مقتطف مصطفى الحاج حسين - مذكرات ما قبل الولادة... الجزء السابع من رواية

تمنّى أبي أن يلتقي بأمّي ولو للحظة فقط، ليقول لها كلمة واحدة.. سيتحدى أعراف مدينته ويعترف لأمّي دون خوف أو خجل.. نعم سيضرب بعرض الحائط كلّ التّقاليد والأعراف والعادات البالية.. وسيهتف بحرقة، ومرارةِ، وتحّد، وإصرار:
- أحبّكِ.. أحبَّكِ.. يا (زينب).. يا حبيبتي.. يا زوجتي الرائعة.. يا أمّ ابني الذي ما شبعت منه بعد.. ابني الذي لا تغيب عنّي ملامح وجهه المضيئة.. والمشعّة بالفرحة والسّعادةِ.. وبسمته السّاطعة بالموسيقا، والورود.
مسح أبي دمعته، وخرج من غرفته..
ذهب إلى(القبّوسة)، وهي غرفة صغيرة، حيطانها من حجر الحوّار الأبيض.. بلا سقف، تقع في زاوية الدّار،قرب (الدّكة) المصطبة العالية، عند الحائط الشّمالي، من الدّار، وبجانبها دالية العنب، المتفرعة عنها، غصون عديدة، وهائلة.. وهناك تفقد عدّة شغله، لوازم أدوات المعمار، وقام بوضعها جميعها في كيس من الخيش، ثم ربط الكيس، ووضعه بجانب الباب، وخرج دون أن ينتبه له أحد، من أسرته.
جدّتي وعمّاتي الثلاثة، و (فطينة) زوجة عمّي (سعيد)..مشغولات بالتّحضير لزواج أبي، فقد أعطى جدّي نقوداً لجدّتي لشراء كل ما يلزم، من ذهب، وقماش، وأدوات زينة، وما تحتاج من أدوات ضروريّة.. وكان جدّي عازماً على إقامة عرس للرجال وللنّساء في غاية الجمال والروعة، ليكون حديث أهل البلد، وكلّ هذا نكاية،بجدّي (عبيد)، ليقهره، ويجعله يندم على تشدّده وعناده.
عند زاوية الحارة التّرابية، وقف أبي وأسند ظهره، على حائط قديم البنيان، ووقف يتأمّل، ويفكّر، ويخطّط، ويحلم ويداري دموع عينيه المتوثّبة للإنحدار .. وقال لنفسه:
- عليّ أن أحاول وللمرّة الأخيرة.. هذه المرّة لن يكون أحد معي.. سأذهب بمفردي، عمّي كان يحبّني.. وإنّ انزعاجه ليس منّي، بل من أبي.. وهو يدرك ليس الذّنب ذنبي، ولا ذنب ابنته، كان على أبي ألّا يطردنا، من أجل سبب بسيط وتافه.. فأنا وزوجتي، لا مشاكل بيننا، ولا خلاف.. نحن على تفاهم ووفاق، بل على محبة وعشق.. سأذهب إليه وأرجوه، وأقبّل يديه، وسأطلعه على ما عزمت عليه.. لأنِّي أرفض أن أتزوّج على ابنته، لذلك سأهربّ.. وأترك البلد.. ولن يعرف أحد أين مكاني.
وبدرت في ذهن أبي فكرة.. أعجبته
ونالت إستحسانه.. وعزم على تنفيذها فوراً، بدون تأخر أو تردّد.. فبقيّ على آذان الظّهر القليل من الوقت.. سيذهب وينتظر جدّي (عبيد)، حين ينتهي من الصّلاة، في الجامع.. ويقترب منه.. يسلم عليه ويكلّمه.
وعلى الفور، تحرّك، وذهب، دون إبطاء أو تأخر.
وقف بعيداً عن الجامع، ينتظر أن يحلّ موعد الآذان.. وحين أذّن المؤذّن، أخذ يراقب وفود القادمين للجامع، لتأديّة صلاة الظّهر.. وأخيراً لمح من بعيد جدّي، قادم بمفرده للصلاة، فتقدّم من باب الجامع ينتظره من إنتهاء صلاته، وخروجه، ليكلّمه.
كان مرتبكاً، متردّداً، حائراً، خجلاً،
متخوّفاً، منقبض الصّدرِ، خافق القلب، وزائغ النّظرات.
وحين بدأ المصلّون بالخروج من باب الجامع، تنحّى أبي قليلاً، عن الباب، وأخذ ينتظر خروج جدّي.. وكلّه قلق وريبة.. وأخيراً بان جدّي، بقنبازه المقلّم بالأبيض والأسود..وحزامه الأسود والعريض، والسّترة البنّية اللون، ومنديل رأسه الأبيض (المركزيت) ، و(عقاله) الأسود ذو الشّرائبِ المتدّلية، من الخلف.
كان جدّي (عبيد) يمشي ببطء، وكأنّه يشكو من وجع، ألمّ برجليه، ذات (التّاسومة الحمراء).. تبعه أبي، في تردّد، وخشية، وهيبة.. كان يلتفت حوله، وهو يقترب من جدّي.. أخيراً تجرأ، وتنحنح، وبصوت منخفض، قال:
- السّلام عليكم يا عمّي.
توقّف جدّي عن المشي، في الزّقاق الضّيق، التّرابي، والمتعرّج بصعوده.. تلفّت إلى أبي، وقال لاهثاً:
- أهلا ابني (محمد).
تنفّس أبي الصّعداء.. ها هو جدّي، يردّ عليه التّحيّةَ، دون أن ينهره، أو يشتمه، أو يهمّ بطرده، أوضربه.. وهذا ما كان يخشاه، ويجعله متردّداً.. فشكر بأعماقه ربّه.. وتجرأ أكثر، وقال وفمه جاف من اللعاب:
- عمّي.. أتسمح لي بكلمتين معك؟!.
يبدوا، أنّ جدّي قد لان قلبه، اتجاه أبي.. بعد أَن شاهد ما آلت إليه أحوال أبي، من هزال، وتعب، وشحوب، واصفرار بوجّهه، والصّوت الكسير، الذي ينمّ عن قنوط، ويأس، وحزن، وذل.. وهو يحبّ أبي، ويعجبه، ويحنّ عليه.. ويتباهى به أمام النّاس، على أن يكون صهره، زوج ابنته الغاليّة، والعزيزية على قلبه.. والتي هو مستعد أن يفعل المستحيل، لإسعادها.. لكن حماقة جذّي (أبو حسين)، الذي كان صديقه، وعزيزاً عليه جدّاً.. كانت سبب إنزعاجه وثورته واتخاذه تلك الشّروط.. التي رفضها جدّي الآخر، والذي أراد تزوّيج ابنه مرّة أخرى، على ألّا يذعن، ويرضخ، لتنفيذ تلك الشّروط.
ابتسم جدّي، حين أراد أن يجيب على رجاء أبي.. وقال يدعوه بصوت فيه من المودة والحنان والتّقدير الكثير:
- ما رأيك أن ندخل إلى داري، وتحدثني بما تريد؟.
رباه!!.. أهذا هو جدْي، المتصلّب في كلامه؟!.. أبي لا يصدّق نفسه، يستمع إلى هذا الكلام، ومن جدّي (عبيد).. أهو حلم؟!.. أهو نائم؟!.. أهو يتمنّى؟!.. أم يرجو ؟!.
سار أبي مع جذي، على أرض تهزج
تحت قدميه، وتحت سماء تضيءُ بفرحته.. الهواء أخرج من جيوبه، النّسائم الثّرية بالعطر، والآمال المزهرة، وتحوّل حرّ الصّيف، إلى أجواء شديدة النّعومة والملمس، تشبه طقس الجنّة.
دخل جدّي داره، وقف أبي ينتظر، وبه خوف، أن يطلع عليه خالي (عبدو)، ويفسد عليه فرحته، ويأخذ بدفعه عن الباب، ويطرده.. فهو عصبيّ، نزق، يصغر أبي بسبع سنوات.. قويّ البنية، له عضلات بارزة.. وصدر عريض،ويدين تشبهان الفولاذ.. لكن والحمد لله ها هو جدّي يخرج، ليدعو أبي للدخول.
أحسّ أبي بأنّه يدخل إلى الفردوس،
الذي كان يفقده.. هنا تخيّم رائحة
والدتي، وأنفاس أخي الجميل الرّائع.
دخل الغرفة التي فيها الكثير، من لمسات أمّي، وبصماتها التي بإمكانه أن يميّزها، من بين آلاف البصمات.. جلس وقلبه يترقّب أيّة حركة تصدر من الخارج، إلى أن دخل جدّي عليه، مرحباً ومبتسماً، ثمّ ناول أبي علبة تبغه، قائلاً:
- تفضل.. لفّ سيجارة.. في البداية.
انتفض أبي، فهو لم يسبق له، أن تجرّأ ودخّن سيجارة، أمام جدّي.. كما أنّه لا يدخن أمام أبيه، أو أعمامه
، أو أولاد عمّه، (أبو حسن) وأخيه (سلمو).. فقال يعتذر:
- لا.. أستغفر الله.. أنت مقامك كبير عندي، كمقام أبي.. لا يمكن أن أدخن أمامك يا عمّي.
وأصرٍ جدّي على أبي، فها هي يده ما تزال ممدودة، تحمل علبة التّبغ، وهو يقول:
- أنت رجل.. وصار عندك ولد، يساوي الدّنيا كلّها.. خذ ودخّن.. أنا أسمح لك.
وتناول أبي علبة تبغ جدّي، ويده راعشة، والخجل، والإرتباك، كانا باديان عليه، بقوّةٍ، والعرق البارد يرشح من جبينه.
كانت أمّي في الغرفة المجاورة، تبكي من فرط فرحتها، بمجيء أبي.. كم دعت، وابتهلت، وتضرّعت، ورجت وتوسّلت، إلى الله أن يعيدها إلى زوجها، الذي تحبّه، وتكنّ له كلّ الإحترام، والتقدير، والمودّة.. فهو نصيبها من هذه الدّنيا، ووالد ابنها.. ألا يكفي أنّها فقدت ابنها (سامي) الأوّل.. واحترق قلبها عليه، إلى أن عوّضها الله بأخي (سامي الثاني)، فهل ستفجع وتفقد في هذه المرّة زوجها، بلا ذنب ارتكبته، أو ارتكبه هو المسكين، والده هو المتحكم به، القاسي، والصّعب، والعنيد، والمتكبّر.
كان أبي يقول لجدّي، بعد أن أشعل سيجارته:
- عمّي.. ارجوك ساعدني.. أنا قرّرت أن أهرب من (البلدة).. ربّما اذهب إلى (حلب) أو (بيروت).. أهلي خطبوا لي.. وأنا لا أريد، غير زوجتي وابني.. وعجزت عن إيجاد حلّ، ولا يمكن لي أن أطاوع أبي وأمّي.
سكت جدّي برهة، ومن الواضح أنّه كان يفكّر.. تأمّل أبي مليَّاً، ثمّ تكلّم:
- اسمع يا (محمد).. أنا عندي لك حل.
هتف أبي بحرقة:
- ما هو أرجوك يا عمّي.. قله لي.
- أن تترك أهلك.. وتعيش عندي هنا، أنت، وزوجتك، وابنك.
ذهل أبي، بل صعق.. كان كلام جدّي، مفاجأة له، لم تخطر على باله.. أمعقول هذا؟!.. يترك دار أبيه، ويسكن عند أهل زوجته؟!.. إن وافق وفعلها، سيقتل أباه بفعلته هذه حتماً.. سيذبحه أو يموت.. لا أحد يعرف من هو جدّي (أبو حسين)، إنّه ابن (الأغا)، سليل الإقطاع.. لا يقبل أن يغلبه أحد، وينتصر عليه، مهما كان.. حتّى وإن جار عليه الزّمان.. َتغيرت الأحول.. لكنه ابن عزّ، ورثه عن أبيه.. وأبي لا يمكن له، أن يكون أداة ضدّ أبيه، الذي يحبّه مهما فعل به.. دمدم أبي:
- أهذا حلّ برأيك يا عمْي؟!.. أيعقل أن تطلب منّي هذا؟!.. وكأنّك لا تعرف أبي، ألم يكن صديقك المقرّب؟!..ألم تزوجني من ابنتك، بدافع محبّتك له؟!.. لا يا عمّي، مستحيل، أن أقبل عرضك هذا.
قال جدّي (عبيد):
- أنا أريدك أن تكون حرّاً، أنت وابنتي، و تعيشا دون مشاكل.
ودخلت جدّتي (عيوش)، وهي تحمل أخي الصّغير (سامي)، ليراه أبي.. فنهض أبي، سلّم على ابنة عمّه، حماته.. واستقبل أخي بحرارة، حضنه، وضمّه بلهفة وشغفٍ، وقبّله، قُبلاً كثيرة وكبيرة، وساخنة، وكانت عيناه تترّقرقان بنيرانِ روحه.
قالت جدّتي بعد أن فهمت عرض جدّي على أبي.. وعلى عدم موافقة أبي على هذا العرض.. الذي يجد صعوبة في تنفيذه:
- عندي فكرة، تخرجكما من هذا المأزق.
أسرع أبي وهتف هاتها.. أنقذينا يا ابنة العمّ، (أمّ عبدو).
وكان جدّي قد أهتمَّ، بما ستقوله جدّتي، فقال:
- تفضّلي.. نحن نسمعك.
- ما رأيك أن تعطيه (مصاري)، ويستأجر داراً، يسكن فيها مع زوجته وابنه، بمفردهم.. ويكونا لوحدهما، بعيداً عن الكلُّ؟.
وقال جّدي.. هذا ما طلبته من البداية.. ورفضه عمّك (سامي).. فما الجديد في هذا الأمر؟.
وافقه أبي، متسائلاً:
- نعم.. ما الجديد؟!.
ردّت جدّتي، وهي تبتسم:
- عمّي (سامي) رفض الفكرة، لأنّك تطلب منه، أن يشتري أو يستأجر
، لابنه من نقوده.. وهنا أنت ستعطي النّقود إلى (محمد)، ليستأجر بها.. يعني لم يعد بحاجة، لنقود، ومساعدة أبيه.. فما علاقته بابنه، إن أراد أن يستقلّ بنفسه، مع أسرته الصغيرة؟!. هل في هذا عيب أو حرام؟!.
أبي ما زال يفكر، بهذه الفكرة، ويقول في نفسه - هذه أفضل طريقة، لكنّ والدي، سيجنّ، إن عرف إني أخذت نقوداً من أهل زوجتي.. لذلك قال:
- النّقود التي سأحتاجها، ستكون ديناً عليّ طبعاً.. ومع هذا سيرفض أبي إن قلت له بأنّي استدنتها منكم.
هتف جدّي بعجلة، وبدون تأخير:
- النّقود منّي هي لابنتي.. وانا مستعدّ أن أشتري لها داراً.. إن إحتاج الأمر.
قال أبي:
- ولكنّي أنا لا أريد.
ردّ عليه جدّي:
- ألن تكون ابنتي، أحد الوارثين لي، إن أنا متّ؟.. أذاً سأعطي ابنتي، ورثتها منّي، وأنا على قيد الحياة.. فهل هناك ما يمنع؟!.. أو يعارض؟!.
قالت جدّتي بتأثر:
- بعيد الشّر عنك.. أطال الله لنا بعمرك.
وقال أبي:
- آمين.. المهم الآن أن أستأجر داراً، وأستقلّ بنفسي، دون الحاجة لأبي.
حين أحضرت أمّي الشّايِ، ونقرت بأصابعها على باب الغرفة، ونهضَت جدّتي، لتتناول صينيّة الشّاي منها، صرخ جدّي من مكانه:
- أدخلي يا (زينب).. تعالي وسلّمي على زوجك.
خفق قلب أبي بقوّةٍ عظيمة.. كادالسّقف الخشبي، للغرفة أن يحلّق عالياً، مع خفقات قلبه.. وسرت البهجة والسّعادة، في عروقه بدلّ الدّم.. وكانت خلجات روح أبي، تهتف بفرحة ما لها نظير - ما أروعك يا عمّي.. وما أطيبك.. وما أعظمك.. أنت الذي كنت أحسبك، مثل أبي ظالماّ، وقاسياً، بلا قلب، أو رأفة.. كم أنا أحبّكَ، وأحترمك، وأقدّرك.
عندما فتحت جدّتي الباب، وتناولت
من أمّي صينيّة الشّاي، قالت لها بدّلي ثيابك، وتعالي سلّمي على زوجك.. لقد سمح لك أبوك، وهو يناديك.
جنّ جنون قلب أمّي الرّهيف.. طار صواب الفرحة، في خلاياها، التي نبضت بالضّوءِ، وشعّت ضحكة الدّم، وتناثرت قطرات الوميض من عينيها،
هي لا تصدّق ما قالته لها.. لعلّها تتخيّل، تحلم، تتمنّى، ترغب، كما في كلّ مرّة.. استقبلتها المرآة راقصة، كان النّور مجمّعاً في غرفتها، جاء يبارك لها، فكم ذرفتْ عيناها، من دموع في هذه الأيّام الأخيرة؟!.
ستعود إليها سعادتها، إن شاء الله.. وهتفت لها مرآتها المدلّلة - قلت لك لن يتخلّى عنك وعن ابنه.. سيعود مشتاقاً، وبسرعة انتقت ما ستلبس، وارتدته، وووو، كانت جاهزة، لتدّق الباب، وتدخل، مرتبكة.. محمرّة الخدّين.. وانحنت على يد أبي، تقبّلها.. بحبّ، بشوق، بحنان.. وكان أبي يحسّ بلمسات شفتيها، بإرتعاشة أنفاسِها المضطرمة.. وتمنى لو ينفرد بها، ليعانق نبض رقّتها، وعذوبة حضورها.. ولمّا انتبه، من شروده وذهوله، سحب يده بسرعة.. وقال بتلعثم:
- أهلاً.. يابنة الحلال والأصول.
كانت تحضن أخي (سامي)، وتختار مكاناً لتجلس فيه.. وإذ بخالي
(عبدو) يدخل محمرّ العينين، يصرخ بجنون:
- ماذا يفعل، ابن السكران هنا ؟!.

مصطفى الحاج حسين.
إسطنبول
يتبع.. الجزء الثامن.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى