحث، كذلك والنتائج العينية التي تنتج عن الاستفادة من هذه الإجراءات.
٣ - الاشتقاق Derivation: بينما تتصل عمليات التأسيس الافتراضي والتنظيم بصياغة بناء النظرية في مستوياته المتباينة، فإن الاشتقاق - كعملية تتبع في بناء النظرية الاجتماعية - يهتم أساساً بتأكيد كفاءة النظرية عن طريق إعادة تعريض قضايا النظرية في شكل فروض جديدة تحتاج إلى الصدق والإثبات الإمبيريقي. وبذلك تتأكد الصلة التي ينبغي أن تكون بين النظرية والبحث الامبيريقي، وتؤكد استمرار كفاءة النظرية، عن طريق الإعادة المستمرة لاختبار الفروض المشتقة من بنائها الأساسي. وإلى جانب أن الاشتقاق قد يعني محاولة تحديد طبيعة وخصائص بعض البيانات بالنظر إلى بعض الفروض المشتقة من بناء النظرية بشأنها، فإنه يساعد أيضاً في التحقق من سلامة التفسيرات البعدية التي قد تطرح في أعقاب اكتشاف أية معطيات أساسية تتعلق بمفاهيم معينة، أو بالعلاقات بين هذه المفاهيم. وبالنظر إلى هذه العمليات ذات الأهمية بالنسبة لبناء النظرية، فإننا نجد أن عمليتي التأسيس والتنظيم تتجهان من أسفل إلى أعلى، بحيث تسبق أولاهما الثانية، أي من مستوى المعطيات الامبيريقية إلى مستوى المبادئ والتوجيهات النظرية العامة فهي تتجه مما هو ملموس وواقعي إلى ما هو تركيبي وأكثر تجريداً. على خلاف ذلك نجد أن عملية الاشتقاق تتخذ اتجاها عكسياً، من البناء النظري إلى المعطيات الامبيريقية من خلال اشتقاق الفروض من بناء النظرية ثم إعادة اختبارها امبيريقياً، هذا بالإضافة إلى قطع الطريق في مواجهة أية كيانات نظرية زائفة كالتفسيرات البعدية، أو تلك التي تظل على مستوى التوجهات النظرية العامة.
4- الإبداع Creation: برغم أهمية هذه العملية لاستكمال بناء النظرية الاجتماعية فإنها تعتبر أقل العمليات من حيث مستوى التقنين، فليس يكفي أن تصوغ مفهوماً يشير إلى مجموعة من المعطيات الواقعية المتماثلة، أو تأسيس قضية عن طريق صياغة علاقة اطرادية بين مفهومين، أو ضم هذه القضايا من خلال عملية التنظيم في إطار بناء نجاهد أن يكون متسقاً ومنطقياً، إذ أنه لو كان الأمر على هذا النحو في بناء النظريات العلمية لوجدنا كماً من النظريات يقارب تقريبا كم المتخصصين في أي علم من العلوم. يؤكد ذلك ما يذهب إليه إيرنست ناجل من أن النظريات إلى جانب أنها جهد عقلي منظم فهي تعتبر (إبداعات حرة Free creations) للعقل. بل أننا نجد باحثاً مثل جوهان جالتونج يذهب إلى القول بأن توفر التراث العلمي في شكل معطيات أو تعميمات إمبيريقية ليس كافياً لقيام النظرية، إذ تعتبر النظرية هي الوحدة المعرفية الوحيدة في نسق التفكير العلمي التي لا تخضع في صياغتها للتنظيم. ذلك لأن بناء النظرية يعد إنجازاً خلاقاً، ومن هنا فإن الأمر لا يدعو للدهشة حين نجد نفراً قليلاً من المشتغلين في ميدان علمي معين هم القادرون على القيام بمثل هذا العمل. حيث نجد لديهم القدرة على القفز فوق الأدلة المنطقية، وإحساس خفي متصل بالجهد الخلاق، فصياغة النظرية تشبه - إلى حد كبير - إنجاز العمل الفني. ومن هنا كانت منهجية النظرية وصياغة النظرية متخلفة بالنسبة لمنهجية الفروض وصياغتها. وأنه يبدو أن نوعي الفلاسفة والعلماء اللذين يعملان على هذين المستويين مختلفين كيفياً.
خلاصة القول، تعتبر النظرية عبارة عن ربط معقد بين مفاهيم معينة، عبر مجموعة من الاقتراحات لفهم الظاهرة، تربطها علاقة ببعضها البعض. تسعى إلى تقدم الإطار التفسيري للظواهر المدروسة، مشكلة نسقاً من المفاهيم المرتبطة ببعضها البعض عن طريق نسق مفاهيمي، لتفسير الميكانيزمات المتحكمة بالظاهرة، بهدف التنبؤ بها. وهذا يعني أن النظرية في نظر ريتشارد سويدبيرغ Richard Swedberg، ليست عبارة عن موهبة عقلية فطرية فقط، هي بل هي مكونة من عدة أجزاء يتعين تركيبها معاً والتوفيق بينها بأسلوب خاص، أي إن على الباحث أن يبني النظرية من خلال إنشائها وتركيبها تركيباً.
وهكذا تتميز النظرية في علم الاجتماع بكونها تعبر عن مجموعة من الأفكار التي تجسد ماهية البنى والنظم الاجتماعية والممارسات الاجتماعية والعلاقات الاجتماعية بين الأفراد والجماعات بغرض فهمها واستيعابها. إنها عبارة عن ترابط للأفكار والقوانين والمفاهيم التي يتم تكوينها من الواقع الاجتماعي. فالنظرية تساعدنا على بلورة إجابة على سؤال معين، أو تفسير أحد الممارسات أو الظواهر في حياتنا اليومية.
-----------------------------------------------------
- المراجع المعتمدة:
- علي ليلة: علم الاجتماع وبناء النظرية الاجتماعية، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، الكتاب الأول، ط1، 2016.
- علي بن محمد الكاشف: النظريات الاجتماعية – الاتجاهات والمذاهب الكلاسيكية، بدون دار نشر، ب. ت.
- لمياء مرتاض نفوس: إشكالية التنظير في العلوم الإنسانية، دار المناهج للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 2021.
- عبد الإله فرح: التنظير والنظرية في سوسيولوجيا ريتشارد سويدبيرغ، ببلومانيا للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2024.
- رث والاس، ألسون وولف: النظرية المعاصرة في علم الاجتماع – تمدد آفاق النظرية الكلاسيكية، ترجمة: محمد عبد الكريم الحوراني، دار مجدلاوي، عمان، ط1 (العربية)، 2011-2012.
الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة
قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً