قال أبو عثمان:
سَألْتَ — أكرم الله وجهك وأدام رشدك ولطاعته توفيقك حتى تبلغ من مصالح دينك ودنياك منازل ذوي الألباب ودرجات أهل الثواب — أن أكتب لك صِفاتِ الشارب والمشروب وما فيهما من المدح والعيوب، وأن أُميِّز لك بين الأنبذة والخمر، وأن أَقِفَك على حَدِّ السُّكر، وأن أُعرِّفك السبب الذي يُرغِّب في شُرب الأنبذة وما فيها من اجتلابِ المنفعة، وما يُكرَه من نبيذِ الأوعية، وقُلتَ: وما فرقُ ما بين الجرار والسقاء والمُزفَّت والحَنتَم والدُّبَّاء، وما القول في المحتل والمكسوب، وما فرقُ ما بين النقيع والذاذي، وما المطبوخ والباذق، وما الغربي والمروق، وما الذي يحلُّ من الطبيخ، وما القول في شرب الفَضيخ، وهل يكره نبيذ العكر، وما القول في عتيقِ السكر وأنبذةِ الجرار وما يعمل من السكر، ولِم كُره النَّقِير والمُقيَّر؟ وسَألتَ عن نبيذ العسل والمقرطبات، وعن رزين سوق الأهواز، وعن نبيذ أبي يوسف والجمهور والمعلق والمسحوم والحلو وترس شيرين ونبيذ الكشمش والتين، ولِم كُرِه الجلوس على البواطي والرياحين! وقُلتَ: وما نصيب الشيطان وما حاصل الإنسان؟
وسَألتَ عمن شرب الأنبذة أو كَرِهها من الأوائل، وما جرى بينهم فيها من الأجوبة والمسائل، وما كانوا عليه فيها من الآراء وتثبتوا فيها من الأهواء، ولأيِّ سببٍ تضادَّت فيها الآثار واخَتلَفت فيها الأخبار، وسَألتَ أن أقصد في ذلك إلى الإيجاز والاختصار وحَذْف الإكثار، وقُلتَ: وإذ جعل الله تعالى للعباد عن الخمر المندوحة بالأشربة الهنيئة الممدوحة، فما تقول فيما حسُن من الأنبذة صفاه، وبعُد مداه، واشتدت قواه، وعتق حتى جاد، وعاد بعد قِدم الكون صافي اللون، هل يحل إليه الاجتماع وفيه الاكتراع؛ إذ كان يهضم الطعام ويوطئ المنام، وهو في لطائف الجسم سارٍ وفي خَفيَّات العروق جارٍ، لا يضر معه برغوت ولا بعوض ولا جرجس عضوض؟ وقُلتَ: وكيف يحل لك ترك شربه إذا كان لك موافقًا ولجسمك ملائمًا؟ ولَم لا قُلتَ إن تارك شربه كتارك العلاج من أدوأ الأدواء، وأنه كالمُعين على نفسه إذا ترك شُربه أَفحَش الداء، وأنت تعلم أنك إذا شِربتَه عَدَّلتَ به طبيعتك، وأَصلحتَ به صَفار جِسمِك، وأَظهَرتَ به حُمرة لَونك، فاستَبدلْتَ به من السقم صحَّة، ومن حلول العجز قوة، ومن الكسل نشاطًا، وإلى اللذة انبساطًا، ومن الغمِّ فرحًا، ومن الجمود تحرُّكًا، ومن الوَحشة أنسًا؟ وهو في الخلوة خيرُ مُسامِر، وعند الحَلبة خيرُ ناصِر، يترك الضعيف وهو مثل الأسد في العَرين، يُلان له ولا يَلين. وقُلتَ: الجيد من الأنبذة يُصفِّي الذهن، ويُقوِّي الركن، ويَشُدُّ القلب والظهر، ويَمنع الضَّيم والقَهر، ويَشحَذ المَعِدة ويُهيِّج للطعام الشهوة، ويَقطعُ عن إكثارِ الماء الذي جُلُّ الأدواء منه، ويُحدِّر رطوبة الرأس ويُهيِّج العطاس، ويَشُدُّ البِضعة ويزيد في النُّطفة، ويَنفِي القرقرة والرياح، ويبعث الجود والسماح، ويمنع الطُّحال من العظم، والمَعدة من التَّخَم، ويُحدِّر المرَّة والبلغم، ويُلطِّف دم العروق ويُجريه، ويُرقِّقه ويُصفِّيه، ويَبسُط الآمال ويُنعم البال، ويُغشي الغِلَظ في الرئة، ويُصفِّي البشرة، ويترك اللون كالعُصْفُر، ويُحدِّر أذى الرأس في المِنخَر ويُموِّه الوجه، ويُسخِّن الكُلية، ويُلذ النوم، ويُحلِّل التَّخَم، ويذهب بالإعياء ويغذو لطيف الغذاء، ويُطيب الأنفاس، ويَطرُد الوسواس، ويُطرِب النفس، ويُؤنس من الوَحْشة، ويُسكِّن الرَّوعَة، ويُذهِب الحِشمة، ويَقذِف فضول الصُّلب بالإنشاط للجماع، وفُضول المعدة بالهواع، ويشجع المرتاع، ويزهي الذليل، ويكثر القليل، ويزيد في جمال الجميل، ويسل الحزن، ويجمع الذهن، ويُذهب الهم، ويَطرُد الغم، ويكشف عن قناع الحزم، ويُولِّد في الحليم الحِلم، ويكفي أضغاث الحلم، ويَحُث على الصبر، ويُصحِّح من الفِكر، ويُرجِّي القانط، ويُرضي الساخط، ويُغني عن الجليس، ويقوم مَقامَ الأنيس. وحتى إن عَزَّ لم يقنط منه، وإن حضر لم يصبر عنه، يدفع النوازل العظيمة، ويُنقِّي الصدر من الخصومة، ويزيد في المساغ وسخونة الدماغ، ويُنشِّط الباه حتى لا يُزيِّف شيئًا يراه، وتَقبَله جميع الطبائع، ويمتزج به صنوف البدائع: من اللذة والسرور، والنضرة والحبور. وحتى سُمِّي شُربه حصفًا، وسُمِّي فقده خَسفًا. وإن شرب منه الصِّرف بغيرِ مِزاج تحلل بغيرِ علاج، وينفي الأحزان والهموم، ويدفع الأهواء والسموم، ويَفُت الذهن ويَمنَع الغبن، ويُلقن الجواب ولا يكيد معه العتاب، به تمام اللذات، وكمال المروءات، ليس لشيء كحلاوته في النفوس، وكسطوته في الجباه والرءوس، وكإنشاطه للحديث والجلوس، يُحمِّر الألوان، ويُرطِّب الأبدان، ويَخلَع عن الطَّرَب الأَرسَان.
وقُلتَ: ومع كل ذلك فهو يُلجلج اللسان، ويُكثر الهذيان، ويُظهر الفضول والأخلاط، ويُناوِب الكسل بعد النشاط، فأمَّا إذا تبين في الرأس المَيَلان، واختلف عند المشي الرجلان، وكثُر الإخفاق والتنخُّع والبُصاق، واشتَملَت عليه الغفلة، وجاءت الزَّلَّة بعد الزَّلَّة، أو سال على الصَّدر لُعابُه وصار في حَدِّ المُخرِّفِين لا يُفهِم ولا يُبِين، قبل دلالات النكر، وظهور علامات السكر، يُنسي الذكر، ويُورث الفكر، ويَهتِك الستر، ويُسقِط من الجدار، ويُهوِّر في الآبار، ويُغرِق في الأنهار، ويُعوِّق عن المعروف، ويُعرِّض لِلحُتوف، ويَحمل على الهفوة، ويُؤكِّد الغفلة، ويُورث الصياح والصمات، ويصرع الفهم للسُّبات، فلِغيرِ معنًى يضحك، ولِغيرِ سببٍ يمحك، ويحيد عن الإنصاف، وينقلب عن الساكب الكاف، ثم يُظهِر السرائر، ويُطلِع على ما في الضمائر، من مكنون الأحقاد، وخَفيِّ الاعتقاد. وقد يقل على السكر المتاع، ويطول منه الأَرَق والصُّداع، ثم يُورث بالغَدَوات الخمار، وتختل سائر النهار، ويمنع من إقامة الصلوات وفهم الأوقات، ويُعقِب السُّل، ويُعقب في القلوب الغِل، ويُجفِّف النطفة، ويُورِث الرعشة، ويُولِّد الصفار، وضروبَ العِلل في الأبصار، ويُعقِب الهزال، ويجحف بالمال، ويُجفِّف الطبيعة، ويقوي الفاسد من المُرَّة، ويُذبِل النفس، ويُفسِد مزاج الحس، ويُحدِث الفتور في القلب، ويُبطئ عند الجماع الصب، حتى يحدث من أجله الفَتْق الذي ليس له رَتْق، ويحمل على المظالم وركوب المآثم وتضييع الحقوق، حتى يقتل من غيرِ علمٍ ويكفر من غيرِ فَهمٍ.
فصل منه: وقُلتَ: ومن الحلو في المعدة التَّخَم، وفي الأبدان الوَخَم، ويُولِّد للكَرْش رياحًا كمثل رياح العَدس، وحموضة تُولِّد في الأسنان الضَّرَس، والسُّكْر حسبك بفَرْطِ مرارته وكُسوفِ لونِه وبشاعةِ مذاقه ونفارِ الطبيعةِ عنه. وأنواع ما يُعالَج من التمر والحبوب فشُربها الداءُ العضال. وللمسجور والبتي وأشباهها كُدورة تَرسُب في المعدة وتُولِّد بين الجِلدتَين الحكَّة، وأشباه هذا كثيرةٌ ترَكتُ ذكرها؛ لأني لم أقصدك بالمسألة أبتغي منك تحليلَ ما يَجلِب المضرة، ولكن ما تقول فيما يَسرُّك ولا يَسُوءُك. وإذا شَرِبتَه تَلقَّتْه العروق فاتحةً أفواهها كأفواهِ الفِراخ مُحسِّنة لِلَّونِ مُلذَّةً للنفس يَجثُم على المَعِدة ويُزوِّد في العروق. ويقصد إلى القلب فيُولِّد فيه اللذة وفي المعدة الهضم، وهو غَسُولها ونضُوحها، ويُسرِع إلى طاعةِ الكبد ويَفيض بالعَجَل إلى الطُّحال وينفخ منه وتظهر حُمرتُه بين الجِلدتَين، ويزيد في اللون، ويُولِّد الشجاعة والسخاء، ويُريح من اكتنان الضغن، ويُعفِّي على تَغيُّر النكهة، ويُنقِّي الذفر، ويُسرع إلى الجبهة، ويُغني عن الصلا ويمنع القَر؟ وما تقول في نبيذِ الزبيب الحمض والعسل المازي إذا تَورَّد لونه وتَقادَم كَونه، ورَأيتَ حُمرته في صُفرته تَلوح، تراه في الكأس كأنه بالشمس مُلتحِف، شعاعه يَضحَك في الأَكُف؟ وما تقول في عصير الكَرْم إذا أَجدتَ طبخه وأَنعمتَ إنضاجه وأَحسَن الدَّنُّ نِتاجه، فإذا فُضَّ فُضَّ عن غَضارة، قد صار في لون المحارة أو في صفاء ياقوتةٍ تلمع في الأَكُفِّ لَمْع الدنانير ويُضيء كالشهاب المُتقِد؟ وما تقول في نبيذِ عسلِ مِصر؛ فإنه يُؤدِّي إلى شاربه الصحيح من طعم الزعفران ما لا يلبس الخلقان، ولا يجود إلا في جُدُد الدِّنان، ولا يستخدم الأنجاس، ولا يألف الأرجاس، وكذلك لا يزكو على علاج الجُنب والحائض، ولا ينقص على شيء من الأجسام لونه حتى لو غُمس فيه قطنٌ لخرج أبيض يققًا، وحسبك به في رقة الهواء يُكدِّره صافي الماء، وهو مع ذلك كالهِزَبْر ذي الأشبال المُفترِس للأقران، من عاقَره عَقَره، ومن صارَعه صَرَعه؟ وما تقول في رزين الأهواز من زبيب الداقياذ؛ إذ يعود صلبًا من غير أن يسيل سُلافُه أو يُماط عنه ثُفْلُه، حتى يعود كلونِ العَقِيق في رائحةِ المِسْك الفَتِيق، أَصلَب الأنبذة عَريكةً، وأَصلَبها صلابةً وأَشَدها خُشونةً، ثم لا يستعين بِعسلٍ ولا سُكَّرٍ ولا دوشاب، وما ظنُّك به وهو زبيبٌ نقيع، لا يشتد ولا يجود إلا بالضرب الوجيع؟ وما تقول في الدوشاب البستاني سُلالة الرُّطَب الجَنِي بالحب الرتيلي، إذا أُوجِع ضربًا وأًطِيل حبسًا أَعطَى صَفوه ومَنَح رِفدَه وبَذلَ ما عنده، فإذا كُشف عنه قناع الطين ظهر في لون الشقر والكمت، وسطع برائحة كالمسك، وإذا هَمَّ على المعدة لانت له الطبائع، وسليت له الأمعاء، وأَيِس الحصر، وانقطع طمع القولنج، وانقادت له اليبوسة وأذعنت له بالطاعة، وابتل به الجِلد القحل، وارتحل عن الباسور، وكفَى شاربَه الوخز، فإذا سَنَح بما تلظَّى ورمى بشرره هل يحل أن يُشعشع إذا سكن جأشه وأبل حلمه؟ وما تقول في المُغلق من أنبذة التمر، فإنك تنظر إليه وكأن النيران تلمع من جوفه، قد ركد ركود الذلال حتى لكأن شاربه يكرع في شهاب، ولكأنه فِرِندٌ في وجهِ سَيف، وله صفيحةُ مرآةٍ مَجْلوَّة تحكي الوجوه في الزجاجة حتى يفهم فيه الجلاس؟ وما تقول في نبيذ الجَزَر الذي منه تمتد النطفة، وتشتد النقطة، يجلب الأحلام، ويركُد في مُخ العظام؟ وما تقول في نبيذ الكشمش الذي لونُه لونُ زُمُرُّدةٍ خضراءَ صافية، مُحكَم الصلابة، مَفرِط الحرارة، حديدُ السَّورة، سريع الإفاقة، عظيم المؤنة، قصير العمر، كثير العِلل، جَمُّ الهِبات، تَطمع الآفات فيه وتُسرع إليه؟ وما تقول في نبيذ التين؛ فإنك تعلم أنه مع حرارته لَيِّن العريكة، سَلِس الطبيعة، عَذْب المذاق، سريع الإطلاق، مرهمٌ للعروق، نضاحٌ للكبد، فتَّاح للسدَد، غسَّال لأمعاء، هيَّاج للباء، أَخَّاذ للثمن، جلَّاب للمؤن، مع كُسوفِ لَونٍ، وقُبحِ مَنظرٍ؟ وما تقول في نبيذ السكر الذي ليس مقدار المنفعة منه على قَدْر المُؤنة فيه، هل يوجد في المحصول لشربه معنًى معقول؟ وما تقول في المروق والغربي والفضيخ، أَلَذ المشروبات في زمانها، وأَنفَع المأخوذات في إبَّانها، أَقَل شيءٍ مُؤنةً، وأَحسن مَعونةً، وأكثر شيء قنوعًا وأسرعه بلوغًا، ضمورات عروفات للرجل الوفي، ولها أَراييجُ على الشاة كأذكى رائحةٍ تُشَم، أقل المشروبات صُداعًا وأشدهن خِداعًا؟
فصل منه: وكَرِهتَ أيضًا تقليد المختلف من الآثار فأكون كحاطب ليلٍ دون التأمُّل والاعتبار، لعلمي بأن كلام الشك لا يَجلوه إلا مِفتاحُ اليقين.
فصل منه: قد فَهمتُ — أسعدك الله تعالى بطاعته — جميع ما ذَكَرتَ من أنواع الأنبذة وبديع صفاتها، والفصل بين جيِّدها ورديئها ونافعِها وضارِّها، وما سَألْتَ من الوقوف على حدودها، ولا زِلتَ من عِداد من يَسأَل ولا يَبحَث، ولا زلنا في عِداد من يَشرَح ويُفصِح. اعلم — أكرمك الله — أنك لو بحثت عن أحوال من يُؤثِر شُرب الخُمور على الأنبذة لم تجد إلا جاهلًا مخذولًا، أو حَدَثًا مغرورًا، أو خليعًا ماجنًا، أو رِعاعًا همجًا، ومن إذا غدا بهيمةٌ وإذا راح نَعامةٌ، ليس عنده من المعرفة أكثر من انتحال القول بالجماعة، قد مُزج له الصحيح بالمحال، فهو يَدِين بتقليد الرجال ليُشعشع الداح ويُحرِّم المُباح، فمتى عَذَله عاذلٌ ووعَظَه واعظٌ قال: الأشربة كلها خمر فلا أشرب إلا أجودها. وقد أحببت — أيَّدك الله — التوثُّق من صفاءِ فَهمِك وسؤت ظنًّا بالتغرير فقَدَّمتُ لك من التوطئة ما يُسهِّل لك سبيلَ المعرفة، وذلك إلى مثلك من مثلي حرم، سيَّما فيما خَفِيَت معالمه ودَرَسَت مناهجه وكَثُرَت شبهه واشتد غموضه، ولو لم يكن ذلك وكان قد اعتاص عليَّ البرهان في إظهاره واحتَجتُ في الإبانة عنه إلى ذكر ضِدِّه ونظيره وشَكلِه لم أَحتشِم من الاستعانة بكل ذلك، فكيف والقدرةُ — بحمد الله — وافرة والحُجة واضحة. قد يكون الشيء من جنس الحرام فيُعالَج بضرب من العلاج حتى يتغير بلونٍ يَحدث له ورائحة وطعم ونحو ذلك، فيتغير لذلك اسمُه ويصير حلالًا بعد أن كان حرامًا.
فصل منه في تحليل النبيذ دون الخمر: فإن قال لنا قائل: ما تدرون لعل الأنبذة قد دخَلَت في ذِكْرِ تحريمِ الخَمرِ ولكن لمَّا كان الابتداء أَجرَى في ذِكرِ تحريمِ الخمرِ خرج التحريم عليها وحدها في ظاهر المخاطبة ودخل سائر الأشربة في التحريم بالقصد والإرادة؟! قلنا: قد علمنا أن ذلك على خلافِ ما ذكر السائل لأسبابٍ موجودة وعللٍ معروفة. منها أن الصحابة الذين شهدوا نزول الفرائض والتابعِين من بعدهم لم يختلفوا في قاذف المُحصنين أن عليه الحد، واختلفوا في الأشربة التي تُسكِر. ليس لجهلهم أسماء الخمور ومعانيها، ولكن الأخبار المرويَّة في تحريم المُسكِر والواردة في تحليلها ولو كانت الأشربة كلها عند أهل اللغة في القديم خمرًا لما احتاجوا إلى أهل الروايات في الخمر أيُّ الأجناس من الأشربة هي، كما لم يخرجوا إلى طلبِ معرفةِ العبيدِ من الإماء! وهذا بابٌ يطول شرحه إن استقصيتُ جميع ما فيه من المسألة والجواب. وما يُنكِر من خالفنا في تحليل الأنبذة مع إقراره بأن الأشربة المُسكِرة الكثيرة لم تزل معروفة بأسمائها وأعيانها وأجناسها وبلدانها، وأن الله تعالى قصَد للخَمر من بين جَميعِها فحرَّمها وترك سائر الأشربة طَلقًا مع أجناسِ سائرِ المُباح، والدليل على تجويز ذلك أن الله تعالى ما حَرَّم على الناس شيئًا من الأشياء في القديم والحديث إلا أطلق لهم من جِنسِه وأباح من سِنخِه ونظيره وشِبهِه ما يَعمَل مِثل عَملِه أو قريبًا منه، ليُغنيَهم الحلال عن الحرام، أعني ما حُرِّم بالسمع دون المُحرَّم بالعقل. قد حَرَّم من الدمِ المَسفوح، وأباح غيرَ المسفوح كجامدِ دمِ الطحال والكبد أَشبَهَهما. وحَرَّم المَيْتة وأباح الذكيَّة، وأباح أيضًا مَيتة البحر وغيرِ البحر كالجَرادِ وشبهه. وحَرَّم الربا وأباح البيع. وحَرَّم بَيعَ ما ليس عندك وأباح الصلح. وحرَّم السفاح وأباح النكاح. وحرَّم الخنزير وأباح الجَدي الرضيع والخَروف والحوار. والحلال في كلِّ ذلك أَعظَم مَوقعًا من الحرام.
فصل منه: ولعل قائلًا يقول: أهل مدينة الرسول ﷺ وسُكانُ حَرَمِه ودارِ هجرته أَبصَر بالحلال والحرام والمسكر والخمر وما أباح الرسول وما حظره، وكيف لا يكونون كذلك والدين ومَعالِمه من عندهم خرج إلى الناس، والوحي عليهم نزل، والنبي ﷺ فيهم دُفِن، وهم المهاجرون السابقون والأنصار المُؤثِرون على أنفسهم، وكلُّهم مُجمِعٌ على تحريم الأنبذة المُسكِرة وأنها كالخمر، وخَلَفُهم على مِنهاج سَلَفِهم إلى هذه الغاية حتى إنهم جلدوا على الريح الخَفِي، وكيف لا يفعلون ذلك ويَدينون به وقد شَهِدوا من شهد النبي ﷺ قد حرَّمَها وذَمَّها وأَمَر بجَلدِ شاربها، ثم كذلك فعل أئمة الهُدى من بعده، فهم — إلى اليوم — على رأيٍ واحد وأَمرٍ متفق، يَنهَون عن شربها ويَجلِدون عليها! وإنَّا نقول في ذلك: إن عِظَم حق البلدة لا يُحل شيئًا ولا يُحرمه، وإنما يُعرف الحلال والحرام بالكتاب الناطق والسنة المُجمَع عليها والنقول الصحيحة والمقاييس المُعينة، وبعدُ فمن هذا المهاجري والأنصاري الذي رَوَوا عنه تحريم الأنبذة ثم لَمْ يُرْوَ عنه التحليل؟! بل لو أنصف القائل لعلم أن الذين من أهل المدينة حَرَّموا الأنبذة ليسوا بأفضل من الذين أَحَلُّوا النكاح في أَدبارِ النساء، كما استحل قومٌ من أهل مكة عاريةَ الفُروج وحرَّم بعضهم ذبائحَ الزنوج؛ لأنهم — فيما زعموا — مُشوَّهو الخَلْق، ثم حَكَموا بالشاهد واليمين خلافًا لظاهر التنزيل. وأهل المدينة وإن كانوا جلدوا على الريح الخفي فقد جلدوا على حمل الزق الفارغ؛ لأنهم زعموا أنه آلة الخمر، حتى قال بعضُ من يُنكِر عليهم: فهلا جلدوا أنفسهم لأنه ليس منهم إلا ومعه آلة الزنا! وكان يجب على هذا المثال أن يُحكَم بمثلِ ذلك على حامل السيف والسكين والسم القاتل في نظائر ذلك؛ لأن هذه كلها آلاتُ القتل …؟!
وبعدُ، فأهل المدينة لم يخرجوا من طبائع الإنس إلى طبع الملائكة، ولو كان كل ما يقولونه حقًّا وصوابًا لجَلَدوا من كان في دار معبد والغريض وابن سريج ودحمان وابن محرز وعلوية وابن جامعِ مخارق، وابن شريك ووكيع وحماد وإبراهيم وجماعة التابعِين والسَّلَف المُتقدمِين؛ لأن هؤلاء — فيما زعموا — كانوا يشربون الأنبذة التي هي عندهم خمر، وأولئك كانوا يعالجون الأغاني التي هي حلٌّ طَلق على نقر العيدان والطنابير والنايات والصنج والزيج والمعازف التي ليست محرمة ولا منهيًّا عن شيء منها، ولو كان ما خالفونا فيه من تحليل الأنبذة وتحريمها كالاختلاف في الأواني وصفاتها وأوزانها واختلاف مخارجها ووجوه مصارفها ومجاريها وما يُدمج ويُوصل منها للحنجرة والحَنَك والنفس واللَّهَوات وتحت اللسان من نغمها، وأي الدساتين أَطربُ وأيها أَصوَب وما يُحفز بالهمز أو يُحرك بالضم، وكالقول بأن الهزج بالبنصر أَطيَب والسريع بالوسطى على الزير أَلَذ، وعلى المُثنَّى والمُصعَّد في لِينٍ أَطرَبُ أم المُحدَّر في الشدة، لَسَهُل ذلك ولسلَّمْنا علمه لمن يدَّعيه ولم نجاذب من يدَّعي دوننا معرفته.
فصل منه: ولهج أصحاب الحديث بحكمٍ لم أَسمَع بمثله في تزييف الرجال وتصحيح الأخبار، وإنما أكثروا في ذلك لِتعلَم حَيْدَهم عن التفتيش ومَيْلَهم عن التنقير وانحِرافَهم عن الإنصاف.
فصل منه: والذي دعاني إلى وضع جميع هذه الأشربة والوقوف على أجناسها وبُلدانها مخافة أن يقع هذا الكتاب عند بعضِ من عساه لا يعرف جميعها ولم يَسمع بذكرها فيَتوهَّم أني في ذِكرِ أجناسهم المُستشنَعة وأنواعها المُبتدَعة كالهاذي بِرُقيةِ العقرب، وإن كان قصدي لذِكرها في صدر الكتاب لِأَقف على حلالها وحرامها وكيف اختلفت الأُمَّة فيها وما سببُ اعتراضِ الشك واستكمانِ الشُّبهة، ولأن أحتج للمُباح وأُعطِيَه حَقَّه، وأكشف أيضًا عن المحظور فأقسم له قِسْطه، فأكون قد سَلَكتُ بالحرام سبيله وبالحلال منهجَه اقتداءً مني بقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ.
وقد كَتبتُ لك — أكرمك الله تعالى — في هذا الكتاب ما فيه الجِزاية والكِفاية، ولو بَسَطتُ القول لوَجدتَه مُتسعًا ولأتاك منه الدهم، وربما كان الإقلال في إيجازٍ أجدى من إكثارٍ يُخاف عليه الملل، فخَلطتُ لك جِدًّا بهَزْل وقرنتُ لك حُجة بمُلْحة، لتَخِف مُؤنة الكِتاب على القارئ وليزيد ذلك في نشاط المُستمِع، فجَعلتُ الهَزْل بعد الجِد جَمامًا، والمُلحة بعد الحُجة مُستراحًا.
سَألْتَ — أكرم الله وجهك وأدام رشدك ولطاعته توفيقك حتى تبلغ من مصالح دينك ودنياك منازل ذوي الألباب ودرجات أهل الثواب — أن أكتب لك صِفاتِ الشارب والمشروب وما فيهما من المدح والعيوب، وأن أُميِّز لك بين الأنبذة والخمر، وأن أَقِفَك على حَدِّ السُّكر، وأن أُعرِّفك السبب الذي يُرغِّب في شُرب الأنبذة وما فيها من اجتلابِ المنفعة، وما يُكرَه من نبيذِ الأوعية، وقُلتَ: وما فرقُ ما بين الجرار والسقاء والمُزفَّت والحَنتَم والدُّبَّاء، وما القول في المحتل والمكسوب، وما فرقُ ما بين النقيع والذاذي، وما المطبوخ والباذق، وما الغربي والمروق، وما الذي يحلُّ من الطبيخ، وما القول في شرب الفَضيخ، وهل يكره نبيذ العكر، وما القول في عتيقِ السكر وأنبذةِ الجرار وما يعمل من السكر، ولِم كُره النَّقِير والمُقيَّر؟ وسَألتَ عن نبيذ العسل والمقرطبات، وعن رزين سوق الأهواز، وعن نبيذ أبي يوسف والجمهور والمعلق والمسحوم والحلو وترس شيرين ونبيذ الكشمش والتين، ولِم كُرِه الجلوس على البواطي والرياحين! وقُلتَ: وما نصيب الشيطان وما حاصل الإنسان؟
وسَألتَ عمن شرب الأنبذة أو كَرِهها من الأوائل، وما جرى بينهم فيها من الأجوبة والمسائل، وما كانوا عليه فيها من الآراء وتثبتوا فيها من الأهواء، ولأيِّ سببٍ تضادَّت فيها الآثار واخَتلَفت فيها الأخبار، وسَألتَ أن أقصد في ذلك إلى الإيجاز والاختصار وحَذْف الإكثار، وقُلتَ: وإذ جعل الله تعالى للعباد عن الخمر المندوحة بالأشربة الهنيئة الممدوحة، فما تقول فيما حسُن من الأنبذة صفاه، وبعُد مداه، واشتدت قواه، وعتق حتى جاد، وعاد بعد قِدم الكون صافي اللون، هل يحل إليه الاجتماع وفيه الاكتراع؛ إذ كان يهضم الطعام ويوطئ المنام، وهو في لطائف الجسم سارٍ وفي خَفيَّات العروق جارٍ، لا يضر معه برغوت ولا بعوض ولا جرجس عضوض؟ وقُلتَ: وكيف يحل لك ترك شربه إذا كان لك موافقًا ولجسمك ملائمًا؟ ولَم لا قُلتَ إن تارك شربه كتارك العلاج من أدوأ الأدواء، وأنه كالمُعين على نفسه إذا ترك شُربه أَفحَش الداء، وأنت تعلم أنك إذا شِربتَه عَدَّلتَ به طبيعتك، وأَصلحتَ به صَفار جِسمِك، وأَظهَرتَ به حُمرة لَونك، فاستَبدلْتَ به من السقم صحَّة، ومن حلول العجز قوة، ومن الكسل نشاطًا، وإلى اللذة انبساطًا، ومن الغمِّ فرحًا، ومن الجمود تحرُّكًا، ومن الوَحشة أنسًا؟ وهو في الخلوة خيرُ مُسامِر، وعند الحَلبة خيرُ ناصِر، يترك الضعيف وهو مثل الأسد في العَرين، يُلان له ولا يَلين. وقُلتَ: الجيد من الأنبذة يُصفِّي الذهن، ويُقوِّي الركن، ويَشُدُّ القلب والظهر، ويَمنع الضَّيم والقَهر، ويَشحَذ المَعِدة ويُهيِّج للطعام الشهوة، ويَقطعُ عن إكثارِ الماء الذي جُلُّ الأدواء منه، ويُحدِّر رطوبة الرأس ويُهيِّج العطاس، ويَشُدُّ البِضعة ويزيد في النُّطفة، ويَنفِي القرقرة والرياح، ويبعث الجود والسماح، ويمنع الطُّحال من العظم، والمَعدة من التَّخَم، ويُحدِّر المرَّة والبلغم، ويُلطِّف دم العروق ويُجريه، ويُرقِّقه ويُصفِّيه، ويَبسُط الآمال ويُنعم البال، ويُغشي الغِلَظ في الرئة، ويُصفِّي البشرة، ويترك اللون كالعُصْفُر، ويُحدِّر أذى الرأس في المِنخَر ويُموِّه الوجه، ويُسخِّن الكُلية، ويُلذ النوم، ويُحلِّل التَّخَم، ويذهب بالإعياء ويغذو لطيف الغذاء، ويُطيب الأنفاس، ويَطرُد الوسواس، ويُطرِب النفس، ويُؤنس من الوَحْشة، ويُسكِّن الرَّوعَة، ويُذهِب الحِشمة، ويَقذِف فضول الصُّلب بالإنشاط للجماع، وفُضول المعدة بالهواع، ويشجع المرتاع، ويزهي الذليل، ويكثر القليل، ويزيد في جمال الجميل، ويسل الحزن، ويجمع الذهن، ويُذهب الهم، ويَطرُد الغم، ويكشف عن قناع الحزم، ويُولِّد في الحليم الحِلم، ويكفي أضغاث الحلم، ويَحُث على الصبر، ويُصحِّح من الفِكر، ويُرجِّي القانط، ويُرضي الساخط، ويُغني عن الجليس، ويقوم مَقامَ الأنيس. وحتى إن عَزَّ لم يقنط منه، وإن حضر لم يصبر عنه، يدفع النوازل العظيمة، ويُنقِّي الصدر من الخصومة، ويزيد في المساغ وسخونة الدماغ، ويُنشِّط الباه حتى لا يُزيِّف شيئًا يراه، وتَقبَله جميع الطبائع، ويمتزج به صنوف البدائع: من اللذة والسرور، والنضرة والحبور. وحتى سُمِّي شُربه حصفًا، وسُمِّي فقده خَسفًا. وإن شرب منه الصِّرف بغيرِ مِزاج تحلل بغيرِ علاج، وينفي الأحزان والهموم، ويدفع الأهواء والسموم، ويَفُت الذهن ويَمنَع الغبن، ويُلقن الجواب ولا يكيد معه العتاب، به تمام اللذات، وكمال المروءات، ليس لشيء كحلاوته في النفوس، وكسطوته في الجباه والرءوس، وكإنشاطه للحديث والجلوس، يُحمِّر الألوان، ويُرطِّب الأبدان، ويَخلَع عن الطَّرَب الأَرسَان.
وقُلتَ: ومع كل ذلك فهو يُلجلج اللسان، ويُكثر الهذيان، ويُظهر الفضول والأخلاط، ويُناوِب الكسل بعد النشاط، فأمَّا إذا تبين في الرأس المَيَلان، واختلف عند المشي الرجلان، وكثُر الإخفاق والتنخُّع والبُصاق، واشتَملَت عليه الغفلة، وجاءت الزَّلَّة بعد الزَّلَّة، أو سال على الصَّدر لُعابُه وصار في حَدِّ المُخرِّفِين لا يُفهِم ولا يُبِين، قبل دلالات النكر، وظهور علامات السكر، يُنسي الذكر، ويُورث الفكر، ويَهتِك الستر، ويُسقِط من الجدار، ويُهوِّر في الآبار، ويُغرِق في الأنهار، ويُعوِّق عن المعروف، ويُعرِّض لِلحُتوف، ويَحمل على الهفوة، ويُؤكِّد الغفلة، ويُورث الصياح والصمات، ويصرع الفهم للسُّبات، فلِغيرِ معنًى يضحك، ولِغيرِ سببٍ يمحك، ويحيد عن الإنصاف، وينقلب عن الساكب الكاف، ثم يُظهِر السرائر، ويُطلِع على ما في الضمائر، من مكنون الأحقاد، وخَفيِّ الاعتقاد. وقد يقل على السكر المتاع، ويطول منه الأَرَق والصُّداع، ثم يُورث بالغَدَوات الخمار، وتختل سائر النهار، ويمنع من إقامة الصلوات وفهم الأوقات، ويُعقِب السُّل، ويُعقب في القلوب الغِل، ويُجفِّف النطفة، ويُورِث الرعشة، ويُولِّد الصفار، وضروبَ العِلل في الأبصار، ويُعقِب الهزال، ويجحف بالمال، ويُجفِّف الطبيعة، ويقوي الفاسد من المُرَّة، ويُذبِل النفس، ويُفسِد مزاج الحس، ويُحدِث الفتور في القلب، ويُبطئ عند الجماع الصب، حتى يحدث من أجله الفَتْق الذي ليس له رَتْق، ويحمل على المظالم وركوب المآثم وتضييع الحقوق، حتى يقتل من غيرِ علمٍ ويكفر من غيرِ فَهمٍ.
فصل منه: وقُلتَ: ومن الحلو في المعدة التَّخَم، وفي الأبدان الوَخَم، ويُولِّد للكَرْش رياحًا كمثل رياح العَدس، وحموضة تُولِّد في الأسنان الضَّرَس، والسُّكْر حسبك بفَرْطِ مرارته وكُسوفِ لونِه وبشاعةِ مذاقه ونفارِ الطبيعةِ عنه. وأنواع ما يُعالَج من التمر والحبوب فشُربها الداءُ العضال. وللمسجور والبتي وأشباهها كُدورة تَرسُب في المعدة وتُولِّد بين الجِلدتَين الحكَّة، وأشباه هذا كثيرةٌ ترَكتُ ذكرها؛ لأني لم أقصدك بالمسألة أبتغي منك تحليلَ ما يَجلِب المضرة، ولكن ما تقول فيما يَسرُّك ولا يَسُوءُك. وإذا شَرِبتَه تَلقَّتْه العروق فاتحةً أفواهها كأفواهِ الفِراخ مُحسِّنة لِلَّونِ مُلذَّةً للنفس يَجثُم على المَعِدة ويُزوِّد في العروق. ويقصد إلى القلب فيُولِّد فيه اللذة وفي المعدة الهضم، وهو غَسُولها ونضُوحها، ويُسرِع إلى طاعةِ الكبد ويَفيض بالعَجَل إلى الطُّحال وينفخ منه وتظهر حُمرتُه بين الجِلدتَين، ويزيد في اللون، ويُولِّد الشجاعة والسخاء، ويُريح من اكتنان الضغن، ويُعفِّي على تَغيُّر النكهة، ويُنقِّي الذفر، ويُسرع إلى الجبهة، ويُغني عن الصلا ويمنع القَر؟ وما تقول في نبيذِ الزبيب الحمض والعسل المازي إذا تَورَّد لونه وتَقادَم كَونه، ورَأيتَ حُمرته في صُفرته تَلوح، تراه في الكأس كأنه بالشمس مُلتحِف، شعاعه يَضحَك في الأَكُف؟ وما تقول في عصير الكَرْم إذا أَجدتَ طبخه وأَنعمتَ إنضاجه وأَحسَن الدَّنُّ نِتاجه، فإذا فُضَّ فُضَّ عن غَضارة، قد صار في لون المحارة أو في صفاء ياقوتةٍ تلمع في الأَكُفِّ لَمْع الدنانير ويُضيء كالشهاب المُتقِد؟ وما تقول في نبيذِ عسلِ مِصر؛ فإنه يُؤدِّي إلى شاربه الصحيح من طعم الزعفران ما لا يلبس الخلقان، ولا يجود إلا في جُدُد الدِّنان، ولا يستخدم الأنجاس، ولا يألف الأرجاس، وكذلك لا يزكو على علاج الجُنب والحائض، ولا ينقص على شيء من الأجسام لونه حتى لو غُمس فيه قطنٌ لخرج أبيض يققًا، وحسبك به في رقة الهواء يُكدِّره صافي الماء، وهو مع ذلك كالهِزَبْر ذي الأشبال المُفترِس للأقران، من عاقَره عَقَره، ومن صارَعه صَرَعه؟ وما تقول في رزين الأهواز من زبيب الداقياذ؛ إذ يعود صلبًا من غير أن يسيل سُلافُه أو يُماط عنه ثُفْلُه، حتى يعود كلونِ العَقِيق في رائحةِ المِسْك الفَتِيق، أَصلَب الأنبذة عَريكةً، وأَصلَبها صلابةً وأَشَدها خُشونةً، ثم لا يستعين بِعسلٍ ولا سُكَّرٍ ولا دوشاب، وما ظنُّك به وهو زبيبٌ نقيع، لا يشتد ولا يجود إلا بالضرب الوجيع؟ وما تقول في الدوشاب البستاني سُلالة الرُّطَب الجَنِي بالحب الرتيلي، إذا أُوجِع ضربًا وأًطِيل حبسًا أَعطَى صَفوه ومَنَح رِفدَه وبَذلَ ما عنده، فإذا كُشف عنه قناع الطين ظهر في لون الشقر والكمت، وسطع برائحة كالمسك، وإذا هَمَّ على المعدة لانت له الطبائع، وسليت له الأمعاء، وأَيِس الحصر، وانقطع طمع القولنج، وانقادت له اليبوسة وأذعنت له بالطاعة، وابتل به الجِلد القحل، وارتحل عن الباسور، وكفَى شاربَه الوخز، فإذا سَنَح بما تلظَّى ورمى بشرره هل يحل أن يُشعشع إذا سكن جأشه وأبل حلمه؟ وما تقول في المُغلق من أنبذة التمر، فإنك تنظر إليه وكأن النيران تلمع من جوفه، قد ركد ركود الذلال حتى لكأن شاربه يكرع في شهاب، ولكأنه فِرِندٌ في وجهِ سَيف، وله صفيحةُ مرآةٍ مَجْلوَّة تحكي الوجوه في الزجاجة حتى يفهم فيه الجلاس؟ وما تقول في نبيذ الجَزَر الذي منه تمتد النطفة، وتشتد النقطة، يجلب الأحلام، ويركُد في مُخ العظام؟ وما تقول في نبيذ الكشمش الذي لونُه لونُ زُمُرُّدةٍ خضراءَ صافية، مُحكَم الصلابة، مَفرِط الحرارة، حديدُ السَّورة، سريع الإفاقة، عظيم المؤنة، قصير العمر، كثير العِلل، جَمُّ الهِبات، تَطمع الآفات فيه وتُسرع إليه؟ وما تقول في نبيذ التين؛ فإنك تعلم أنه مع حرارته لَيِّن العريكة، سَلِس الطبيعة، عَذْب المذاق، سريع الإطلاق، مرهمٌ للعروق، نضاحٌ للكبد، فتَّاح للسدَد، غسَّال لأمعاء، هيَّاج للباء، أَخَّاذ للثمن، جلَّاب للمؤن، مع كُسوفِ لَونٍ، وقُبحِ مَنظرٍ؟ وما تقول في نبيذ السكر الذي ليس مقدار المنفعة منه على قَدْر المُؤنة فيه، هل يوجد في المحصول لشربه معنًى معقول؟ وما تقول في المروق والغربي والفضيخ، أَلَذ المشروبات في زمانها، وأَنفَع المأخوذات في إبَّانها، أَقَل شيءٍ مُؤنةً، وأَحسن مَعونةً، وأكثر شيء قنوعًا وأسرعه بلوغًا، ضمورات عروفات للرجل الوفي، ولها أَراييجُ على الشاة كأذكى رائحةٍ تُشَم، أقل المشروبات صُداعًا وأشدهن خِداعًا؟
فصل منه: وكَرِهتَ أيضًا تقليد المختلف من الآثار فأكون كحاطب ليلٍ دون التأمُّل والاعتبار، لعلمي بأن كلام الشك لا يَجلوه إلا مِفتاحُ اليقين.
فصل منه: قد فَهمتُ — أسعدك الله تعالى بطاعته — جميع ما ذَكَرتَ من أنواع الأنبذة وبديع صفاتها، والفصل بين جيِّدها ورديئها ونافعِها وضارِّها، وما سَألْتَ من الوقوف على حدودها، ولا زِلتَ من عِداد من يَسأَل ولا يَبحَث، ولا زلنا في عِداد من يَشرَح ويُفصِح. اعلم — أكرمك الله — أنك لو بحثت عن أحوال من يُؤثِر شُرب الخُمور على الأنبذة لم تجد إلا جاهلًا مخذولًا، أو حَدَثًا مغرورًا، أو خليعًا ماجنًا، أو رِعاعًا همجًا، ومن إذا غدا بهيمةٌ وإذا راح نَعامةٌ، ليس عنده من المعرفة أكثر من انتحال القول بالجماعة، قد مُزج له الصحيح بالمحال، فهو يَدِين بتقليد الرجال ليُشعشع الداح ويُحرِّم المُباح، فمتى عَذَله عاذلٌ ووعَظَه واعظٌ قال: الأشربة كلها خمر فلا أشرب إلا أجودها. وقد أحببت — أيَّدك الله — التوثُّق من صفاءِ فَهمِك وسؤت ظنًّا بالتغرير فقَدَّمتُ لك من التوطئة ما يُسهِّل لك سبيلَ المعرفة، وذلك إلى مثلك من مثلي حرم، سيَّما فيما خَفِيَت معالمه ودَرَسَت مناهجه وكَثُرَت شبهه واشتد غموضه، ولو لم يكن ذلك وكان قد اعتاص عليَّ البرهان في إظهاره واحتَجتُ في الإبانة عنه إلى ذكر ضِدِّه ونظيره وشَكلِه لم أَحتشِم من الاستعانة بكل ذلك، فكيف والقدرةُ — بحمد الله — وافرة والحُجة واضحة. قد يكون الشيء من جنس الحرام فيُعالَج بضرب من العلاج حتى يتغير بلونٍ يَحدث له ورائحة وطعم ونحو ذلك، فيتغير لذلك اسمُه ويصير حلالًا بعد أن كان حرامًا.
فصل منه في تحليل النبيذ دون الخمر: فإن قال لنا قائل: ما تدرون لعل الأنبذة قد دخَلَت في ذِكْرِ تحريمِ الخَمرِ ولكن لمَّا كان الابتداء أَجرَى في ذِكرِ تحريمِ الخمرِ خرج التحريم عليها وحدها في ظاهر المخاطبة ودخل سائر الأشربة في التحريم بالقصد والإرادة؟! قلنا: قد علمنا أن ذلك على خلافِ ما ذكر السائل لأسبابٍ موجودة وعللٍ معروفة. منها أن الصحابة الذين شهدوا نزول الفرائض والتابعِين من بعدهم لم يختلفوا في قاذف المُحصنين أن عليه الحد، واختلفوا في الأشربة التي تُسكِر. ليس لجهلهم أسماء الخمور ومعانيها، ولكن الأخبار المرويَّة في تحريم المُسكِر والواردة في تحليلها ولو كانت الأشربة كلها عند أهل اللغة في القديم خمرًا لما احتاجوا إلى أهل الروايات في الخمر أيُّ الأجناس من الأشربة هي، كما لم يخرجوا إلى طلبِ معرفةِ العبيدِ من الإماء! وهذا بابٌ يطول شرحه إن استقصيتُ جميع ما فيه من المسألة والجواب. وما يُنكِر من خالفنا في تحليل الأنبذة مع إقراره بأن الأشربة المُسكِرة الكثيرة لم تزل معروفة بأسمائها وأعيانها وأجناسها وبلدانها، وأن الله تعالى قصَد للخَمر من بين جَميعِها فحرَّمها وترك سائر الأشربة طَلقًا مع أجناسِ سائرِ المُباح، والدليل على تجويز ذلك أن الله تعالى ما حَرَّم على الناس شيئًا من الأشياء في القديم والحديث إلا أطلق لهم من جِنسِه وأباح من سِنخِه ونظيره وشِبهِه ما يَعمَل مِثل عَملِه أو قريبًا منه، ليُغنيَهم الحلال عن الحرام، أعني ما حُرِّم بالسمع دون المُحرَّم بالعقل. قد حَرَّم من الدمِ المَسفوح، وأباح غيرَ المسفوح كجامدِ دمِ الطحال والكبد أَشبَهَهما. وحَرَّم المَيْتة وأباح الذكيَّة، وأباح أيضًا مَيتة البحر وغيرِ البحر كالجَرادِ وشبهه. وحَرَّم الربا وأباح البيع. وحَرَّم بَيعَ ما ليس عندك وأباح الصلح. وحرَّم السفاح وأباح النكاح. وحرَّم الخنزير وأباح الجَدي الرضيع والخَروف والحوار. والحلال في كلِّ ذلك أَعظَم مَوقعًا من الحرام.
فصل منه: ولعل قائلًا يقول: أهل مدينة الرسول ﷺ وسُكانُ حَرَمِه ودارِ هجرته أَبصَر بالحلال والحرام والمسكر والخمر وما أباح الرسول وما حظره، وكيف لا يكونون كذلك والدين ومَعالِمه من عندهم خرج إلى الناس، والوحي عليهم نزل، والنبي ﷺ فيهم دُفِن، وهم المهاجرون السابقون والأنصار المُؤثِرون على أنفسهم، وكلُّهم مُجمِعٌ على تحريم الأنبذة المُسكِرة وأنها كالخمر، وخَلَفُهم على مِنهاج سَلَفِهم إلى هذه الغاية حتى إنهم جلدوا على الريح الخَفِي، وكيف لا يفعلون ذلك ويَدينون به وقد شَهِدوا من شهد النبي ﷺ قد حرَّمَها وذَمَّها وأَمَر بجَلدِ شاربها، ثم كذلك فعل أئمة الهُدى من بعده، فهم — إلى اليوم — على رأيٍ واحد وأَمرٍ متفق، يَنهَون عن شربها ويَجلِدون عليها! وإنَّا نقول في ذلك: إن عِظَم حق البلدة لا يُحل شيئًا ولا يُحرمه، وإنما يُعرف الحلال والحرام بالكتاب الناطق والسنة المُجمَع عليها والنقول الصحيحة والمقاييس المُعينة، وبعدُ فمن هذا المهاجري والأنصاري الذي رَوَوا عنه تحريم الأنبذة ثم لَمْ يُرْوَ عنه التحليل؟! بل لو أنصف القائل لعلم أن الذين من أهل المدينة حَرَّموا الأنبذة ليسوا بأفضل من الذين أَحَلُّوا النكاح في أَدبارِ النساء، كما استحل قومٌ من أهل مكة عاريةَ الفُروج وحرَّم بعضهم ذبائحَ الزنوج؛ لأنهم — فيما زعموا — مُشوَّهو الخَلْق، ثم حَكَموا بالشاهد واليمين خلافًا لظاهر التنزيل. وأهل المدينة وإن كانوا جلدوا على الريح الخفي فقد جلدوا على حمل الزق الفارغ؛ لأنهم زعموا أنه آلة الخمر، حتى قال بعضُ من يُنكِر عليهم: فهلا جلدوا أنفسهم لأنه ليس منهم إلا ومعه آلة الزنا! وكان يجب على هذا المثال أن يُحكَم بمثلِ ذلك على حامل السيف والسكين والسم القاتل في نظائر ذلك؛ لأن هذه كلها آلاتُ القتل …؟!
وبعدُ، فأهل المدينة لم يخرجوا من طبائع الإنس إلى طبع الملائكة، ولو كان كل ما يقولونه حقًّا وصوابًا لجَلَدوا من كان في دار معبد والغريض وابن سريج ودحمان وابن محرز وعلوية وابن جامعِ مخارق، وابن شريك ووكيع وحماد وإبراهيم وجماعة التابعِين والسَّلَف المُتقدمِين؛ لأن هؤلاء — فيما زعموا — كانوا يشربون الأنبذة التي هي عندهم خمر، وأولئك كانوا يعالجون الأغاني التي هي حلٌّ طَلق على نقر العيدان والطنابير والنايات والصنج والزيج والمعازف التي ليست محرمة ولا منهيًّا عن شيء منها، ولو كان ما خالفونا فيه من تحليل الأنبذة وتحريمها كالاختلاف في الأواني وصفاتها وأوزانها واختلاف مخارجها ووجوه مصارفها ومجاريها وما يُدمج ويُوصل منها للحنجرة والحَنَك والنفس واللَّهَوات وتحت اللسان من نغمها، وأي الدساتين أَطربُ وأيها أَصوَب وما يُحفز بالهمز أو يُحرك بالضم، وكالقول بأن الهزج بالبنصر أَطيَب والسريع بالوسطى على الزير أَلَذ، وعلى المُثنَّى والمُصعَّد في لِينٍ أَطرَبُ أم المُحدَّر في الشدة، لَسَهُل ذلك ولسلَّمْنا علمه لمن يدَّعيه ولم نجاذب من يدَّعي دوننا معرفته.
فصل منه: ولهج أصحاب الحديث بحكمٍ لم أَسمَع بمثله في تزييف الرجال وتصحيح الأخبار، وإنما أكثروا في ذلك لِتعلَم حَيْدَهم عن التفتيش ومَيْلَهم عن التنقير وانحِرافَهم عن الإنصاف.
فصل منه: والذي دعاني إلى وضع جميع هذه الأشربة والوقوف على أجناسها وبُلدانها مخافة أن يقع هذا الكتاب عند بعضِ من عساه لا يعرف جميعها ولم يَسمع بذكرها فيَتوهَّم أني في ذِكرِ أجناسهم المُستشنَعة وأنواعها المُبتدَعة كالهاذي بِرُقيةِ العقرب، وإن كان قصدي لذِكرها في صدر الكتاب لِأَقف على حلالها وحرامها وكيف اختلفت الأُمَّة فيها وما سببُ اعتراضِ الشك واستكمانِ الشُّبهة، ولأن أحتج للمُباح وأُعطِيَه حَقَّه، وأكشف أيضًا عن المحظور فأقسم له قِسْطه، فأكون قد سَلَكتُ بالحرام سبيله وبالحلال منهجَه اقتداءً مني بقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ.
وقد كَتبتُ لك — أكرمك الله تعالى — في هذا الكتاب ما فيه الجِزاية والكِفاية، ولو بَسَطتُ القول لوَجدتَه مُتسعًا ولأتاك منه الدهم، وربما كان الإقلال في إيجازٍ أجدى من إكثارٍ يُخاف عليه الملل، فخَلطتُ لك جِدًّا بهَزْل وقرنتُ لك حُجة بمُلْحة، لتَخِف مُؤنة الكِتاب على القارئ وليزيد ذلك في نشاط المُستمِع، فجَعلتُ الهَزْل بعد الجِد جَمامًا، والمُلحة بعد الحُجة مُستراحًا.