د. رضوان كعية - حوار الثقافات: مدخل لقراءة رواية (الرفيق)

تصور رواية (الرفيق) للأستاذ موسى مليح رحلة البحث عن الرفيق أو المخلص أو المناضل الذي يسعى إلى غرس القيم النبيلة في نفوس المجتمعات العربية التي باعت أوطانها وشعوبها مقابل الاستقواء بالآخر، والاحتماء به، رغبا ورهبا لتتسلط على الناس، ناسية أو متناسية ضعفها ووهن بيتها الداخلي (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) .

1728330916212.png

وبين البداية والنهاية، تتحرك الأحداث بأسلوب مشوّق، يرصد تفاعل الشخصيات وحواراتهم المثمرة في سبيل التشبث بالمبادئ المشتركة، وتقريب وجهات النظر ونقد الواقع العربي المشترك، الذي باتت معاول الهدم الداخلية تحاربه وتطمح إلى تفتيته وطحنه ليغدو لقمة سائغة في متناولها، نظرا لكونها لا تملك أسنانا قوية تطاوعها على المضغ ضمانا لبقائها إلى وقت معلوم.
وتأتي هذه الورقة لتقديم قراءة في الرواية المذكورة، منطلقة من تيمة (حوار الثقافات) بوصفها قوة فاعلة سخرها السارد في تحريك الأحداث وتطويرها من البداية حتى النهاية. منطلقين من أن كل قراءة تسعى إلى إنتاج كتابة ومعرفة جديدتين من خلال محاورة النصوص الأدبية ، وذلك بعد تذوق النصوص واستخراج كتابة من صلبها قد تكون مغايرة لما قاله المؤلف. وعليه فالاكتفاء بلغة واصفة للخطاب الإبداعي عموما والروائي على وجه الخصوص لايكفي؛ "لأن الرواية أقدرُ على أن تقول ما تريد وإنما يصبح الحوار ممكنا بين النقد والرواية عندما يسهمان معا في إنتاج تلك المعرفة النوعية المبثوثة بين الثنايا والمنعرجات" . والنصوص الإبداعية بطبيعتها تكون "متحركة دلاليا، لا تقرأ نفسها بنفسها، (بل) تمتلئ بثغرات الصمت وعلامات الغياب ووفرة الإحالات إلى ما هو خارج النص، وتفرُّ هذه النصوص من الفرضيات الجاهزة ولغةِ الظاهر المحدَّد، وتحطّم أي تقديم مرآوي وتسخر منه، في علاقتها المتعددة المراوغة بين الدال والمدلول، حيث يطفو الدال هائما بين مدلولات لا تعد ولا تحصى" .
وعلى هذا الأساس يستوقفنا أول مقطع يبرز فيه الحوار، وهو ما دار بين السارد (أبي خليل) واللجنة العُمانيةالتي قدمت إلى الرباط لاختيار المدرسين المغاربة المنتقين للالتحاق بالعمل بسلطنة عمان، حيث قدّم المترشح أبو خليل لأعضاء اللجنة ما أكد لهم إلمامه بجوانب من البعد الحضاري لمحافظة ظفار، وبخاصة "الجبهة الشعبية لتحرير ظفار؛ كأول منظمة سياسية ثورية ظهرت في الخليج العربي، منذ انطلاقها سنة 1965. زمن السلطان سعيد بن تيمور، وكيف امتدت بين القبائل الجنوبية وواجهت النظام والاستعمار البريطاني بالسلاح ولم تستسلم قبل أن يتواطأ شاه إيران وبريطانيا والأردن على إخماد شرارتها وذلك بُعيْد استلام السلطان قابوس السلطة من أبيه سنة 1970" .
يبدو أن الذي أقنع اللجنة باختيار المترشح هو معرفته المسبقة بالسياق السياسي للمنطقة التي سيُعيَّن فيها، وقد بدا لهم من خلال كلامه مع اللجنة أنه متشبع بالقيم الوطنية التي لا تختلف مع النظام العُماني، خصوصا أن المترشح ذكر السلطان قابوس على رأس هرم السلطة، مما يدل على أنه لا ينتمي إلى أي جبهة انفصالية أو جهة معادية لأمن البلاد واستقرارها. هذا بالإضافة إلى أن معرفة المترشح بجغرافية البلاد وجماليتِها وتاريخِها السياسي، كل ذلك سيساعده على الانسجام مع ظروف العمل الجديدة، ولا سيما أن الربع الخالي أو صحراء قتبيت في انتظاره، رفقة زملاء من جنسيات مختلفة، وهنا ستظهر صورة أخرى لحوار الثقافات ولنظام التعايش بين عينة تمثل عقليات وإيديولوجيات مختلفة.
تذكر لنا الرواية أن الأساتذة الذين عملوا في مدرسة تقع في قتبيت لموسم دراسي كامل كلهم عرب لكن من جنسيات مختلفة، وهم: المغربي أبو خليل أستاذ اللغة العربية، والطيب عرقلة من السودان أستاذ اللغة الإنجليزية، ومحمد حنانيا أستاذ العلوم والرياضيات من مصر، والحبيب زويتن معلم السلك الابتدائي من تونس وهو المكلف بتدبير الشؤون الإدارية، وسعد قرقور مدرس ابتدائي من تونس، وجابر عبد المعز المزابي أستاذ التاريخ من الجزائر، وأنور الحسين أستاذ اللغة الإنجليزية من الأردن .
وقد كان هذا الفريق التربوي يحسن استغلال الاختلاف بين عناصره، فيوظفه في تحقيق التوازن النفسي الذي فقده كل واحد حين ابتعد عن وطنه، إذ لكل واحد حكايته ودوافعه التي جعلته يرحل للتدريس بسلطنة عمان. كما كانت المجموعة تستغل الاختلاف في تكسير الصمت المطبق والعزلة التامة في الربع الخالي، وذلك عن طريق فتح نقاشات سياسية أو فلسفية أو غيرِها. وقد كانت الرسائل التي تصل إلى كل أستاذ أرضية مناسبة لفتح حوارات ثقافية بين هذه الفسيفساء العربية المجتمعة في قتبيت، تقول الرواية في هذا السياق: "تحولت الرسائل في قتبيت إلى وسيلة لفك الصمت وتكسير العزلة. صرنا نقرأ الرسائل الخاصة لكل واحد منا، ونعلق على موضوعاتها المتنوعة. من الموضوعات التي نستمر في التعليق عليها، لأسبوع أو أكثر، رسائل محمد حنانيا الرومانسية. تدور هذه الرسائل حول الخطبة والزواج وكيفية الاستعداد للعرس بالاسكندرية، وكيفية تجهيز الشقة بأحدث ما اختُرع في المجال السمعي البصري. بينما رسائل الحبيب كلها ذات موضوعات دينية، مملوءة بالوعظ والدعاء والاستعداد للآخرة. أما رسائل الطيب فالحديث فيها يدور حول الصراع القبلي الديني بين المسيحيين السودانيين والمسلمين بمختلف تياراتهم ، وعن حلم العودة من أجل بناء بيت ومتحف على شاطئ النيل" .
ومن المثير في موضوع (حوار الثقافات) في الرواية، أن لا أحد من الأساتذة المذكورين يتعصب لاتجاه معين أو لطائفة معلومة، بل كان الاحترام المتبادل والتضامن اللامشروط يسودان بينهم في كل اللحظات، دون أدنى اصطدام طيلة موسم دراسي كامل، مما يعزز توفر شروط التغيير الإيجابي في هذه العينة من الأساتذة، وعبرها إلى الأوطان العربية، إذ بإمكاننا أن نتعايش وننشد الضامن والحرية والعدالة الاجتماعية، رغم كل اختلافاتنا.
وختاما، لا بد من الإشارة إلى راهنية هذا العمل الإبداعي، ممثلة في كون أحداث الرواية ماتزال تنطبق على مجتمعاتنا العربية؛ ولنا في غزة وفي سوريا وفي لبنان وفي غيرها خيرُ مثال؛ فمانزال – نحن العرب - نبحث عن (الرفيق) المفقود، الذي سيعيد للعربي هيبته وشموخه، وسيملأ الأرض عدلا بعدما ملئت جورا، لكن هيهات أن يكون ذلك، ففي كل مرة نرى بداية تحقق هذا الحلم، يخطِف الموت منا (الرفيق) فتبدأ رحلة البحث من جديد.



لائحة المراجع
-القرآن الكريم.
-برادة (محمد)، أسئلة الرواية أسئلة النقد، شركة الرابطة، الدار البيضاء، المغرب، ط 1، 1996.
-عصفور (جابر)، قراءة التراث النقدي، مؤسسة عيبال للدراسات والنشر، الطبعة 1، 1991.
-مليح (موسى)، الرفيق (رواية)، سليكي أخوين، طنجة، 2024.



د. رضوان كعية
المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين، مراكش

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى